مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 18/07/2003

الدين الحق سبيلنا الوحيد لإصلاح المجتمع الإنساني

الدين الحق


سبيلنا الوحيد لإصلاح المجتمع الإنساني


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 18/07/2003


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


ما من ثري أو تاجر متمول أو صاحب شركة يبحث عن محاسب أو أمين صندوق له ويُخَيَّر بين رجلين أحدهما مُعْرِض عن الدين والإيمان غير ملتزم بشيء من مبادئه، والآخر ملتزم بدين الله سبحانه وتعالى مستشعر رقابة الله له: إلا ويختار الثاني ويعرض عن الأول، حتى ولو كان هذا الثري أو التاجر المتمول ملحداً، حتى ولو كان علماني النزعة. وفي ذهني صور كثيرة لهذه الحقيقة التي أقولها لكم.


فعلامَ تدل هذه الحقيقة الواقعة والمعروفة؟


إنها تدل على أن الإنسان لن يكون أميناً في تعامله مع الآخرين ولن يكون وفياً معهم ولا صادقاً في عمله معهم إلا إن كان مستشعراً رقابة الله سبحانه وتعالى له. ولا يتأتى هذا الشعور إلا بعد الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتغذية هذا الإيمان بغذائه المعروف من الالتزام بالأوامر والابتعاد عن النواهي. هذه هي الحقيقة التي ينطق بها واقع الناس الذي ذكرته لكم. وهذه الحقيقة كم وكم أكَّدَها وبيَّنها كتاب الله سبحانه وتعالى. كرر وأكَّدَ أن الله سبحانه وتعالى لم يُكْرِم عباده بهذا الدين وبما يحتوي من تعليمات وشرائع إلا لتحقيق مصالحهم ولدرء المفاسد عن حياتهم، ولذلك قالوا عن الدين: إنه شَرْع لذوي العقول السليمة، لتحقيق ما فيه صلاحهم في معاشهم – أي الدنيوي – ومعادهم – أي الأخروي – وهذا ما أكده بيان الله. انظروا إلى قوله عز وجل: ﴿قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: 5/15-16]. وانظروا إلى قوله وهو يؤكد هذه الحقيقة: ﴿يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 8/24] الحياة الحضارية الإنسانية الكاملة ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾  [الأنفال: 8/24] وانظروا إلى الكلام المتمم بعد ذلك: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهِ شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ [الأنفال: 8/25]. ما علاقة هذه الآية التهديدية الثانية بالأولى؟ العلاقة واضحة ومهمة جداً: أي المجتمع الذي لا يضبط نفسه بشرائع الله التي جاءت لصالحه فإن هذا المجتمع لابدَّ أن يقع في براثن الشقاء؛ فيُظْلَم الضعفاء ويستشري الأقوياء طغياناً وظلماً، في حين أن الذين أعرضوا عن شرائع الله في هذا المجتمع قلة ربما، هم القادة والحاكمون. لكن إعراض القادة عن شرائع الله عز وجل نشرت الفساد والشقاء في المجتمع كله. والسبب إعراض الثلة اليسيرة عن تنفيذ شرائع الله.


هذا معنى قوله سبحانه: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصَّةً﴾ [الأنفال: 8/25]. الشريعة إنما أُرسِلت لبني البشر لصلاحهم جميعاً. الشريعة الإلهية توزع رحمات الله بين الجميع، بين الضعفاء ترفعهم إلى مستوى الإنسانية الباسقة، والطغاة تخفضهم إلى مستوى هذه الإنسانية ذاتها. وتُوصِل الناس بعضهم ببعض بجسور الوداد والتعاون طبق القاعدة الربانية القائلة: ﴿وَتَعاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوانِ﴾ [المائدة: 5/2]. فإذا أعرض القادة عن تنفيذ شرائع الله عز وجل فالبلاء لا يكون محصوراً في هؤلاء الذين أعرضوا عن شرائعه، وإنما ينتشر في الوسط كله.


هذا هو الواقع الذي ذكرته لكم يُعَبِّر عن هذه الحقيقة التي أكدها وبيّنها لنا رب العالمين. ثم إن هذا الواقع يلفت النظر إلى العكس والنقيض؛ ما يستشري الفساد في مجتمع من المجتمعات متمثلاً في سرقات، متمثلاً في اغتصاب، متمثلاً في رشاوي، متمثلاً في ظلم، متمثلاً في خيانة الوطن والأمة. ما يستشري هذا الفساد بهذه الأنواع كلها في مجتمع من المجتمعات إلا لأن هذا المجتمع أعرض عن هذا الدين الحق الذي شرّف الله سبحانه وتعالى به عباده. اِنطلَقَوا وتحرَّروا من ربقة الإيمان بالله عز وجل، ثم من ربقة الالتزام بأوامره، ومن ثم من ربقة الشعور برقابة الله سبحانه وتعالى للأفراد، واستبدلوا بدين الله عز وجل مظاهر وقوانين هي أشبه بالديكورات الشكلية منها بالعوامل التي تحمي الأمة من الفساد والشقاء.


