مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 24/10/2003

رمضان شهر النصر .. ولكن؟!

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.




أمّا بعدُ فيا عباد الله ..



روى ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي في سننه بسندٍ صحيح من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يومٍ من شعبان، أقول ولعله كان في مثل هذا اليوم فقال: )أيها الناس قد أظلكم شهرٌ عظيمٌ مبارك، شهرٌ فيه ليلةٌ هي خير من ألف شهر، شهرٌ جعل الله صيامه فريضة وجعل قيام ليله تطوعا من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن تقرب فيه بفريضةٍ كان كمن أدى سبعين فريضةً فيما سواه هو شهر الصبر والصبر جزاؤه الجنة، هو شهر المواساة تزداد فيه الأرزاق من فطر صائماً فيه كان مغفرةً له من ذنوبه وكان له مثل أجر عمله لا ينقصه من ذلك شيء(.



هذا بعض ما قاله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في خطبة له في مثل هذا اليوم، في أواخر شهر شعبان. ومن الجدير أن نتخيل أنفسنا في ذلك اليوم وأن نعود إلى تلك الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بين ظهراني أصحابه، ينصحهم ويوصيهم ويذكرهم، هذه فقرات من خطابه في ذلك اليوم - أي في مثل هذا اليوم. ومن الجدير بنا أن نتخيل أنفسنا جالسين مع أصحابه رضوان الله عليهم ونحن نصغي إلى كلماته هذه بين يدي شهر رمضان المبارك، وجديرٌ بنا أن نتفاعل مع كلماته تماماً كما تفاعل أصحابه رضوان الله عليهم، كان إذا أقبل هذا الشهر كأنما يُخلق الواحد منهم خلقاً جديداً، يُقبل إلى الله سبحانه وتعالى بكل شراشره يتوب من كل ما قد يتخيله تقصيراً أو سهواً أو خطأً ارتكبه في جنب الله سبحانه وتعالى، يقف وقته كله ليله ونهاره على استنزال رضوان الله سبحانه وتعالى؛ نهاره صائم الصوم الذي يرضي الله، وليله قائم القيام الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، وتشيع فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض معاني الألفة ومعاني المساواة والمواساة كما قال المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم )فيه تفتح أبواب الجنان وفيه تغلق أبواب النيران(.



ما أحرى بنا نحن المسلمين اليوم أن نتخيل أنفسنا ونحن نجلس مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونتلقى معهم منه صلى الله عليه وسلم هذه المواعظ في خطبته الجامعة تلك؛ سيما ونحن نعاني من آلامنا الممضة التي تعرفونها جميعاً، ونحن نعاني من مصائبنا التي أحدقت بنا والتي طوق بلاؤها أو كاد أن يطبق على خناقنا، نحن بأمس الحاجة إلى أن نجد متنفساً من هذا البلاء الذي كاد أن يطبق علينا، وخير متنفسٍ إنما هو هذه الفرصة السانحة والمتمثلة في عودة هذا الشهر المبارك إلينا.



وأنا لا أعني بهذا الذي أقول ما قد يتخيله أو يتصوره بعض التائهين من عباد الله عز وجل كلما ذكرناهم بالالتجاء إلى الله، لا أقصد ما يتخيلونه من أن علينا أن ننفض أيدينا عن الاستعداد وأن نندبر عن العدة التي أمرنا الله سبحانه وتعالى باتخاذها، لكنني ألفت النظر إلى المعنى الذي لفت إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم أنظارنا وأنظار أصحابه، أريد أن نعلم جميعاً وأريد أن يعلم قادة المسلمين في مقدمة المسلمين أن كل ما يمكن أن يدخره المسلمون من عدد وأن كل ما يمكن أن يجمعونه من الوسائل المادية المختلفة على الرغم من ضرورتها وعلى الرغم من أهميتها ووجوب عدم التساهل في أمرها، فإن ذلك كله لا يغني عن المسلمين أي غناء ما لم يتمثل هذا المعنى الذي يقوله المصطفى صلى الله عليه وسلم وما لم يعودوا إلى مولاهم وخالقهم عوداً حميداً ما لم يعودوا بالتوبة و الإنابة أولاً، ثم بالعزم على السير إلى الله سبحانه وتعالى على صراطه المستقيم ثانياً، ثم أن يلتجؤوا إلى الله عز وجل بانكسار وبذلٍ رابعاً.



كل ما يمكن أن يتخذوه من العدد والوسائل المادية المختلفة التي يتخذها أعداء المسلمين لا يجدي على المسلمين شيئاً إلا إذا توّج بهذا الأمر الذي أقول لكم فإذا توج بالتوبة النصوح وبالعودة السليمة الحقيقية إلى الله فإن هذه العدد والوسائل المادية تفعل فعلها العظيم آنذاك.



ما الذي ينقصنا أو ما الذي ينقص العالم الإسلامي اليوم أيها الإخوة لكي ينصرهم الله سبحانه وتعالى وينتشلهم من وهدة الذل التي وقعوا فيها؟



الذي ينقصهم هو هذا الالتجاء وهذا التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، الذي ينقصهم هو الانكسار على أعتاب الله عز وجل لا سيما عندما تقبل هذه الفرصة الذهبية التي تطل علينا في كل عام مرة - فرصة هذا الشهر المبارك؛ هو شهر النصر .. هو شهر التأييد الرباني لعباده .. فإذا أقبل المسلمون إلى الله عز وجل فيه بصدق وكان في مقدمة المقبلين إلى الله عز وجل فيه قادة المسلمين وحكامهم والبطانة التي تدور من حولهم، إذا التجأوا إلى الله بصدق وتابوا من الآثام والذنوب التي يتعرض لها المسلمون جميعاً في كل آن، فإن الله عز وجل ينتشلهم من وهدة هذا الذل.



العدد المادية موفورة لدى المسلمين، والوسائل التي بها يتغلب بها العدو الشرس على المسلمين موجودة عند المسلمين أيضاً ولكنها لا تفعل شيئاً، لكنها جامدة معطلة فهل تساءلتم لماذا هي معطلة؟ لأن هذه الوسائل لن تفعل فعلها إلا إذا سرت الروح التي لابد منها في هذه الوسائل، وروح هذه الوسائل والعدد إنما تتمثل في شيء واحد: في الالتجاء إلى الله، في صدق العبودية مع الله عز وجل عندئذٍ تفعل هذه الأجهزة وهذه الوسائل والعدة فعلها.



قالوا: إن العالم الإسلامي وفي مقدمته العالم العربي يعاني من فقرٍ وضنك. كذبوا ...



ليس في العالم كله من هو أغنى من العالم العربي والإسلامي، أرضه صندوقٌ للكنوز والمدخرات الكثيرة، ولقد متع الله سبحانه وتعالى هذا العالم بأضعاف ما متع به الآخرين، ولكن العجب العجاب أنهم مع ذلك يظهرون وكأنهم فقراء وكأنهم لا يملكون شيئاً.



العلم مغروس في رؤوسهم، والعلماء الذين يمكن أن يتباهى بهم العالم لا يكادوا يُحصون فيما بينهم والقوة المادية بكل أصنافها موجودة فيما بينهم، ولكن مع ذلك لدى النظرة الأولى يبدو أن هذ العالم مجرد عن كل ما يمكن أن يعتبره الإنسان متاعاً، عدةً، مالاً، أجهزةً، يبدو لأول وهلة أنه فقير إلى ذلك كله وما هو بفقير، ولكن الأمر كما قد قلت لكم، قضى الله سبحانه وتعالى أن لا ينتصر المسلمون اعتماداً على الأجهزة التي يعتمدها أعداءهم، تلك هي سنة رب العالمين على الرغم من أن الله أمرهم بالاعتماد عليها فقال: )وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ(.



ولكن لو أن المسلمين استعانوا بهذه العدد وتوافرت لديهم أضعفها وجمعوها جميعاً وهم معرضون عن الالتجاء إلى الله، فلا يمكن أن ينصرهم الله، لا يمكن أن ينتصر لهم الله عز وجل، هكذا آل ربنا سبحانه وتعالى على ذاته العلية.



والمسلمون اليوم أو جل المسلمون اليوم معرضون عن الله عز وجل، يتعاملون معه كما كان المنافقون في صدر الإسلام يتعاملون مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، يجملون ألسنتهم بألفاظ الإسلام ويجملون حركاتهم وأعضاؤهم ببعض من عبادات الإسلام، ولكن قلوبهم منطوية على نقيض ذلك. جل المسلمين اليوم هذا شأنهم وهكذا يتعاملون مع الله سبحانه وتعالى، لاسيما قادة المسلمين.



من جراء ذلك حاق بنا هذا الذي حاق، بل رأينا أنفسنا أمام هذه المفارقة، أما الغنى فموفور وأما المال فكثير، وأما العلم فوفير وكل ذلك لا يغني عن المسلمين شيئاً، لأن الروح التي ينبغي أن تسري في ذلك كله غير موجودة، واليوم وقد أطل علينا هذا الشهر الذي نبه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهميته في مثل هذا اليوم، نعود لنتذكر هذا الذي قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم ولنعود إلى أنفسنا والمواقع التي نتحرك فيها أو التي نراوح فيها في أماكننا، نقول لأنفسنا ونقول لإخواننا ولكل من يمكن أن يبلغهم كلامنا، وليت أن هذا الكلام أو بعضه يطرق أسماع قادة المسلمين الذين غدوا هم الحجاب الذي يحجب المسلمين عن نصر الله سبحانه وتعالى، أقول لأنفسنا ولهم جميعاً: ها هو ذا قد أطلت عليكم هذه الفرصة العظيمة المباركة مرة أخرى فهل لكم أن تعودا إلى الله عوداً حميداً؟ هل لكم أن تخلعوا ربقة هذا العصيان .. هذا النسيان .. هذا الإعراض عن الله سبحانه وتعالى، وأن تتجردوا من هذا الذي حجبنا وحجبكم عن الله سبحانه وتعالى ثم تؤوبوا إلى الله أوبة حميمة من خلال توبة صادقة؟ وربنا سبحانه وتعالى يدعونا دائماً إلى التوبة: )وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا( جميعاً سواءٌ الذي يرى نفسه عاصياً أو الذي يرى نفسه معصوماً عن المعصية )وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(



هل لكم أن تؤوبوا إلى الله فتصدقوا في التوبة له؟ ثم هل لكم أن تقفوا أمام باب كرمه بانكسار حقيقي؟ هل لكم أن تتراموا على أعتاب لطفه ومغفرته بانكسار ومسكنة وصدق؟ لا أن تجعلوا من المسكنة هالة تتجملون بها في الحفلات وبين إخوانكم لا هل لكم أن تجعلوا المسكنة تنبثق من أفئدتكم، من دخائل نفوسكم؟ هل لكم أن تقولوا لمولاكم بصدق ها نحن قد عدنا إليك وها نحن قد تبنا إليك فاقبل اللهم توبتنا وأقبل اللهم رجوعنا وصدق التفافتنا إليك؟ هل لكم أن تصطلحوا معه فتعاهدوه على أن تلتزموا أوامره جهد الاستطاعة وأن تبتعدوا عن نواهيه جهد الاستطاعة وأن تتعاونوا على البر والتقوى ولا تتعاونوا على الإثم والعدوان ..



أما إنكم إن فعلتم ذلك فلسوف ينصركم الله نصراً مؤزراً ولسوف يكرمكم بخوارق النصر، وأنا بذلك ضمين، وأنا بذلك زعيم، أما إن كنتم تصرون على أن تظلوا عاكفين على ما أنتم عاكفون عليه من الإعراض عن مولاكم وخالقكم من التناسي لهوياتكم، من الاستكبار على عبوديتكم لله سبحانه وتعالى، فالذي أعرفه من سنن رب العالمين أن هذا نذير سوء، أن هذا نذير سوء لكم، وأن هذا يعني أنكم ستنتقلون من وهدة ذلٍ إلى وهدةٍ ذل شر منها، ولسوف تنتقلون منها إلى أسوء من ذلك كله تلك هي سنة رب العالمين.



ذلك لأنكم إنما انتصرتم في يوم من الأيام وملكتم ما ملكتموه مما ملككم الله إياه واعتززتم بالحضارة التي تتحدثون عنها إنما انتصرتم وتملكتم ذلك كله عن طريق الإسلام، أما وإنكم اليوم قد تنكرتم لهذا الإسلام وأعرضتم عنه وأصبحت علاقتكم به علاقة استخفاف كما تعرفون، فلا بد أن تخسروا النعمة التي جاءتكم عن طريق الإسلام، وبعد ذلك تستطيعون أن تستردوا ما تشاؤون لكن لا عن طريق الإسلام، وإنما عن طريق قدراتكم ومهاراتكم وعن طريق حيلكم، عندئذٍ لابد أن تتنكبوا هذا النهج وأن تسيروا وراء النهج الذي يسلكه أعداؤكم.



تلك هي خلاصة لسنة رب العالمين سبحانه وتعالى في عباده.



شهر رمضان ينادي أيها الإخوة العالم العربي والإسلامي أجمع ألا فأقبلوا إلى سر الانتصار الكامن في ليال هذا الشهر وأيامه، ألا أقبلوا إن كنتم صادقين في أنكم تنشدون النصر، النصر مفاتيحه مودعة لدي أما إن أعرضتم عن هذه الفرصة فقولوها قولوا إنكم تعودتم على الذل وأصبحتم تنتشون بالمهانة. وصدق من قال:



دع المكارم لا ترحل لبغيتها .... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي



قالوا: إن هذا أهجى بيت نطق به العرب في باب الهجاء.



وأنا أقول: والله لا يستهل هذا الهجاء اليوم إلا الأمة العربية والإسلامية بهذا الذي فعلت به نفسها ولذلك يصدق ذلك البيت عليها، ولقد قلته وقلت ذلك مرة أخرى وإن كان في العلماء من كره الاستشهاد بالشعر في مثل هذه المواقف.



أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .    

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة