مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 01/08/2003

لله في كل فتنة حكمة ماضية ورحمة كاملة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


لقد كان من دأب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يستعيذ دائماً من الفتن وكان يوصي بذلك أصحابه بين الحين والآخر، وكان من دعائه الذي يعلمه أصحابه: )اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا ومن فتنة الممات ومن فتنة المسيح الدجال[، وكان صلى الله عليه وسلم ينبه أصحابه إلى أن يسألوا الله العافية وأن يبتعدوا عن مطارح الفتن والابتلاءات، ولكن إذا وقعت الفتنة أو وقعت مصيبة ما فإن على العبد المؤمن بالله عز وجل أن يرضى بما قد ابتلاه الله سبحانه وتعالى به، بل عليه أن يعلم أن لله سبحانه وتعالى في ذلك حكمة ماضية وأن رحمته سبحانه وتعالى تكمن في ذلك الابتلاء أو تلك المصيبة أو تلك الفتنة التي تطوف بعباد الله المسلمين.



ففرق بين الحالة التي يكون الإنسان فيها معافً ينبغي أن يسأل الله العفو والعافية وما ينبغي أن ينتظر الفتن ويتطلبها، وبين الحالة التي يكون الباري عز وجل قد ابتلى فيها عباده بشيء من المصائب في هذه الحال ينبغي الرضا وينبغي التسليم وينبغي الثقة بأن الله عز وجل حكيم في كل ما يعامل به عباده، وأنه رحيمٌ أيضا بهم في كل الأحوال.


ونحن اليوم نشاهد الفتن المدلهمة التي تطوف بنا والتي تهدد أصقاعاً لم تصل إليها بعد، فما الموقف الذي ينبغي على المسلمين أن يتخذوه وقد حاقت الفتن وظهرت؟ الموقف الذي يجب على المسلمين أن يتخذوه هو أن يعلموا أن الخير في هذا الذي جاءه الله سبحانه وتعالى وأن الفتن التي يبتلي الله عز وجل بها عباده المسلمين والذين لا تزال لهم صلة بالله سبحانه وتعالى، ربما كانت عصي تأديب وربما كانت نقمة في ظاهرها ونعمة في باطنها، بل هي كذلك فعلاً بالنسبة لعباد الله سبحانه وتعالى المؤمنين به والمسلمين له.



إن من فوائد هذه الفتن عندما تقع أنها توقظ الغافلين وأنها تحرر أصحاب العصبيات من عصبياتهم وأنها ترأب الصدع بينها وبين جماعات المسلمين وأنها تجمع الشمل وأنها تدعو إلى تجديد البيعة مع الله سبحانه وتعالى. وهذه الأمور كلها من أجل مظاهر الرحمة الإلهية بعباده وإن جاءت تحتضنها فتن وتحتضنها مصائب ولكن الله عز وجل دائماً يمتن على عباده بنوعين من النعم، ظاهرة وباطنة وصدق الله القائل: )وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً[.



هذه الفتنة التي تتجه إلى عالمنا العربي لا بل إلى العالم الإسلامي أجمع. هذه الفتنة أيها الإخوة تستهدف الجذع الإسلامي الواحد، تستهدف شيئاً واحداً ألا وهو اجتثاث البقية الباقية من إسلام المسلمين وإيمانهم بالله سبحانه وتعالى وتحويل هذه الأرض إلى وعاءٍ قد خلى من الدين الذي كان قد تشرف به خلال القرون المتطاولة من الزمن. وإذا علم المسلمون هذه الحقيقة، إذا أدركوا أن الإسلام وأن جذع الإسلام هو المقصود من هذا الطغيان المستشري الذي جاء من أقصى العالم الغربي إلى هنا وأن الهدف لا يكمن في القضاء على جماعة إسلامية دون غيرها، أو مذهب من المذاهب الإسلامية دون غيره، إذا عرف المسلمون هذا فالمنطق يدعوهم إلى أن يحطموا مما بينهم حواجز الفرقة، حواجز الاختلافات المذهبية، حواجز الفرق والنحل المختلفة التي يحتضنها جذع الإسلام أجمع، المنطق يدعو المسلمين على اختلاف مذاهبهم وعلى اختلاف فرقهم إلى أن يدركوا هذه الحقيقة، ومن ثم فإن من أهم فوائد هذه الفتنة التي حاقت بنا ولو لم تحق بنا لسألنا الله سبحانه وتعالى العفو والعافية.


من أهم فوائدها أنها تنبه المسلمين أجمع إلى أنهم ينبغي أن لا يتذكروا بعد اليوم الفرق ما بين شيعة وسنة وما بين ما يسمون أنفسهم السلفية وما بين ما يسمون أنفسهم بالصوفية ونحو ذلك. هذه الفتنة تدعو أصحاب العقول النيرة وأصحاب المنطق الفعال إلى أن الجماعات الإسلامية الكثيرة المتعددة ينبغي أن تحطم بعد اليوم الفوارق المختلفة فيما بينها وأن تتضافر لتعود إلى الجذع الإسلامي الواحد، ذلك لأن المسلمين أجمع على اختلاف فئاتهم وعلى اختلاف فرقهم يعلمون جيداً أن المبتغى من هذا الطغيان المزمجر الواصل إلينا لا يكمن في التوجه إلى جماعة إسلامية دون أخرى وإنما يكمن في التوجه إلى جذع الإسلام وجذوره، الهدف امتلاخ جذور الإسلام من هذه الأرض الإسلامية، ومن ثم فإن الضرر يحيق بكل الفئات الإسلامية على اختلافها، يحيق بسائر الجماعات الإسلامية أيضاً على اختلافها، هذا إن كانت هذه الفرق الإسلامية تنتمي فعلاً إلى الجذع الإسلامي الواحد، هذا إن كانت الجماعات الإسلامية لا تزال تنتمي وتنتسب إلى هذا الجذع الإسلامي الواحد.

بل أقول لكم شيئاً آخر أيها الإخوة: إن هذا الطغيان إنما تقوده طلائع الدجال، عرف ذلك من عرف وجهله من جهل، إنما تقوده طلائع الدجال يقيناً، وليس الذي يقود هذا الطغيان سياسة من هذه السياسات التي تعرفون إنما الذي يقودها المسيحية المتهودة وهذا ما يقتضينا أن تعلموا معنى قول أن هذا الطغيان إنما تقوده طلائع الدجال. هذه الطلائع إنما تعلن حقدها على الإيمان بالله من حيثه، فالمسلمون والمسيحيون الصادقون في إيمانهم بالله والصادقون في مسيحيتهم مستهدفون وكلهم ينظر إليهم على أنهم في خندق واحد ينبغي القضاء عليه وينبغي أن تعود هذه الأرض ليسرح ويمرح فوقها طلائع الدجال. هذه المسيحية المتهودة التي تقود سياسة الغرب والغرب الأمريكي اليوم، هذه الحقيقة إذا عرفناها ما الفائدة التي ينبغي أن نجنيها من ذلك؟ الفائدة هي أن المؤمنين بالله أجمع من سكان هذه المنطقة، هذه البلاد الإسلامية المقدسة ينبغي أن يعودوا فيكونوا كلمة واحدة، وأن يعودوا ويقفوا في صف واحد وأن يجمعهم خندق واحد، وأن يعلموا أن البلاء محيط بهم جميعاً، هذا العدو جاء ليضرب فئة بأخرى ليحطم الجميع وليبني عرشه بعد ذلك على رؤوس وجماجم الجميع.


