مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 22/08/2003

الخروج من كوارث الأمة هل هذا سبيله؟

الخروج من كوارث الأمة هل هذا سبيله؟


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 22/08/2003


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


كان مما وعيناه وحفظناه في طفولتنا على رحال المكاتب، أو في مقاعد الدرس؛ أو في مجالسنا التي كنا نتلقى التعليم من الأبوين، الحديث المشهور والمعروف الذي يرويه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ﴿مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى﴾. حديثٌ ما أظن أن فيكم من لم يحفظه ولم يتلقه منذ نعومة أظفاره، وهذا الحديث العظيم في مبناه ومعناه لو لم ينطق به المصطفى صلى الله عليه وسلم لدعت إليه القيم الإنسانية، ولو لم تنطق به القيم الإنسانية جمعاء لنادت به النخوة العربية على حد تعبير القوميين الذين اتخذوا من القومية بديلاً. هذا المبدأ مبدأ تخضع له الإنسانية جمعاء، وتهتز له النخوة العربية أيضاً كما قلت لكم. ثم إنه قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك، مبدأ من المبادئ التي أوحى الله عز وجل بها إلى رسوله محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


ونحن ننظر - كما تعلمون - إلى موقع هذا الحديث بل هذا المبدأ الإنساني العربي الإسلامي من حياة المسلمين اليوم، أكاد أقول: إننا لا نجد له أثراً، ولكني أقول اليوم: ليت أن الأمر وقف عند هذا الحد، فالراقد عن القيم، والنائم عن المبادئ وعن تلاعب الأعداء به، أقل بلاءً من ذلك الذي يشغل عن البلاء الداهم الذي يحاصره، وعن العدوان الذي يجرح كرامته ويمرغها في الوحل، ذاك النوم أشرف من هذا الانشغال بما يجعل هذه الأمة تنسى جرحها وتتشاغل عن نزيفها، وتعرض عن هذه الأمة التي تعاني اليوم من حالة الإسعاف. هذه الأمة التي تتطلب وتبحث صباح مساء عن العناية المشددة، أمتنا اليوم لم تعد راقدة فقط عن النهوض لتحقيق هذا المبدأ الإسلامي الإنساني العربي كما قلت لكم، بل هي اليوم تشغل بترهات، تشغل بألاعيب عابثة.


بالأمس راهنت فئة أجنبية وبوسعكم عما قريب من أن تعرفوا، راهنت على أن تستجر أمتنا هذه إلى عبث سخيف، غاية في السخف، ترى هل تستجر؟ ترى هل تنجح في استجرارها؟ راهنت وخططت ونفذت، وإذا بأمتنا اليوم يستخفها العبث، ويستخفها الخداع، ويستخفها الكيد، وننظر إلى أصداء هؤلاء المخططين ونصغي السمع إليها، وإذا بالضحك ملء بطونهم وأفواههم، ومن أراد أن يتعقب صحافة الأمس واليوم فلسوف يرى الكثير والكثير من الهزء بهذه الأمة، استدرجت هذه الأمة إلى أمر: أين هو أجمل صوت يمكن أن تتباهى بها الأمة العربية، لتطرب الآذان منه في السهرات الفنية، وفي الأندية الليلية، لا بدَّ من نهضة على كل المستويات، بحثاً عن هذا الصوت الذي لم تكتشفه الأمة العربية والإسلامية إلى اليوم، تلك هي الخدعة وهذه هي الخطة.


ولقد كان البلاء الأطم أكثر من كل هذا الذي يطوف بنا، إن هذه الخدعة انطلت ونهض الإعلام العربي، ونهضت أقنية عربية فضائية، وتحرك ونشط كثير من الملوك والرؤساء، واجتمعوا وتلاقوا في خندق واحد، وبذلوا الجهد الجهد الحقيقي صباح مساء بل إلى لمعة الفجر، واستثارت هذه الفئات عواطف الشعوب والأهالي، وأخذوا يستجرونهم ويحملونهم على القيام بديمقراطية مقدسة، تعبر فيها الأمة عن ديمقراطيتها، وعلق الناس خلال الأيام التي مرت أنفاسها، وفتحنا أبصارنا وأصغينا بأسماعنا لكي نعلم شيئاً لم نكن نعلمه من قبل، لم تكن إذن الكارثة الكبرى متمثلة في سقوط الأندلس، ولا كانت متمثلة أبدً في سقوط بغداد أيام غزو التتار، ولم تكن متمثلة في الغزو الصليبي لفلسطين، ولا هي متمثلة في هذا الغزو الصهيوني الصليبي الاستعماري للعراق، لا الكارثة الكبرى تتمثل في أن الأمة العربية إلى اليوم لم تستطع أن تكتشف أجمل صوت غنائي تتباهى وتعتز به.


ولكن تحركت أقنية عربية على هذا المستوى، وهكذا جُنِّدَ إعلامٌ عربي، وهكذا اهتم ملوك وبعض الرؤساء في هذا الأمر، وأصغيت بالأمس لأسمع الضحك الجارح بل المميت ممن خططوا، ولأسمع التعليقات التي نشرت في كثير من الصحف الأوربية المختلفة.


أيها الإخوة قال الفقهاء إن الاستشهاد بالشعر في خطب الجمعة خلاف الأولى، وأنا لا أستطيع إلا أن أخترق هذا الأمر فاستشهد بذاك الذي عدّه الشعراء أشدّ كلمة في الهجاء صدرت إلى اليوم:


دع المكارم لا ترحل لبغيتها     واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي


أنا إلى اليوم لا أتصور أن في الناس من يمكن إسقاط هذا الهجاء عليهم بحق، لكن يخيل إلي أن أمتنا اليوم من الممكن إسقاط هذا الهجاء عليها بحق، أجل أيها الإخوة.


وهاج الناس وماجوا، وتحولت المسألة إلى مشاعر قومية، وإلى تنافسات قبلية، وإلى تنافسات دولية، وكان الأمر قد تجاوز هذا الحد أيضاً، كل هذا يتم في أي مرحلة؟ في أي منعطف؟ يتم والنزيف لا ينقطع، والدم القاني الزكي لا يجف، والبرآء يقتلون صباح مساء، تستحيل بيوتهم إلى قبور تخنقهم عن جنوب وشمال، والتهديدات لكرامتنا، لحريتنا، لحقوقنا، لديننا، تتكرر صباح مساء، وتأتينا من شرق وغرب ومن علوّ.


أجل، في هذه المرحلة والجرح ينكأ، الدم الزكي يتدفق، والبرآء يقتلون، والإعلام العربي والأقنية العربية وطائفة من الملوك والحكام حجبوا عن هذا كله، وشغلهم ما هو أعظم، ما هو أهم، بلاء أطم، كيف مرت هذه السنوات كلها وليس في مسرح الفنون ذلك الذي أجمعت الأمة على أنه يتمتع بأجمل صوت أخاذ، أو تلك التي تتمتع بأجمل صوت أخاذ.


أين نحن إذن؟ وأنا أعكس الآن، أين نحن من النخوة العربية؟ وأخاطب القوميين العرب التي تدعو إلى أن يتحسس الإنسان شعور أخيه الإنسان، شعور أخيه الإنسان العربي، أين نحن من المبادئ والقيم الإنسانية؟ أين نحن من المبدأ الذي توج ذلك كله من كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ﴿مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).


إذا لاحظنا اليوم أن العدوان الذي يستشري يفعل فعله، وينشط ذات اليمن وذات الشمال، دون خوف ودون شعور بمغامرة، إذا شعرنا ذلك ينبغي أن نعلم أن المقدمات تقتضي هذه النتائج، أن أمة هذه هي حالها ينطبق عليها ما قاله الشاعر العربي، ينبغي أن تجني هذه الثمار المرة في حياتها، نعم.


وأنا أيها الإخوة أقول لكم، لكي لا يفسر كلامي إنسان يريد أن يدس، فيقول: انظروا إلى الإسلاميين المتطرفين، ينكرون الفن، ينكرون الشيء الطبيعي الذي يشكل دعامة من دعائم الحضارة الإنسانية. أقول: منذ سنوات طويلة والفنون تأخذ حظها في حياتنا العربية والإسلامية كلها، ما حركتُ ساكناً، ولا قلت كلمة استنكار، منذ سنوات طويلة وأجهزة الإعلام تدبج برامجها بالغناء وبالموسيقا، وبكل ما تعرفون، ما قلنا شيئاً، تركنا الأمور تسير على طبيعتها، لكن الأمر اليوم يختلف.


أفإن كان لا بدَّ للفنون أن تأخذ حظها، أفينبغي أن تتخذ الفنون هي الشغل الشاغل للقادة وللإعلام وللوزراء والملوك وللحكام، فيسهروا الليالي الطويلة، ويهتموا الاهتمام العجيب، ويجعلوا من عملهم هذا جهاداً يجتمعون من أجله في خندق واحد؟ أين هذا من موضوع الفن؟ بوسعكم أن تتركوا السواقي الفنية تتحرك كما تشاء، لا تغلقوها، لكن أي منطق هذا الذي يقول لكم: حولوا هذه السواقي إلى طوفان يهلككم؟ أي منطق هذا الذي يقول لكم: تعالوا فدعوا المريض الذي يئن، والذي يحتاج إلى إسعاف، بل يحتاج في أقرب لحظة إلى العناية المشددة، جسم الأمة العربية والإسلامية، ترزح في دمائها وتتخبط في دمائها، أي منطق هذا الذي يقتضيكم أن تُسدلوا حجاباً على هذا البلاء كله، وتتشاغلوا بالبحث عن أجمل صوت، دعوا هذا، دعوا هذا لأصحاب الاختصاص الفني، ولا تجعلوا منه حدثاً، لا تجعلوا منه أحدوثة تضحك عليكم بسببها كثيرٌ من الأقلام الأجنبية، وأي أقلام؟ أقلام لا تعرف الإسلام، تعيش للفن، هذه كلمة لا بدَّ أن تصدر من قلب مصدور، ولا بدَّ أن يشعر بالجرح وأي جرح كل من كان يشعر بمثقال ذرة من الكرامة، من النخوة، من الشعور اللاهب بما عليه حال الإخوة الذين هم جيران لنا من جنوب، أو الذين هم جيران لنا من شمال.


بالأمس، سمعتم الأخبار، بالأمس، ولعلكم ستسمعون اليوم المزيد، بماذا نعالج أيها الإخوة هذه الجراحات الدامية؟ نعالجها بالعثور على أجمل صوت؟ من ذا الذي يقول هذا الكلام؟ أي إنسان يصدق أن هذا هو السبيل، لكل شيء مجاله، كل شيء ينبغي أن يتحرك ويزدهر في مناخه، أنا لست متطرفاً، ولم أكن يوماً متطرفاً، بل ربيت على الإسلام الوسط، الإسلام العدل، الفن يترعرع في مناخه، والبلاء الأطم الذي يجتاحنا ينبغي أن يستأثر باهتمام القادة الملوك الرؤساء، الإعلام، الحكام، الجنود، وينبغي أن يتوج ذلك كله برجعة صحيحة إلى الله سبحانه وتعالى.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 

تحميل



تشغيل

صوتي