مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/05/2003

فقه الأقليات أحدث وسائل التلاعب بدين الله

فقه الأقليات أحدث وسائل التلاعب بدين الله


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 16/05/2003


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


لقد صحّ عن حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ﴿لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما﴾ وقال: ﴿لا يؤمن أحدكم حتى أكون أَحبَّ إليه من ماله وولده ونفسه التي بين جنبيه﴾، وقد صحّ أن أحد الصحابة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال له المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿ما أعددتَ لها؟ فقال: والله ما أعددتُ لها كثير صلاةٍ ولا صيام ولكني أعددت لها حبّ الله ورسوله، فقال له: أنت مع من تحب﴾


نحن أيها الإخوة مؤمنون ولله الحمد، وهذا يعني أنه لا بد أن يكون لكل منّا حظ ولو قلّ من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرجو أن لا يكون هذا الحظ قليلاً، أرجو أن نكون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تكون محبة المصطفى فوق محبة المال والولد والنفس. فإذا هبّت علينا في هذه الأيام نسائم من ذكرى ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطافت هذه النسائم بمشاعر الحب في أفئدتنا لحبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، تُرى ما الانفعال الذي ستتركه هذه المشاعر التي تُعجن وتمتزج بنسائم هذه الذكرى؟


من المعلوم أيها الإخوة أن ما يسمى الفعل يصدر من الإنسان باختياره، أما ما يسمى انفعالاً فإنما يصدر عن الإنسان قهراً عنه، والحب انفعال وليس وفعلاً، ونتائج الحب أيضاً انفعالات قسرية وليست أفعالاً اختيارية.


وإذا أردنا أن نتصور مدى الانفعال الذي ينبغي أن يهتاج بين جوانح المؤمن الذي أحبّ مولاه ثم أحبّ رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم فلننظر إلى هذا الحديث الآخر الذي يرويه البخاريّ في صحيحه : رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في يوم ليس هو جزءاً من رمضان ولا هو يوم عاشوراء ولا تاسوعاء، فسأله أحد الصحابة عن ذلك اليوم وسبب صيامه له، فقال: ﴿ذلك يومٌ وُلدت فيه﴾ ذلك يوم الاثنين يحتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوم ولادته. وما معنى احتفاءِ رسول الله بيوم ولادته إلاّ الشكر للخالق وللمولى سبحانه وتعالى أن شرّفه بهذه البِعثة، تُرى أيّنا أولى بهذا الاحتفاء ؟ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي ابتعثه الله رحمة للعالمين أجمع أم نحن الذين شرّفنا الله سبحانه وتعالى بهذا الدين عن طريقه، والذي أكرمنا بالهداية عن طريقه، والذي شرّفنا بالإصغاء إلى خطابه المنزّل إلينا عن طريقه، ولولا محمد صلى الله عليه وسلم لما عرفنا ربنا، ولولاه لما عرفنا عبوديتنا لله عز وجل، أيّنا أولى بالاحتفاء بيوم مولد رسول الله، أما رسول الله فاحتفل بذلك وعبّر عن احتفاله بصيام ذلك اليوم شكراً لله أن شرّفه بالنبوّة، لكن نحن أولى أيها الإخوة، اجتماعنا في هذا المسجد الآن ووقوفنا بين يدي مولانا وخالقنا إنما الفضل في ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو الذي نشر الدعوة، وهو الذي أدى الأمانة، ومن ثَم فإن شأن كل مسلم عندما يقف أمام مثوى رسول الله ليسلم عليه أن يقول له: أشهد يا رسول الله أنك أديت الأمانة، وبلّغت الدعوة فجزاك الله عن أمتك خير ما جُزي نبي عن قومه وأمته. نحن أولى بأن تهتاج بين جوانحنا مشاعر ذكرى ولادة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكما قلت لكم، إذا انقدحت نسائم ذكرى مولد المصطفى مع مشاعر الحب للمصطفى بين جوانحنا فإن الأمر يغدو انفعالاً قسرياً ولا يقف عند أفعال اختيارية، الحب انفعال قسري وقد سمعتم الآن من كلام سيدنا رسول الله وقد كرره مراراً أن العبد لا يكمل إيمانه إلا إذا أحب رسول الله أكثر من ماله وولده ونفسه التي بين جنبيه، هكذا قال رسول الله لأبي بكر.


في هذا اليوم المبارك الأغر أدعو نفسي وأدعوكم جميعاً إلى أن نتلمس مكان محبة رسول الله في أفئدتنا، أدعو نفسي وأدعوكم إلى أن نتساءل عن مقياس الإيمان، ومقياس الإيمان كما سمعتم هو حب المؤمن لرسول الله بعد حبه لله سبحانه وتعالى، أخشى أيها الإخوة أن تكون محبة الدنيا هي الغلابةَ اليوم، أخشى أن تكون محبة المال والأهل والولد هي المتغلبة اليوم، أخشى أن تكون محبة النفس والعصبية للذات هي المتغلبة اليوم، لئن كان الأمر كذلك وأسأل الله العفو والعافية لي ولكم، فلنعلم أننا على خطر، ولنعلم أن إيماننا تقليدي وليس بالإيمان الذي يتطلبه منا الله سبحانه وتعالى والذي غُرس في أفئدة سلفنا الصالح، ذلك الرعيل الأول.


أيها الإخوة أنا عندما أتمثل محبة رسول الله لأمته وحنينَه إلى إخوانه الذين لم يرهم وأعود إلى واقعنا، أعود إلى مشاعرنا، أشعر بخجل شديد، أشعر بأسىً يعَضّ على مشاعري وفؤادي، روى الإمام مالك في موطئه وآخرون بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار البقيع مرّة ومعه ثلة من أصحابه فسلم على أهل البقيع ثم قال: ﴿ودِدت أني لو أرى إخواننا فقال له أحد أصحابه: ألسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين لم يلحقوا بعد، وسأكون فَرطاً لهم على الحوض قال له السائل: أو تعرفهم يا رسول الله؟ كيف تعرفهم وأنت لم ترهم حتى تستقبلهم على الحوض؟ قال: أرأيت لو أن رجلاً له خيول غرٌ محجّلة وسط خيول دُهم بهم أفكان يعرفها﴾ تصور لو أن رجلاً له خيلٌ لها دائرة بيضاء على جبينها وإسورة بيضاء على قوائمها بين خيول سوداء، دُهم بُهم، أفكان يعرفها ﴿قال: نعم قال: فأنا أعرفهم، غرّاً محجّلين من آثار الوضوء﴾ أنا عندما أقف على هذا الكلام وأرى شوق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا أتساءل: كم هو شوقنا إلى رسول الله؟ كم هو اشتياقنا إلى رسول الله؟ لعلي أدّعي، أقول نعم نحن نشتاق إليه كما اشتاق إلينا، لكن الأمر ليس بالدعاوي أيها الإخوة


والدعاوي إن لم تقيموا عليها بيّنات أبنائها أدعياء


لا بد أن أتلمس الدليل على اشتياقي إلى رسول الله، ماذا صنعت كدليل على اشتياقي إليه؟ هل أحييتُ سنّته التي تركها أمانة بين أيدينا؟ هل أنجزت الوصايا التي طوّق بها أعناقنا، وجعلها أمانة في أيدينا جيلاً إثر جيل؟ هل حافظنا على النهج الذي تركه بين أيدينا بيضاء نقية ظاهرها كباطنها؟ أم بدّلنا وغيّرنا أيها الإخوة؟ انظروا إلى تتمة الحديث، بعد أن قال: ﴿فأنا أعرفهم غرّاً محجلين من آثار الوضوء﴾ قال: ﴿ألا ليُذادنّ رجال عن حوضي كما يُزاد البعير الضّال﴾ أي ليُطردن رجال عن حوضي كما يطرد البعير التائه الذي اندمج وسط جمال أخرى،﴿ فأقول: ألا هلُم، ألا هلُمّ، فيقال إنك لا تدري كم بدّلوا من بعدك، فأقول فسُحقاً فسحقاً فسحقاً﴾


أخشى أيها الإخوة أن نكون من المبدلين، أخشى أن نكون قد غطّينا سلوكنا بالدعاوي وليس عليها أدلّة قط.


أعود فأقول: تعالوا نتلمس مكمن الحب بين جوانحنا لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذا صحّ أننا مازلنا على العهد وأن مشاعرنا تحتضن حب رسولنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فلنتلمّس الدليل على ذلك، هل نحن حرّاس على شريعة الله أن لا تتبدل؟ أن لا تتغير باسم الأعراف، وباسم الظروف، وباسم فقه الأقليات، وما إلى ذلك؟


إنّ الذي أراه أننا بدلنا كثيراً وغيرنا كثيراً، الفتاوى الآلية الأوتوماتيكية التي تصدر في العالم الغربي بشطريه الأوروبي والأمريكي شيء تذهل لها عقول المؤمنين، شيء يبعث على قدر كبير من الخوف والخطر من المآل، ولست بصدد ذكر قائمة الفتاوى التي غيّرت وبدّلت، ولو أن الأمر استمر على هذا النهج فلسوف نجد أنفسنا خلال سنوات قليلة أمام شريعة جديدة، أمام شريعة جديدة نغطيها بمبررات الظرف، المناخ، الجو، المصالح إلى آخر ما هنالك .


تُرى لو كانت أفئدتنا تنطوي على حب نبادل به حب رسول الله لنا، تُرى لو كانت أفئدتنا تنطوي على شوقٍ نبادل به اشتياق رسول الله إلينا، أفكنّا نساوم على ديننا لنغير ونبدل؟ أفكنا نُعرض عن أحاديثه الصحيحة التي لا ريب فيها ونطويها عن النظر والاعتبار لنقول: إننا أمام تيار متغلّب اسمه فقه الأقليات؟


قلت بالأمس القريب: لو كان هذا النهج الذي يُسلك اليوم سليماً – ولا ندري إلى أي مدى سينتهي، بل وأين سيقف؟ لو كان هذا النهج سليماً مقبولاً في دين الله، إذن لما شُرعت الهجرة من ديار الكفر، لأن المسلم أينما وجد يستطيع أن يتأقلم مع الجو الذي هو فيه عن طريق فتاوى يُخضعها للجو الذي هو فيه بدلاً من العكس تماماً، وإذن لما احتجنا إلى أن ننضبط بقول الله عز وجلّ ﴿إنّ الذين تَوفّاهُمُ الملائكةُ ظالمي أنفسِهِم قالوا فيمَ كنتُم قالوا كنّا مُستضعَفِينَ في الأرضِ قالوا ألم تكُن أرضُ اللهِ واسعةً فَتُهاجِروا فِيها فأولئك مأواهُم جهنّمُ﴾ [ النساء: 97/4 ] لا داعيَ إلى هذا الكلام، لا داعي إلى الهجرة لأن المسلمين أينما وجدوا يكفيهم أن يندمجوا مع المناخ الذي يرون أنفسهم مقيمين فيه.


والأخطر من هذا أننا بالأمس القريب كنا ننتظر أن تتحول هذه المجتمعات الغربية مع تكاثر المسلمين فيها إلى أرض إسلامية شيئاً فشيئاً.. كنا ننتظر أن يتعاظم التيار الإسلامي الهادىء الرزين الحكيم دون غلو، دون إفراط، دون إرهاب- كما يقولون- عن طريق المحافظة الذاتية على حقائق الإسلام وعن طريق الصبر والمصابرة على أحكام الله سبحانه وتعالى. كنا ننتظر إذا استمر الأمر على هذا النحو؛ أن تشرق شمس الإسلام في هذه الأماكن تماماً كما صنع سلفنا الصالح يوم رحل عبد الرحمن الداخل إلى الغرب ومعه ثلة من أصحابه، خلال سنوات يسيرة قامت الدولة الإسلامية، لم يُشهر سلاحاً، لم يقف موقف عِداء، لم يفعل أي فعل مما يسمى اليوم تطرفاً أو إرهاباً أو نحو ذلك أبداً بشكل من الأشكال. إنما هو أمران اثنان: تطبيق الشريعة كما أمر الله، مع الحراسة عليها والتخلق بالأخلاق الإسلامية الفاضلة تنفيذاً لوصية رسول الله التي يقول فيها: ﴿إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فلتسعكم منهم بسطة الوجه وحسن الخلق﴾ شعّت شمس الإسلام في تلك الأماكن ثم انتشرت وازدادت أشعتها انتشاراً وسرعان ما قامت دولة إسلامية هناك.