أيها الإخوة هذه الظاهرة مظهر من مظاهر رحمة الله عز وجل بعباده عندما يشاء أن يبعث عليهم فتنة من هذا القبيل لعلها توقظ السادر لعلها ترأب الصدع، لعلها تجمع الشمل، لعل المسلمين المتفرقين شذر مذر يعودون مرة أخرى فيجمعون صفوفهم، وأنتم تلاحظون يا عباد الله إن كنتم تتدبرون كتاب الله أن الله عز وجل ينهى عن التفرق ولكنه لا ينهى عن الاختلاف، الباري سبحانه وتعالى يقول: )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[ كان بالإمكان أن يقول ولا تختلفوا، ولكن قال: ولا تفرقوا؛ نهى عن التنازع الذي هو أشد من التفرق بل هو ثمرة التفرق قال: )وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[ ولا ينهى عن الاختلاف إلا عندما يكون رسول التخلف، إلا عندما يكون مقدمة بين يدي التنازع ومن ثم يقول: )وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ[. أي لا تكونوا كالذين جعلوا الاختلاف سبباً للتفرق. أما الاختلاف في أمور تهدف إلى مصلحة الأمة فذلك هو الاختلاف التعاوني الذي يدعو إليه بيان الله سبحانه وتعالى، ليس المنهي في الدين أن يختلف المجتهدون فيما أمر الله عز وجل به ولكن المنهي عنه أن يقود اختلاف المسلمين إلى أن يتفرقوا فيتنازعوا فيتخاصموا نعم.


أرأيتم إلى ثلاثة إخوة أو أصدقاء مسافرين في طريق شعروا بالظمأ والتفتوا يميناً وشمالاً يبحثون عن ماءً يطفئون به ظمأهم، لم يجدوا، تفرقوا في أربع جهات، واحد منهم اتجه ذات اليمين والآخر ذات الشمال والآخر اتجه إلى الأمام والرابع سار راجعاً إلى الخلف، إنهم في الظاهر مختلفون لكن الجميع اختلفوا في هذه الطرق ليبحثوا عن شيء واحد كلهم يبحثون عنه ألا وهو العثور على الماء، هذا الاختلاف اختلاف تعاوني، يجسده قول الله سبحانه وتعالى: )وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[.

المجتهدون .. الأئمة .. الذين اختلفوا من قبل ويختلفون اليوم بحثاً عن الوصول إلى أمر الله سبحانه وتعالى، بحثاً عن بلوغ مرضاة الله وهم صادقون فيما يبحثون وفيما يهدفون إليه، شأنهم كشأن هؤلاء الإخوة الأربعة الذين تفرقوا في جهات أربع بحثاً عن شيءٍ كلهم يبحثون عنه ويريدون الوصول إليه، لذلك فإن البيان الإلهي لم ينهى عباد الله عز وجل عن الاختلاف لكنه نهاهم عن اختلاف يوصلهم إلى التفرق كما نعاني اليوم.



الثمرة التي أريد أن أصل إليها وأن ألفت أنظار عباد الله المسلمين جميعاً الذين لا تزال في قلوبهم بقية من الانتماء لدين الله ومن الصدق في التعامل مع الله سبحانه وتعالى، وأريد أن ألفت نظرهم إلى أن عليهم أن يجنوا ثمار هذه الفتنة بعد أن جاءت بإرادة من الله سبحانه وتعالى، إنما تحمل في طيها رحمة كبيرة بالمسلمين، تحمل في طيها عوامل تنبه، تحمل في طيها عوامل رأب الصدع، عوامل جمع الشمل فهل للمسلمين أن يعوا هذه الرسالة التي جاءتهم من عند الله؟ هل للمسلمين اليوم أن يتعاملوا مع هذه الرسالة وينفذوا أوامر الله؟


عصارة ما أقول أيها الإخوة أن نصر المسلمين اليوم أمام هذا الطغيان المستشري رهنٌ لشيء واحد، هو أن يحطموا الفوارق الزائفة التي كانت فيما بينهم، ينبغي أن ينسوا أو يتناسوا فرق ما بين الشيعة والسنة، فرق ما بين سلفية وصوفية، فرق ما بين جماعات إسلامية إن كانت هذه الجماعات تنتمي حقيقة إلى جذع الإسلام وإن كانت تهدف إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة