مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 31/10/2003

علامة حصول المغفرة في صيام رمضان

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

في الأحاديث التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتلقى منه كثيرٌ من المؤمنين بشائر كبرى، ولكنهم لا يعلمون الأبعاد والمعاني العميقة التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الأحاديث، فيُخطئون في فهمها، وبدلاً من أن تكون لهذه الأحاديث في نفوسهم آثار الانتشال من وهدة الضياع إلى صعيد الاستقامة على صراط الله عز وجل تفعل هذه الأحاديث في حياتهم نقيض ذلك.

من ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه[. ومن ذلك الحديث الصحيح الذي يقول فيه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: )من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه[.

كثيرون هم الذين يجدون في مثل هذين الحديثين أنشودتهم الضالة، يكون الواحد منهم قد تحمل أعباءً ثقيلة من الأوزار يجد في صومه لشهر رمضان ما ينجيه من هذه الأثقال كلها، ويجد في توجهه إلى بيت الله الحرام حاجاً ما يعود به إلى اليوم الذي ولدته فيه أمه نقياً عن سائر الأوزار طاهراً عن سائر الآثام، فإذا وجد نفسه قد اقترف مرةً أخرى مثل تلك الأثقال والأوزار، وجد العلاج ينتظره فشهر رمضان قادم وموسم الحج إلى بيت الله الحرام أيضاً قادم. وهكذا يطمئن بالاً إلى أن المعاصي لن تحجبه عن الله عز وجل لأنه يستطيع أن يصوم رمضان وإذا بالمعاصي كلها قد غابت وزالت وعاد طاهراً مطهراً من سائر الأوزار.

أيها الإخوة أين مكان الخطأ في فهم الأحاديث على هذا النحو؟

مكان الخطأ هو ما قد يتصوره أحدنا أن الطاعات التي هي كالصوم والحج إلى بيت الله الحرام وأداء الفرائض، هذه الطاعات هي التي تفتح للإنسان السبيل إلى مرضاة الله وتغلق السبيل بينه وبين سخط الله عز وجل، والأمر ليس كذلك، الطاعات ثمراتٌ للسر الذي هو الموصل إلى الله. والسر الذي يوصل العبد إلى الله إيمانه، يقينه الجاثم بين جوانحه والذي عبر عنه البيان الإلهي بالكلمة الطيبة: )مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا[.

هذه الكلمة التي عبر بها البيان الإلهي عن العقيدة وعن الإيمان الذي ينبغي أن يكون جاثماً بين الجوانح هو السر الذي يضع في الطاعة روحها ويضع في العبادات معنى قبول الله سبحانه وتعالى.

ومن ملأ حياته كلها طاعات وعبادات وصياماً وحجاً ونسكا ولكنه عندما رحل إلى الله رحل وإيمانه غائب، رحل وعقيدته بالله عز وجل قد دخلها زيغ أو ريبٌ أو شك فإن طاعاته كلها لا تفيده. هذه الحقيقة ينبغي أن نعلمها. بماذا نعود لكي ندرك معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: )من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[. معنى هذا الكلام أنك بصيامك لرمضان بهذه الطاعة التي أحرزتها طهرت بيتك الذي كان مغبراً والذي كان تراكمت عليه الأتربة، والآن وقد عادت دارك نقية نظيفة ما الذي يُطلب منك؟ يُطلب منك أن ترعى دارك هذه عن أن يتسرب إليها الغبار مرة أخرى، عن أن تتراكم عليها الأتربة والأقذار من هنا وهناك مرة ثانية، المطلوب منك أن تغلق النوافذ وأن تكون حارساً على دارك التي تعبت في تنظيفها وتطهيرها من الدنس، أما إن فرحت بأن الدار قد نظفت وأن الأتربة والغبار والأقذار كل ذلك قد غاب وعادت الدار تتألق ثم أهملت الدار فلسوف تعود إليها بعد حينٍ وهي أسوء مما كانت عليه.

أكرمك الله بصحيفة بيضاء، بعد أن خرج شهر رمضان، ما الذي ينبغي أن تفعله؟ ينبغي أن ترعى هذه الصحيفة البيضاء أن لا تسود مرة ثانية، فكيف السبيل إلى ذلك؟ السبيل إلى ذلك أن تمتن يقينك بالله، السبيل إلى ذلك أن تغذي عقيدتك الإيمانية الكامنة بين جوانحك. هذا هو السبيل إلى ذلك. وكيف السبيل إلى أن تغذي معتقدك؟ كيف السبيل إلى أن لا يتسرب ريبٌ وشكٌ إلى إيمانك بالله عز وجل؟ سبيل ذلك أن تكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى، ذكرك لله هو الحصن الذي يقي صحائفك البيضاء من أن يعود فيتسرب إليها السواد.

ومن ترك قلبه لوساوس الشياطين فحجب عن الله عز وجل وذكره، لن تنفعه الطاعات ولن ينفعه صيام جديد لشهر رمضان، ولعلكم لم تقفوا أمام معنى قول الله عز وجل: )وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[ عندما يُغفل الله قلب الإنسان عن ذكره يتبع هواه، ثمرة ذلك اتباع الهوى ويصبح أمره بعد ذلك فرطا.

يقول قائل - وقد قيل: ها أنا ذا أتمتع بمعتقدٍ قويٍ لا ريب فيه جاثم في قلبي وأنا لا أشك ولا أرتاب في إيماني بالله سبحانه وتعالى وقد تطهرت من الأدران بصوم رمضان، فأنا مطمأن البال. نقول له: )فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[. من أين يأتي مكر الله؟

ليست العبرة يا هذا بالساعات التي تتقلب فيها بنعيمك وبرغد عيشك وأنت مطمأن البال تعود إلى معتقدك الإيماني فتجده جاثماً بين جوانحك وتجد الدلائل على وحدانية الله ووجوده وعظمته تطوف برأسك وذهنك، ليست العبرة في هذه الساعات التي تمر بها، وإنما العبرة عندما تمتد على فراش الموت وعندما يأتيك نذير الموت وتبدأ عملية استخراج الروح من جسدك، السكرات هنالك العبرة بوجود المعتقد أو زواله.

