مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 17/10/2003

الفتن حصاد المنافقين

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


لا شك أن الشغل الشاغل اليوم للعالم الإسلامي بل لكثير من أصقاع العالم كله يتمثل في هذا الغزو السافر للإسلام والمسلمين، والذي نراه بشراسةٍ لم يعهد التاريخ من قبل مثلها، غزوٌ سافر بوقاحة عجيبةٍ لم نجد في التاريخ وقاحةً تمثل الغزو ضد الإسلام بمثلها. ولكن هل هذه هي المصيبة الكبرى التي ينبغي أن تشغل بال المسلمين؟


نخطئٌ أيها الإخوة إذا تصورنا أن المصيبة هي هذا الخطر الذي يطوف بالإسلام أو الذي يتجه إلى المسلمين ذلك، لأن الإسلام لم يصاب بأي أذى ولأن الكافر الباغي مهما حاول أن ينال من الإسلام منالاً فإن الدائرة في العاقبة إنما تدور عليه. هكذا أرانا التاريخ في وقائعه وهكذا يعد البيان الإلهي في كتابه المبين وكلام الله عز وجل صدقٌ لا يلحقه خُلف. ألم يقل عز وجل في محكم تبيانه: )قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ[ ؟ ألم يقل مولانا جل جلاله في محكم تبيانه: )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ[ ؟ ونحن مؤمنون بكلام الله عز وجل ونحن ممن يعقل ويقطف العبر من  التاريخ القريب والبعيد، إذاً فالمصيبة في هذا الذي يشغل بال العالم كله لا يتمثل في خطرٍ يحيق بالإسلام، إنما المصيبة تكمن في شيء آخر، المصيبة تكمن في العاقبة التي ينتظرها العالم العربي والإسلامي.


انتصار الإسلام وهزيمة الكفر والطغيان لايعنيان دائماً أن المسلمين هم الفائزون، ولعلنا يجب أن نعلم هذه الحقيقة في هذا المنعطف التاريخي الذي نمر به، أما أن ينتصر البغي على الإسلام فهذا من المستحيل لما قد سمعتم الآن من الوعد الذي قطعه الله عز وجل على ذاته العليّة، وأما أن تكون هزيمة البغي ترجمةً لانتصار العالم العربي والإسلامي اليوم فلا، وتلك هي المصيبة.


إن الله سبحانه وتعالى عندما يسلط بغي البغاة وطغيان الطغاة على عباده المسلمين له في ذلك أكثر من حكمة، من الحكم التي قضى الله عز وجل بها أن ينتصر المسلمون على بغي الباغين وعلى كيد المعتدين على الإسلام وذلك عندما يكون المسلمون أوفياء بالعهد صادقين مع الله ملتزمين بأوامره. ولكن من الحكم أيضاً التي تبعث على تسليط طغيان الطغاة على المسلمين في ديارهم أن الله عز وجل يريد أن يميز بذلك الخبيث من الطيب، ولقد صدق من قال: إن الفتن في حصاد المنافقين، وإن لم يكن هذا حديثاً ولكنه كلام دقيق وصحيح.


كثيراً ما تكون الفتن التي يجعل الله عز وجل هزةً تعتري العالم العربي والإسلامي متجهةً إلى حكمةٍ جليلةٍ وخطيرة هي أن يميز الله عز وجل الخبيث الذي يغطي نفسه بالإسلام ويغطي نفسه بشعارات الدين ويتباهى بانتمائه التراثي إلى التاريخ الإسلامي، ينبغي أن تُكشف الأقنعة عن هؤلاء الناس، كيف تُكشف؟ ببغيٍ يسلطه الله عز وجل على المسلمين، بفتنةٍ كهذه الفتنة تنبعث من طغيان الطغاة ومن عدوان المعتدين على الإسلام. ترى عندما ينجلي الغبار وتحيق الهزيمة التي ستحيق بطغيان الطغاة أياً كانوا ومن أي جهةٍ جاؤوا، ما مصير العالم العربي والإسلامي وأنتم ترون كيف أن هذه الفتنة فعلاً ميزت وأبرزت وفرقت، فرقت الخبيث الكثير الكثير عن الطيب القليل القليل. واسمعوا بيان الله بعد الآية التي تلوتها عليكم: )لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[. متى كان هذا الكلام؟ بعد قوله سبحانه )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ[ ما الحكمة يا رب من تسليطك الكفار وقد قضيت أن يُغلبوا وأن تحيق بهم الهزيمة؟ ما الحكمة من تسليطك الكفار على المسلمين؟ جاء الجواب )لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ[ في حالة الطمأنينة والأمن لا يفترق خبيث عن طيب. عندما تكون الرزايا بعيدة وعندما تكون المصائب مفقودة ما الذي يبرز صدق المسلم الصادق في إسلامه ونفاق المنافق الكاذب في إسلامه؟ لا شيء، لكن عندما يطل عدو شرس برأسه وبقواه وبطغيانه على العالم العربي والإسلامي تظهر الحقائق ويمتاز الخبيث من الطيب.


أما الخبيث فيعلن عن عجزه ويعلن عن ضعفه واستكانته بل يعلن عن تبعيته أيضا. وأما الطيب فيعلن وإنها لفرصةٌ ذهبية بالنسبة له يعلن عن رسوخه في قدم البيعة مع الله سبحانه وتعالى، يعلن عن ثباته على تربة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، يعلن عن صبره ومصابرته، يعلن عن ثباته في ساحة الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، يعلن عن تضحيته بكل شيء في سبيل أن تمتد جسور الألفة والمودة والوحدة بينه وبين إخوانه المسلمين ليجتمعوا جميعاً في خندق واحد ضد هذا البغي الذي جاء يبتغي الإسلام ويبتغي القضاء عليه.


وانظروا أيها الإخوة معنى هذه الآية الكريمة العجيبة في عصرنا اليوم. أما العدو فيحيط بنا من سائر الجوانب، وأما الهدف فلم يبق لا جاهلٌ ولا عالمٌ ولا غبيٌ يجهل أن القصد إنما هو القضاء على الإسلام، وكل ما قيل إنما كان ذرائع ووسائل للوصول إلى هذا الهدف. لكن ما الموقف الذي اتخذه العالم العربي والإسلامي؟ تجلى الكثير الكثير مما فاجئ المسلمين، تبعيات لم تكن واضحة ووضحت اليوم، خنوعٌ وخضوع كانا غائبين وظهرت رائحته النتنة اليوم، واستسلام بلغات وبترجمات شتى لم يكن جلياً قبل اليوم وتجلى، وقلة من المؤمنين الثابتين، الثابتين على العهد الصادقين مع الله سبحانه وتعالى ينادون ويهتفون ويذكرون ويعلنون عن استعدادهم بالتضحية بكل شيء في سبيل الدفاع عن دين الله، في سبيل تحقيق ما عاهدوا الله سبحانه وتعالى عليه. أرأيتم كيف يمتاز في ضرام هذه الفتنة الخبيث من الطيب، )لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ[؟ المصيبة هذه هي أيها الإخوة.


ترى إذا انجلى الغبار وحاقت الهزيمة وستحيق .. ما مآل العالم العربي والإسلامي إن بقي على هذه الحالة من عدم الصدق مع الله، من التذبذب بين يمين وشمال بعيدين عن صراط الله؟، إن بقي على هذه الحالة من ركونه إلى الفرقة واصراره على التشتت وصدع الخط الإسلامي الواحد فلسوف ينزع الله سبحانه وتعالى البقية الباقية من الشرف الذي توج به كيان هذه الأمة، وإنكم لتقرأون في هذا قول الله سبحانه: )وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم[.


ومعنى قوله عز وجل )يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ[ أن كل المزايا التي أكرمت هذه الأمة ستتقلص عنهم، فلا الأرض التي قضى الله عز وجل أن تكون كنزاً للمدخرات والخيرات تقدر لها تبقى أرضاً لهم، ولا العزة الحضارية التي متعهم الله بها ولا يزالون ينتشون بطيفٍ من أطيافها لن تبق لهم، ولسوف يتحولون إلى فقرٍ بل إلى أسوء مظاهر الفقر في الدنيا وإلى أسوء مظاهر التخلف الحضاري، تطبيقاً لقوله سبحانه )وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم[.


وها نحن نلاحظ المنحدر الذي تنحدر فيه الأمة العربية والإسلامية اليوم ولا ندري إلى أي مدى سيكون الانحدار، ولا ندري أي واد ينتظر هؤلاء الذين لا يزالون يمعنون في النفاق الذي يظهر الإسلام باللسان ويظهر نقيض ذلك بالسلوك والجنان. الذين لا يزالون يعانقون الفرقة والشتات ويتناسون أمر الله عز وجل في الاتحاد، لا ندري عند أي وادٍ سحيق سيقف بهم هذا الانحدار؟ هذه هي المصيبة أيها الإخوة.


وإنني كلما سمعت ما يمكن أن يهز كثيراً من الناس أخبار الطغيان والغزو والظلم الذي يحيق بالمسلمين هنا وهناك، ليس الذي يشغل بالي أن الطغيان سينتصر لا والله الذي لا إله إلا هو، الطغيان لن ينتصر ولكن الذي يشغل بالي مصير هذه الحفنة من المسلمين الذين أعرضوا عن العهد وتناسوا الأمر الرباني ووضعوا بيان الله وراءهم ظهرياً وأخذوا يمضغون منه كلمات في مناسبات أو حفلات أو إعلاناً عن شعارات كما تعلمون أيها الإخوة، هذا هو الذي يشغل بالي، مآل المسلمين الذين لم يعودوا صادقين مع الله والذين لم يعودوا ثابتين على العهد الذي أخذه الله سبحانه وتعالى عليهم.


وآية ذلك أيها الإخوة أن الوحدة هدف مقدس عند المؤمنين وعند التائهين وعند الملحدين وعند أشتات الناس جميعاً وعند فلسفة الفلاسفة جمعاء. من ذا الذي لا يقدس وحدة الجماعة؟ من ذا الذي يجهل أن كل أنواع القوة إنما تنبع من مشرق وحدتها ومن الذي يجهل أن كل أنواع الضعف إنما يتأتى من مغرب وحدتها؟ من الذي يجهل ذلك؟ ومع ذلك فأنتم ترون أن أشد الناس عشقاً للفرقة أمتنا العربية والإسلامية، أشد الناس كراهية ًلاستماع الكلمة ولم الشمل هي أمتنا العربية والإسلامية وإنكم لتلاحظون هذا ترى ما السبب؟ السبب قضاء الله سبحانه وتعالى، لما غاب الصدق مع الله في الإسلام الذي يهتفون به ولما آثروا السبل الأخرى التي حذرهم الله منها عندما قال: )وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ[، عندما رأى الله عز وجل منهم هذا ابتلاهم بعشق ما يضرهم، ابتلاهم بحكة جرب الفرقة، إنها حكة تلذ لهم، تلذ لهم.


ويا عجباً ما تأويل ذلك؟ ولا والله ليس له من تأويل إلا هذا الذي أقوله لكم. أما الإسلام فهو في أمان، أما الإسلام أيها الإخوة فهو في قمة لا يمكن أن يبلغها ليسيء إليه أي من بغي البغاة ومهما تكاثر الطغيان ومهما تراكم بعضه على بعض فمآله إلى ما قال الله: )قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ[ وعندما يكون حال المسلمين والأمة العربية بوابة لها على هذه الشاكلة وعندما يسمع القادة النصح تلو النصح تلو النصح في كل مناسبة فلا يزدادون إلا عكوفاً على شرودهم وتيههم ولا يزدادون إلا عناقاً لآمال الفرقة والشتات، فإن الله عز وجل سيرينا مصداق ما وعد. )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ[. هذا الشرف سيفصلنا الله عز وجل منه وسيبعدنا عنه وسيعرينا من شرفه ولسوف يكون الميراث لهذه الفئة الأخرى.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .    

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة