مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 02/05/2003

غربة الإسلام

غربة الإسلام


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 02/05/2003


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


لم أشعر في يوم من الأيام بغربة الإسلام في ديار المسلمين؛ تلك الغربة التي أنبأنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما شعرت بها في هذه الأيام. أصغي إلى آيات من كتاب الله عز وجل أو أرددها وأتمثل حال المسلمين الذين من حولي، بل في سائر البلاد العربية والإسلامية المترامية الأطراف، فلا أجد إلا قلة يسيرة تصغي إليها، آيات تنزلت من لدن رب العالمين، يخاطب الله سبحانه وتعالى بها عباده المؤمنين، وأنظر إلى عباده المؤمنين وأتحسس حالهم فلا أجد فيهم من يصغي إليها، ولا أجد فيهم من يقف عندها، بل الكل مُعرض عنها.


اسمعوا إلى هذه الآيات وانظروا غُربتها عن المسلمين وغربة المسلمين عنها: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ، اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ، لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ [المجادلة: 58/14-17]. وكأن قائلاً يقول: أفزَجَّهم هذا الحال إلى الكفر فأصبحوا من المخلَّدين في النار؟ عقَّب الله عز وجل على هذا البيان بقوله: ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: 58/22].


وأتابع حديث القرآن لعباد الله سبحانه وتعالى ونصائحه التي تذهب اليوم أدراج الرياح، أُصغي إلى بيان الله وهو يقول: ﴿يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [آل ‌عمران: 3/118]، ﴿يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة: 60/1] آيات يتابع البيان الإلهي فيها نصحه ووصاياه لعباده.


وأنظرُ إلى عباد الله المسلمين الكل في شغل شاغل عن هذا الكلام، الكل مُعرض عن هذا البيان الإلهي الأخاذ. وأعود فأجدني أمام مصداق كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ﴿بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء﴾.


ربما قال قائل: إن الإسلام لم يتغرب بعد، ها هي ذي المآذن وضّاءة منذ المساء إلى لمعة الفجر في بلاد المسلمين، وتلك هي أضواء النيون تكسو قبب المساجد ومآذنها الباسقة منذ بدء الظلام من كل ليلة إلى الفجر من اليوم الثاني، وتلك هي أصوات المقرئين تجلجل في الإذاعات صباح مساء. وتلك هي الإذاعات التي تسمى إذاعات القرآن، ألا ترى إلى أولئك المذيعين الذين يُبثّون نشرات الأخبار كيف يتوقفون فجأة عن المتابعة عندما يحين وقت الصلاة؟ إذن الإسلام لا يعاني من غربة.


بحثتُ أيها الإخوة في كتاب الله عن آية أو آيات تتحدث عن ضرورة كسوة المآذن بهذه الأضواء الساطعة كدليل على أن الناس في هذه البلدة لا يزالون معتصمين بحبل الله، بحثتُ عن نصوص تُلزم المسلمين بالقِباب الضخمة العالية وبالأضواء الساطعة التي تكسو جنبات المساجد. وبحثتُ في كتاب الله عز وجل عن آية أو آيات تُلزم المذيع بالتوقف عن الإذاعة لأن وقت الصلاة قد دخل فلم أجد، وإنما وجدت هذه الآيات التي تلوتها عليكم.


هذه المظاهر التي نراها إنْ هي إلا غطاء لغربة الإسلام، هي بديل تُتَّخَذ عن الأوامر التي خاطبنا الله سبحانه وتعالى بها، والنواهي التي حذّرنا الله عز وجل منها.


 


ها هم أولاء المسلمون ساروا في الطريق المناقض لوصايا الله عز وجل، وتلك هي طائفة من آيات الله تلوتها عليكم أين هم الذين وقفوا عندها بخجَل أو استحياء؟ أين هم الذين قالوا: لقد خالفنا أمر ربنا وعلينا أن نؤوب ونتوب إلى الله سبحانه؟ أين هم؟ إنهم ماضون في هذا السير المناقض لأمر الله عز وجل، وإنهم عاكفون على هذا الغي الذي حذّر الله سبحانه وتعالى منه.


ولقد حدّثتُ نفسي في هذه الأيام متسائلاً: تُرى هل لهذه المصيبة أن توقظ المسلمين من غفلاتهم؟ هل لهذه المصيبة أن تعيدهم إلى الاصطلاح مع الله عز وجل فيعودون وقد أدركوا معنى قول الله عز وجل: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل ‌عمران: 3/160]؟ لعل فيهم من يقف عند قول الله عز وجل الذي يحذر من الانصراف من وصايا الله سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ مَنْ هَذا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاّ فِي غُرُورٍ﴾ [الملك: 67/20]. تساءلت تُرى هل لهذه المصيبة أن توقظ قادة المسلمين وشعوب الإسلام من التيه وتعيدهم إلى صراط الله العزيز الحميد وتلهمهم اصطلاحاً جديداً مع الله عز وجل؟ فماذا رأيت؟


رأيت ما يؤلم، رأيت نقيض ذلك؛ سمعت وقرأت كلمات كثيرة قيلت وكتبت تُهيب بقادة العالم العربي في بلادنا هذه أن يعودوا فيحصِّنوا بلدانهم ضد هذا الغزو الذي جاء مستشرياً، كيف يحصِّنونه؟ وبأي وسيلة يحصَّنون بلدانهم هذه؟ يحصِّنونها بالحريات، يحصِّنونها بالديمقراطية، أجل يحصِّنونها بفتح أبواب الحريات ورعاية الحقوق الإنسانية أمام الناس، ولقد كنتُ ولا أزال أيها الإخوة ممن يدعو إلى الحرية وممن يُهيب بالمسلمين والناس جميعاً أن يكونوا حراساً لحقوق العباد، ولكن من الذي قال: إنّ هؤلاء الطغاة الذين جاؤوا يغزون بلادنا العربية والإسلامية إنما دفعتهم إلى ذلك الغيرة على الحريات ألاَّ تُمزَّق؟ من الذي قال: إنهم اتجهوا إلى هذه البلاد بلدة إثر أخرى غيرة على الحقوق الإنسانية ألا تُنتَهك؟ أيُّ مغفَّل يمكن أن يتصور أن هذا هو الدافع؟ هل بقي عاقل لا يعلم أن الذي دفع هؤلاء الطغاة إلى هذا الغزو المستمر إلى الآن إنما هو شيء واحد يتمثل في رغبة القضاء على إسلام المسلمين، في رغبة اجتثاث البقية الباقية من ارتباط المسلمين بإسلامهم؟ ألم نقرأ في ذلك الوثائق؟ ألم نقرأ في ذلك خطابات ألقيت؟ إذن هذا الطغيان الذي أقبل إلينا بخيلائه وكبريائه لم يأت غيرة على الحريات ألا تُنتهك، ولا غيرة على الحقوق ألا تُضَيَّع، وإنما كان العامل الأوحد لهذا الغزو الحقد على دين الله سبحانه وتعالى.


كنت أتوقع من الناصحين الذي يكتبون أو يتحدثون أن يتجهوا إلى قادة المسلمين بنصيحة أخرى هي أُم النصائح كلها، هي المَعِيْن الذي تتمثل فيه حلول كل المشكلات، كنت أتوقع من هؤلاء الناصحين أن يُهيبوا بقادة المسلمين أن يعودوا فيصطلحوا مع الله، أن يجددوا بيعتهم مع الله سبحانه وتعالى، كنت أتوقع من هؤلاء الناصحين على اختلافهم كنت أتوقع منهم أن يُذَكِّروا قادة المسلمين بأنهم جَرَّبُوا سلاح القومية فما أفاد، جرَّبوا سلاح الاشتراكية فما أفاد، جرّبوا وسائل العلمانية فلم تُفِد. ماذا بقي ؟ بقي أن يعودوا إلى النهج الذي أعزهم بالأمس، بقي أن يدخلوا الباب الذي خرجوا أو كادوا أن يخرجوا منه، بقي أن يعودوا إلى بوابة الإسلام فيصطلحوا من جديد مع الله عز وجل، إنّ قادة المسلمين إن فعلوا ذلك فلسوف يخيَّبون آمال الغزاة أولاً. ثانياً سيكون في هذا الحل الضمانة لكل الأُمور الأخرى، في ذلك الضمانة للحريات أن تزدهر، وفيه الضمانة للحقوق الإنسانية أن تُسَيَّج بسياح الحماية، أجل، الإسلام هو الذي يرعى هذا كله، فيه الضمانة أن تُجْتَثَّ جذور الفساد وأسبابه على اختلافها.


كنت أتوقع لاسيما من أناس كانوا ولا يزالون يرفعون شعار الإسلام، شعار الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، أفآل أمر الإسلام في ظل هذه المصائب إلى أن يَضِيع، وإلى أن ينساه أو أن يتناساه حتى المسلمون؟ أصبح الأمل الذي ننام ونستيقظ عليه الأمل الذي يراود عقولنا والذي يطوف بأذهاننا: الديمقراطية، الحريات، هذه الكلمات التي أصبحت جامعاً مشتركاً بين الملاحدة وبين اليساريين وبين الليبراليين وبين الإسلاميين، أين هي الجذور؟ أين هي ضرورة الرجوع إلى حمى الله؟ أين هي ضرورة الرجوع إلى صراط الله؟ أين هم الذين يُذَكِّرون بعودة حميدة إلى رحاب الله والاصطلاح معه وتجديد البيعة له؟ ألا تلاحظون غربة الإسلام أيها الإخوة؟ الحريات.