فلما أعرضوا هذا الإعراض عن مولاهم وخالقهم وفَرَغَت أفئدتهم من الشعور بمراقبة الله سبحانه وتعالى لهم ومن ثمَّ فرغت أفئدتهم من مشاعر تعظيم الله والخوف من الوقوف غداً بين يدي الله سبحانه وتعالى ظهر الفساد في البر والبحر كما قال الله عز وجل: ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 30/41] والفساد هنا: الفساد الأخلاقي، والفساد السلوكي، والفساد المتمثل في السرقات والنهب والسلب والخيانة للأمة والوطن، وفي فساد البيئة كما تعلمون أيضاً أيها الإخوة، كل ذلك فساد ينبعث من الإعراض عن مراقبة الله سبحانه وتعالى ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ﴾. وإنما يعني البيان الإلهي بهذه الجملة تلاعب الناس بدين الله وإعراضهم عن شرعه والاستبدال به شرائع أخرى وقوانين أخرى. والموضوع في هذا طويل الذيل وأنتم تعلمون تفاصيله.


وانظروا إلى قوله سبحانه: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 7/56]، ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ﴾ ما قال لا تفسدوا في الأرض. وإنما قال: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ﴾ لتَعُمَّ الكلمة أنواع الفساد أجمع. ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها﴾، أي إصلاح يعنيه بيان الله؟ أصلحتُ حياتكم بالشرع الذي أنزلته عليكم وشرفتكم به، هذا هو الإصلاح الذي يعنيه بيان الله، ووضعتكم أمام المنهج الأمثل من أجل أن تحققوا سعادتكم العاجلة وسعادتكم في العقبى فلا تستبدلوا بهذا النهج الذي أحببته لكم لأُسْعدكم به مناهج أخرى وأنظمة أخرى وأنظمة أخرى، تشقيكم بدلاً من أن تسعدكم، تفرقكم بدلاً من أن تجمعكم، تبعث فيما بينكم عوامل الفساد والظلم والطغيان والبغي أشكالاً وألواناً. ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [الأعراف: 7/56] ولكن ﴿مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ والمحسنون هم الذين التزموا بأوامر الله وشرعه.


ما الثمرة التي ينبغي أن تستقر في أذهاننا أيها الإخوة لهذا الكلام العلي الواضح النيّر، وقد افتتحته بمثال لواقع؛ لواقع يتمثل في حياة العلمانيين والملاحدة والمتدينين، كلهم يعلم أن الأمين لا يكون أميناً إلا بعد أن يستشعر مراقبة الله له، وأن الإنسان لن يكون بعيداً عن الظلم ومهايع الفساد بكل أنواعه إلا إذا كان قلبه فياضاً بالشعور بعظمة الله سبحانه وتعالى ومهابته، وإنما أتكلم عن الدين الحق لا الدين التقليدي الذي يتمثل في شارة يُجَمِّل بها بعض الناس أنفسهم، ما الثمرة التي ننتهي إليها؟


الثمرة هي الحقيقة التالية مجتمعاتنا تفيض بالفساد أشكالاً وألواناً، وأنا لا أعني مجتمعاً بعينه، مجتمعاتنا تفيض بالفساد أشكالاً وألواناً، ولا داعي إلى أن أعدد لكم هذه الأشكال وهذه الألوان، فما السبب؟ السبب تقلص فاعلية الدين الحق. ولقد قلت بالأمس: كلما استشرى الفساد أشكالاً وألواناً في المجتمع فلتعلموا أن ذلك دليل وميزان على أن الدين قد تقلص في ذلك المجتمع، وكلما رأيتم أن الفساد اختفى، وأن الصلاح قد حلّ محله، وأن الرحمة قد انتشرت فيما بين الناس، وأنهم أخذوا يتعاونون بالبر بدلاً من أن يتنافسوا في العدوان ويتسابقوا إلى الأثرة بدلاً من الإيثار فلتعلموا أن الدين له هيمنة وفاعلية في ذلك المجتمع؛ حقيقة لا شذوذ فيها قط بشكل من الأشكال.


والسر في هذا الأمر أيها الإخوة، السر في حاجة الإنسان إلى الدين، السر في أن الإنسان لا يصلحه ولا يجعله قادراً على أن يكون عضواً مصلحاً في مجتمعه إلا إن تحلى بدين الله عز وجل واستشعر مراقبة الله له، السر في ذلك هو: أن الإنسان كان ولا يزال أخطر حيوان يستشري البغي بين جوانحه في جنبات الأرض؛ إن استعرضتم واقع الوحوش في الأدغال، إن استعرضتم واقع السباع في الغابات فلتعلموا هذه الحقيقة؛ أضرى وحش من الوحوش في جنبات الأرض هو الإنسان. ذلك لأن الحيوانات كلها ألجمها الله بلجام الغريزة الحتمية التي لا تستطيع أن تتجاوزها يمنة ولا يسرة، قانونها هذه الغريزة، دينها هذه الغريزة لا تستطيع أن تتجاوزها. هذه الحيوانات هذه السباع إن استشرت وإن افترست فضمن قانون من هذه الغزيزة تستشري وتفترس، ومن ثم فإذا انتهت حاجتها إلى الطعام والشراب غاب الشعور بالحاجة إلى الافتراس منها وأخلدت إلى الراحة والابتعاد عن ذلك، حياتها خاضعة لغريزة، قانونها هذه الغريزة.


أما الإنسان فقد متعه الله سبحانه وتعالى بدلاً من هذه الغريزة بالحرية، سما به عن هذه الغريزة ولم يقيده بها، هو ليس حيواناً لأنه عاقل، وضع بين جوانحه بدلاً عن هذه الغريزة الحرية؛ حرية الإرادة والقدرة على اتخاذ القرار. وأنزل عليه بدلاً من الغريزة الـمُجْبِرة هذا القانون، هذا التشريع، خاطبه به وأَمَره أن يستوعبه بعقله وقال له: بوسعك أن تُطَبِّق وألاَّ تطبق، فإن طَبَّقْت حققتَ لمجتمعك السعادة في العقبى وفي العاجلة، وإلا عَرَّضْتَ نفسك ومجتمعك للفساد. فالمجتمع الإنساني الذي أعرض عن هذه الشرعة التي جعلها الله للإنسان مكان الغريزة في حياة الحيوان إلامَ يؤول حال هذا الإنسان؟ الغريزة التي قيّد الله بها حياة الحيوان غير موجودة لدى الإنسان، والشرعة التي شرّفه الله بها وأمره أن يضبط نفسه بها اختياراً أعرض عنها.


إلامَ سيؤول حاله؟ سيؤول حاله إلى وحش ضَارٍ، لا الغريزة تُحَجِّمه ولا الشريعة والقوانين تضبطه، ومن ثمَّ لابد أن ينطلق في جنبات الأرض يمنة ويسرة لا توقفه الحاجة ولا الضرورة إنما هي طبيعة الظلم وطبيعة التعدي وطبيعة العدوان. مهما شبع يزداد طغياناً، ومهما وجد نفسه سعيداً آمناً مطمئناً يستشري حب الأثرة في نفسه وحب اقتناص الحقوق من الآخرين أكثر من قبل في حياته. هذه حقيقة أيها الإخوة وإن كنتم في شك منها فدونكم ما تسمعونه من أخبار العالم صباح ومساء. اِنتقِلِوا من خبر إلى خبر إلى خبر مما يحدث كل يوم في أقطار العالم من شرقه إلى غربه، ماذا تسمعون؟ إنْ هي إلا أخبار القتل، السلب، النهب، العدوان، الذبح، الإفساد، الهلاك، الطغيان، الظلم، هل تسمعون غير هذا؟ لماذا؟ ذلك لأن الإنسان وحش لا يُصْلِحه إلا لجام من الدين فإن غاب هذا اللجام، الدين الحق، إن غاب هذا اللجام عن حياته انطلق أضرى وحش في العالم كله ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ﴾ [الروم: 30/41] هذا كلام الله سبحانه وتعالى.


أقول هذا للذين يتأففون من الفساد اليوم إِن في مجتمعاتنا أو في مجتمعات أخرى. أقول لهم: إنْ كنتم حقاً تتأففون من الفساد بكل أشكاله وأنواعه وألوانه فتأففوا من إعراضكم عن الله، تأففوا من إعراضكم عن أوامر الله سبحانه وتعالى، ضعوا منهجاً لتربية الناشئة منذ نعومة أظفارها تربية تربطهم بالله عز وجل حباً، عبودية، مهابة، خوفاً ومن ثم تجعلهم يصطبغون بأوامره وينتهون عن نواهيه، إذن سوف تجدون أن الفساد بكل مظاهره قد غاب وعندئذ لن تتأففوا. أما إذا كنتم تفضلون الإعراض عن الله عز وجل وعن تعاليمه على صلاح المجتمع ومن ثَم ترضون بالفساد ثمناً لإعراضكم عن الله فلا شك أننا مقبلون على ألوان أشد فتكاً وأشد إشقاءً للمجتمع من أنواع الفساد.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 


 


تحميل



تشغيل

صوتي