كنا ننتظر هنا أيضاً، ولكن نفاجئ اليوم بما ينذرنا بالعكس، المسلمون اليوم بفضل ما يسمى فقه الأقليات هم الذين يصطبغون بعادات هذا المجتمع وبأوضاعه وبظروفه وبمحرماته. كل ما في الأمر أننا نصبغ هذه العادات الموجودة هنا بصبغة الإسلام ونغطيها بغطاء الشريعة الإسلامية.


أيها الإخوة: عندما أنظر إلى هذا الواقع المرير وأذكر قول رسول الله: ﴿ألا ليذادنّ رجال عن حوضي كما يُذاد البعير الضّال فأقول: ألا هلُم، ألا هلُمّ، فيقال إنك لا تدري كم بدّلوا من بعدك﴾ أيها الإخوة: إياكم أن تكونوا من هؤلاء. إياكم وقد اشتاق إليكم رسول الله أن تقطعوا حبال الاشتياق الممتدة فيما بينكم وبينه عن طريق سكين التبديل والتغيير. إياكم أيها الإخوة. إنه لكنز عظيم أرجو أن يكرمني ويكرمكم الله عز وجل به يوم قال: ﴿وددت أني لو رأيت إخواننا﴾ أسأل الله رب العرش العظيم أن يجعلنا من إخوانه، الذين تشوّق إليهم، وأسأله سبحانه أن يوفقنا إلى أن نبادله شوقاً بشوق، وأسأله سبحانه أن يُقدرنا على أن نترجم اشتياقنا إليه بالمحافظة على ما أورَثنا إياه، وبحراسة الشرع الذي جعله أمانة بين أيدينا، وجعله معلقاً بأعناقنا، وجعله دَيناً مرتبطاً بذمّتنا.


أيها الإخوة: احرصوا بكل ما تملكون على أن لا تغيّروا ولا تبدّلوا. فإن قيل لكم: ولكن شريعة الله عز وجل فيها اليسر الكثير والقاعدة تقول: "حيثما وُجدت المصلحة فثمّ شرع الله". نقول: نعم، لكن المرجع في تقدير المصلحة والمفسدة إنما هو سلفنا الصالح. ارجعوا إلى كنوز الشريعة الإسلامية، ارجعوا إلى ما يقوله الأئمة الأربعة، تجدوا في فقههم وفي فتاواهم ما يكفي، فإن وجدتم أنفسكم أمام الخط الأحمر فاعلموا أن عليكم بالصبر. هكذا يقول المصطفى في حديث آخر: ﴿إنكم لسوف تجدون أثرة من بعدي فاصبروا حتى تلقوني على الحوض﴾ والله لكأن هذه الوصية إنما يطل رسول الله بها علينا نحن، ستجدون أثرة بعدي.. أثرة للعصبية، للذات .. أثرة للهوى.. أثرة للشهوات والرغبات. ما الموقف الذي ستتخذونه ؟ اصبروا .. اصبروا حتى تلقوني على الحوض.


اللهم أَقْدِرنا على الصبر، أَقْدِرنا على الثبات، اللهم اجعلنا بفضلك ومنّك وجودك من إخوان حبيبك المصطفى الذين اشتاق إليهم، وأكرمْنا يا ربّ أن نبادله شوقاً بشوق.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العليّ العظيم.


 


 

تحميل