افترضوا أن أبواب الحريات كلها تفتَّحت دون أن نحقق المناخ الإسلامي المطلوب، ما الذي سيحصل؟ الذي سيحصل أن هذه الحريات ستصبح حظوظاً تتوازعها السفارات الأجنبية، ستصبح حظوظاً تتوازعها سفارات الدول التي تتربص بحقوق هذه الأمة وبأموالها وثرواتها وبدينها، ولنا فيما وقع في الأمس القريب في بلاد قريبة منا أو بعيدة عنا أكبر عبرة وشاهد، بلدة من البلاد الإسلامية فُتحت أمام شعوبها أمام أفرادها أبواب الحريات، فما الذي حصل؟ الذي حصل أن السفارات الأجنبية تسابقت لتشتري حريات الناس، وكان هذا الذي وقع، تصادمت الفئات في ظل هذه الحريات، وسالت الدماء ولا تزال تسيل، وتمزقت الأمة، فلا هي على حرياتها حصلت، ولا هي شيئاً من ثمراتها قطفت، ولا هي غَنِمت دينها، ولا هي استطاعت أن تستمسك بقيمها تلك هي قصة الحرية عندما تُفْتَح أبوابها دون أن يكون هنالك سياج يتمثل في دين، يتمثل في قِيَم.


ولنفرض أن أبواب الحريات فُتحت وجاء من يريد أن يستغل هذه الحرية لرفع لواء العلمانية، لرفع لواء الإلحاد أفنرضى بهذه الحرية؟ من الذي قال هذا؟. ولنفرض أن سبل الديمقراطية، وهي التعبير الذي يستعمله حتى كثير من الإسلاميين، لنفرض أن هذه السبل تفتحت وجاء من يستخدم الديمقراطية هذه بوسائله وبقُدراته وبوسائل يعتمد عليها من سفارات أجنبية، جاء فاستطاع أن يُكَوِّن من قدرته التيار الضخم التيار المتغلب ثم يدعو بموجب هذا التيار هذه البلدة إلى نبذ إسلامها إلى نبذ قيمها إلى لون من الحداثة إلى لون من الليبرالية كما يقولون، أفنرضى بهذه الحرية التي تقدم لنا هذه الحناظل؟ معاذ الله.


كنت أتمنى من أناس لديهم بقية من الارتباط بالله، ومن الانتماء إلى دين الله، ومن إدراك قيمة كتاب الله عز وجل، كنت أتوقع من هؤلاء أن يُهيبوا بقادتهم وحكامهم أن يعودوا فيصطلحوا مع الله سبحانه وتعالى من جديد، أن يعودوا فيعلنوا عن ارتباطهم بالإسلام عقيدة وعبادة وسلوكاً وأخلاقاً، وأن يجعلوا طاقاتهم وقُدراتهم ومؤسساتهم وأنشطتهم المدنيَّة والعسكرية كلها في خدمة هذا المبدأ. كنت أتوقع من الذين ينصحون ويكتبون ويتحدثون أن ينبهوا قادتهم إلى هذا؛ ذلك لأن العدو الغازي لم يأت إلى بلادنا من أجل أنه متألم لضياع الحريات، أيُّ مجنون يتصور هذا؟ لم يأت هذا العدو الغازي بسبب أنه غيور على حقوق العرب والمسلمين أن تُضَيَّع، جاء ليجْتَثَّ إسلامكم جاء ليقضي على دينكم، عرف هذا من عرف وجهله من جهل.


إن لم يكن قادة هذه الأمة يدركون ذلك؛ فعلى دعاتها وعلى علمائها وعلى كتابها وعلى مفكريها أن يجمعوا شملهم وأن يضفِروا جهودهم لتوجيه قادتهم إلى هذا الطريق، ورحم الله المثل القائل: كل الصيد في جوف الفَرا. عندما يتحقق هذا الأمر الحريات تُقدَّس، بطريقها السليم وحقوق الأمة لن تُضَيَّع، لسوف تُسَيَّج بسياج الحماية، ولسوف يكرمنا الله بالنصر والتأييد، هذه الحقيقة ينبغي أن نتبينها أيها الإخوة.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.


تحميل



تشغيل

صوتي