أيها الإخوة ما الذي يجعل إيمان الإنسان يظل مكلوءً بعناية بالغة من الله عز وجل؟ ليس الذي يجعل هذا الإيمان مكلوءً بعناية الله أنه قام ليلة القدر فغفر له فاطمأن بالاً أبداً، وليس السر في أنه حج إلى بيت الله الحرام واطمأن بالاً إلى أنه رجع كيوم ولدته أمه، لا السر أن تغذي إيمانك هذا يوماً بعد يوم بعد يوم بمزيدٍ من تعظيم الله، بمزيد من مراقبة الله، بمزيد من الخوف من الله، بمزيد من ذكر الله سبحانه وتعالى آناء الله وأطراف النهار.

عندما يتغذى إيمانك يوماً بعد يوم بعد يوم يأتيك الموت وهو قوي، يأتيك الموت وإيمانك قد تلقى غذاءه الكافي، فلو أن الشيطان ولو أن آلام الموت وسكرات الموت كل ذلك أراد أن يحجزك عن إيمانك فلسوف يبقى إيمانك مهيمناً على مشاعرك أجمع، ولسوف ترحل عن هذه الدنيا وأنت تقول منتشياً: لا إله إلا الله، ولكن إذا كنت تركن إلى يقينك بأن إيمانك جاثم بين جوانحك وأن صحائفك ابيضت لصومك شهر رمضان أو لقيامك ليلة القدر واطمأننت بالاً على هذا، فلم تلتفت إلى الغذاء الذي يحتاج إليه إيمانك، لن تلتفت إلى القوة التي ينبغي أن تمد بها إيمانك القلبي بالله سبحانه وتعالى فما الذي يحدث؟

الذي يحدث أن مشاعر الرغائب والأهواء ومحبة الشهوات، محبة الدنيا التي تتسرب شيئاً فشيئاً إلى فؤادك وهي التي تُضيق مجال الإيمان من قلبك؛ يأتيك الموت وفؤادك ممتلؤٌ برغائبك، بشهواتك، بمالك، بوظيفتك، بالناس الذين تحبهم، بأقاربك، بفكرك عن أولئك الذين تحقد عليهم والذين مرت فترة وبينك وبينهم عداوة، يأتيك الموت وقد ظهرت هذه المشاعر كلها على سطح تفكيرك وهيمنت على كيانك، أما الإيمان الذي لم تغذه، أما الإيمان الضعيف الذي لم يأخذ حاجته التي يحتاج إليها ليتمتع بالقوة فلسوف يكون هزيلاً ضعيفاً تلتفت وإذا بالإيمان قد غاب عن بالك؛ الإنسان عندما يقع في سكرات الموت عقله الباطن هو الذي يستيقظ ويتجلى في كيانه، أما عقله السطحي الذي يفكر به والمسائل التي كان يضعها على السطح من مشاعره وأفكاره فإنها تتطاير من شدة الألم، لا يتذكر في تلك الساعة إيمانه ولا يتذكر في تلك الساعة ربه، ولكنه يتذكر دنياه التي كان يغذيها، يتذكر شهواته التي كان يرعاها.

ألم تذكروا في يومٍ من الأيام أنكم جلستم إلى جانب إنسانٍ يجود بنفسه بماذا يهتف؟ ألا تذكرون أن فلاناً كان يهتف بصندوقه وما فيه من مدخرات وأن فلاناً كان يهتف باسم فلانٍ أو فلانة التي بينها أو بينه وبينه من الولاء ما فيه. ألا تذكرون أن فلاناً رحل عن هذه الدنيا وهو يتحدث عن تجارته والأموال التي له عند فلانٍ وفلانٍ من الناس يُذكر بالله فلا يتذكر، وقد كان يصوم رمضان، وقد كان يستذكر بكلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يرحل هذا الإنسان وقد ترك إيمانه وراءه في دويرة أهله ورحل وهو مثقل بشهواته، بأهوائه وأوزاره والعبرة بخواتيم الأمور، ليست العبرة بما يتقلب فيه الإنسان ما بين رغد عيش وما بين ابتلاءٍ ونحو ذلك.

هذا المعنى ينبغي أن تدركوه جيداً وينبغي أن لا تدعو الشيطان يفسر لكم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلاف ما أراده المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم إنني أقول لكم إن الإنسان الذي غفر الله له ذنوبه لابد أن يجد نفسه متجهاً إلى الله، ولابد أن يجد أن سيره إلى المحرمات وسيره إلى الأمور التي حذره الله سبحانه وتعالى منها مغلقة، سيجد أن قلبه قد انشرح إلى التوجه إلى الله وأن نفسه أصبحت تكره ما كانت تعانقه من الأهواء والشهوات، )فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ[ فلا يقولن قائل: ها أنا ذا صمت رمضان فلأعد إلى ما كنت فيه، هذا الشعور الذي يساوره دليلٌ على أنه ليس ممن قام رمضان إيماناً واحتساباً.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حسن الإنابة إلى الله في هذا الشهر المبارك، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق العالم الإسلامي أجمع أن يتلاقى قادةً وشعوباً على مائدة الإكرام الإلهي في هذا الشهر وأسأله سبحانه أن يلهمنا جميعاً توبةً صادقةً نصوحاً لله سبحانه وتعالى.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة