
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


وهم التحديات بين صدق الصادقين وتذبذب المتذبذبين
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
إن من الكلمات الطارئة اليوم على أسماعنا والتي لا عهد لنا بها من قبل، كلمة التحدي أو التحديات التي تواجه الأمة العربية والإسلامية. هذه الكلمة لم نكن نسمعها ولم يكن لنا عهدٌ بها من قبل ولكنها اليوم تُستعمل وباختصار تعبيراً عن المعذرة التي يعتذر بها العالم العربي والإسلامي عن التخلف الذي ران عليه بكل أنواعه. يُعبر بهذه الكلمة عن التخلف الاجتماعي، عن التخلف الاقتصادي، عن التخلف السياسي، عن التخلف بكل أنواعه المتصورة.
وإني لأصغي السمع جيداً من خلال الخطاب المقروء ومن خلال تاريخنا المسموع فلا أجد أثراً لهذه الكلمة في العصور المتصرمة، ولم أعثر في يوم من الأيام على تعبيرٍ عن الآلام العصية التي أحاطت بأمتنا العربية والإسلامية وعن الظروف العصيبة التي أحدقت بها لم أجد من استعمل هذه الكلمة قط.
وأنتم تعلمون أن الأمة الإسلامية مرت بظروف عصيبة جداً هي أضعاف وأضعاف الظروف العصيبة التي يتأفف منها العرب والمسلمون اليوم. وإنكم لتعلمون أن أعداء الإسلام والمسلمين أحاطوا في ظروفٍ كثيرة بأمتنا الإسلامية كإحاطة القيد باليد ومع ذلك فلم نسمع لا من قادة المسلمين ولا من شعوب المسلمين في عصرٍ من العصور كلمة تحديات التي تواجهها الأمة العربية والإسلامية، لم نجد من يتأفف من هذه الظروف العصيبة معبراً عنها بهذه الكلمة التي أصمت آذاننا اليوم من كثرة ما تتكرر علينا، بل إنني عندما أقارن بين واقع المسلمين اليوم وبين واقع المسلمين في صدر الإسلام أجد أن المسلمين اليوم يتمتعون بقوة ما مثلها قوة ويتمتعون بنعمة ما مثلها نعمة لم يكن يتمتع بها أولئك المسلمون من قبل.
المسلمون في صدر الإسلام عُهد إليهم بغراسة هذا الدين في أرض قاحلة، في أرض مجدبة لا تعرف إلا العصبية ولا تعرف إلا الجهالة. المسلمون في ذلك العصر كلفوا بأن ينشروا الدعوة الإسلامية الغريبة عن أسماع الناس والغريبة عن عاداتهم وعن مألوفاتهم المختلفة المتنوعة وخاضوا غمار الإنقياد لهذا الواجب الذي كلفهم الله سبحانه وتعالى به ونشروا الدعوة الإسلامية الغريبة في مشارق العالم وغربه ولم نسمع من قال منهم: إننا نعاني من التحديات التي نواجهها نحن المسلمون، وإنكم لتعلمون أن العالم المتحضر هب من جنباته المختلفة واقفاً في وجه قدوم هذا الإسلام العظيم قامت الحضارة الساسانية الفارسية، الحضارة الرومانية، اليونانية، قام العالم كله في وجه هذا الإسلام الغريب الذي أشرقت شمسه من وادي مكة.
وكما قلت لكم: أحدق الأعداء بالمسلمين من كل الجهات كما يحُدق السوار بالمعصم بل كما يُحدق القيد باليد، مع ذلك فقد أصغيت السمع جيداً ونبشت التراث كله لم أسمع من يتأفف ويعاني ممن يسميه التحديات التي تواجه العالم العربي والإسلامي، غرس ذلك الرعيل غراس الإسلام في تلك الأرض القاحلة المجدبة ورعاها بالجهاد ورعاها بالحراسة، ورعاها بالدعوة إلى الله عز وجل حتى أينع الزرع وحتى أثمر الينع ولم يتأفف أي منهم في أي عصر من العصور إلى يومنا هذا عن الجهاد الذي حملهم الله عز وجل أعباءه وعن الواجبات التي شرفهم الله عز وجل بها، ليقولوا إننا نعاني من التحديات التي تواجهنا نحن المسلمين، بل صدق عليهم فعلاً قول الله سبحانه: )وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[.
وأنظر اليوم فماذا أجد؟ أرى أنه قد خلف من بعدهم خلف ربوا على الدلال، ولا أدري من أي معين ربوا على هذا الدلال المتخاذل؟ ربوا على الدعة، ربوا على التكاسل. ربوا على البحث عن المتعة ولا شيء غير المتعة، ولما رأوا أن هذا الذي أسلموا أنفسهم إليه ورأوا أن أعداؤهم أخذوا يحيطون بهم وأخذت الأطماع تستشري في نفوس الأعداء أملاً بالثروات التي تختزنها الأراضي الإسلامية، أملاً بالطاقات التي متع الله سبحانه وتعالى بها هذه الأمة الإسلامية ... لما رأى هؤلاء المتخاذلون المتدللون الكسالى هذا الذي انتهوا إليه، أخذوا يتأففون ويعتذرون إلى التاريخ وإلى الله بهذه الكلمة، التحديات التي تواجه المسلمين.
ما قصة هذه التحديات وما معينها وما خبرها؟ ليست هنالك أيها الإخوة تحديات تواجه العالم الإسلامي والعالم العربي من الخارج، هذه التحديات التي يتحدثون عنها إنما تنبع من داخل المسلمين أنفسهم ولقد أخطأوا الإشارة بإصبع الاتهام إلى من ينبغي أن يتهموه، أشاروا بأصابع الاتهام إلى أعدائهم الذين يطمعون في ثرواتهم ويطمعون في النيل من حضارتهم والقضاء على إسلامهم، ولكن الحقيقة أن التحديات لا تأتي من هناك، إنما انبثقت هذه التحديات من أنفسهم، كيف؟
لم يعودوا يرغبون في هذا الدين الذي طال عهدهم به، فهذه أول واحدة، ملوا من الانضباط بأوامره والانتهاء عن نواهيه، يتأففون مما يسمونه تحديات ظاهراً وهم إنما يتأففون مما يتصورونه أعباءً إسلامية في الحقيقة والباطن، واتجهت مطامعهم إلى ما يرونه عند أعدائهم مما يسمونه الحداثة ومما يسمونه العِلمانية وهي بكسر العين لا بفتحها كما يُخطأ الكثيرون، ملوا الضوابط التي ألزمهم الله سبحانه وتعالى بها، ومن ثم فقد انتزع الله عز وجل النصر الذي متع الله عز وجل به أسلافهم، ومن ثم قد سمعتم الآن قرار الله سبحانه وتعالى وكيف أثاب الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين صدقوا الله سبحانه وتعالى كيف أثابهم بنصرٍ عاجل قبل المثوبة الآجلة التي ادخرها الله سبحانه وتعالى لهم.
وأعيد إلى مسامعكم قرار الله عز وجل: )وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[.
خلف من بعد أولئك هذا الخلف الذي ترون، أصغوا السمع جيدا ًإلى مواقفهم من الإسلام، تجدون العالم العربي والإسلامي ينقسم إلى ثلاثة أقسام لا رابع لها:
القسم الأول: يُعلن صراحةً عن رغبته التامة في أن يخلع رداء هذا الدين الذي طال عهدهم به.
القسم الثاني: يحلو له أن يمسك العصا من الوسط، يحلو له أن يتمسك من الإسلام بقشوره وبشعاراته وبألفاظه، وأن يتحلى بالكلمات الطنانة الرنانة التي أورث مضمونها تاريخنا الإسلامي ذلك النصر الأبلج وتلك الحضارة الرائعة الباسقة، يتباهى بالإسلام ويتخذ لنفسه من الإسلام إطاراً وهالة يجمل نفسه بها لكنه يستخدم الإسلام لدنياه، يستخدم الإسلام لآماله الدنيوية المختلفة في المناسبات تتألق كلمات الإسلام على أفواههم وفي حفلاتهم فإذا طُويت المناسبة طُوي الحديث معها عن الإسلام أيضاً، وهذا لا ينطبق على قادة المسلمين فقط بل ينطبق على كثير وكثير من المسلمين، بل حتى من بعض دعاة الإسلام الذين اتخذوا من الإسلام مطيةً ذلولاً للمال، للشهرة للمناصب.
القسم الثالث وهو القسم الأقل بل هو الأقل من القليل، وأولئك الناس الذين لا يزالون على العهد، لا يزالون مخلصون لمولاهم وخالقهم عز وجل، ولا تزال قلوبهم معيناً لحقيقة العبودية لله سبحانه وتعالى، ولا يزالون يتعاملون مع الدنيا على أنها هي مطيةً للدين وليس العكس.
هذا هو واقع عالمنا الذي نعيشه اليوم، قلة صغيرة جداً ما تزال على العهد ولا يمكن أن تسمع من أفواه هذه القلة كلمة التحديات أبداً بشكل من الأشكال، أما الكثرة الكاثرة فهي التي تجسد التيار العظيم الكثرة الكاثرة تتمثل في هذين الفريقين الذين حدثتهم عنهم.
أعود إلى كلمة التحديات العظيمة الخطيرة السحرية التي تواجه العالم العربي والإسلامي والتي جعلت المسلمين لا يستطيعون أن يتحركوا يمنة ولا يسره، والتي جعلتهم محكوماً عليهم بالذل والخنوع والضعة، ومن ثم لا يستطيعون أن يخرجوا من قفص هذا الحكم الذي تمت الهيمنة به عليهم، ما خبر هذا التحدي؟
الإسلام بالأمس كان غريباً، أما اليوم فهو منتشر بكل بقاع الأرض كلها، الناس الذين كُلفوا بالأمس أن يغرسوا غراس الإسلام لم يكن العالم يعلم عنه شيئاً ومع ذلك ثبتوا وصمدوا وصدقوا مع الله سبحانه وتعالى، وأما الإسلام اليوم فالعالم كله يعرفه بل العالم الغربي يطأطأ الرأس له تعظيماً وإن لم تقر ألسنتهم بذلك، بل العالم الغربي يفيض قلبه خوفاً من هذا الإسلام، في ذلك العصر تختفي كلمة التحديات والخوف منها واليوم حيث الإسلام الأبلج يرتفع اسمه فوق كل رابية وحضارة الإسلام ونسيجه، كل ذلك أصبح العالم كله يقر به، في هذا الوقت تظهر التحديات؟!
التيار الإسلامي يعلن عن أنه الحق هو الذي يدافع عن وجوده وعن أحقيته فما من حقيقة علمية ظهرت وإلا وهي اليوم تسجد لحقائق الإسلام ومع ذلك نتحدث عن التحديات.
الناس يدخلون في دين الله أفواجاً بدءاً من شرق العالم إلى غربه دون أن نحرك ساكناً ودون أن ننهض بواجب الدعوة فيما بينهم ومع ذلك نتحدث عن التحديات.
كلامٌ خيالي لا وجود له أيها الإخوة، وإنما هو الدلال ولا شيء إلا الدلال، وليس أي دلال سمج، دلال يُعبر عن الكسل الذي ران على كيان هذه الأمة الإسلامية التي أصبحت سبة عارٍ لتاريخها الإسلامي المجيد.
تحديات ... معين هذه التحديات من أنفسنا، لم يعد المسلمون اليوم يرغبون بالإسلام، لم يعودوا يرغبون بالحضارة الإسلامية التي رفعت لهذه الأمة الشأن وكسفت كواكب الحضارات الأخرى إن كانت لها أشعة وكانت لها كواكب. أجل أيها الإخوة هذه هي حقيقة ما يسمى بالتحديات التي تواجه الأمة العربية والإسلامية اليوم.
والنتيجة التي أريد أن أصل إليها هي أن أتجه إلى قادة المسلمين ثم إلى الشعوب الإسلامية بقسميها الذين حدثتكم عنهما أقول: هما سبيلان اختاروا أيها الناس واحدة منهما، إما أن تختاروا ما اختارته الأجيال السابقة، الإسلام الذي أيدها الله عز وجل به والذي قواها الله عز وجل به من ضعف، وأغناها من فقر، ومن ثم فلا بد أن تصدقوا مع الله ولا بد أن تجددوا البيعة مع الله لتنفيذ أوامره والانتهاء عن نواهيه ولسوف يأتيكم النصر القريب، أو أن تتخذوا السبيل الثاني، ولكن عليكم أن تعلنوا عما في نفوسكم، قولوها صراحةً إن كنتم قد مللتم من الإسلام الحق، لا الإسلام المجزأ، قولوها: إننا لا نريد بعد اليوم إسلام، نريد أن نتبع نهج هذه الأمم التي أحدقت بنا والتي أعلنت الحرب علينا.
أما أن تتخذوا سبيلاً ثالثاً تخادعون به الله فهذا لا يتأتى؛ بلسانٍ تتحدثون عن الإسلام التراثي وعظمة الإسلام وتراث الإسلام وما إلى ذلك ... وبسلوكٍ تمزقون مبادئ الإسلام وأخلاقياته وقيمه وتنفذون كل ما يتناقض مع دين الله سبحانه وتعالى باسم تطوير، باسم تجديد، باسم التخلص مما قد مللتم منه .. هذا السبيل لا يتأتى، هذا سبيل المذبذبين الذين حذر الله سبحانه وتعالى منهم مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
أقول: على قادة المسلمين وعلى الفئتين اللتين حدثتكم عنهما من المسلمين أن يعلنوها صراحة إما بيعة جديدة مع الله وعود سليم وصادق وأمين مع شرع الله سبحانه وتعالى، وأنا الضامن وأنا الكفيل باسم كتاب الله عز وجل أن النصر قريب.
أو أن يعلنوا العكس ومن ثم فعلى القلة المسلمة أن تثبت على النهج الذي صدقت مع الله في التمسك به، على القلة المسلمة أن تنتصر بالله ولسوف ينصرها الله سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.