مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 25/04/2003

بغداد لم تسقط والإسلام لن يهزم

بغداد لم تسقط والإسلام لن يهزم


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 25/04/2003


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


لقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يكرم عباده المؤمنين في هذا العصر بهِزَّة توقظهم من سبات، وتعود بهم إلى صراطه العزيز الحميد، وتدفعهم إلى أن يجددوا البيعة بصدق مع الله سبحانه وتعالى. فوقع من جراء ذلك كثير من الناس في يأس لا موجب له، وزجتهم هذه الهزة الربانية الكريمة في حالة من الشؤم لا موجب لها، وتساءل الناس واهتاجوا وهيمن اليأس على قلوب الكثير، وقال قائلون: سقطت بغداد، وصدق الله القائل: ﴿إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ﴾ [يوسف: 12/87].


ينبغي - أيها الإخوة - أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى كان ولا يزال حفياً بعباده، وهو القائل في محكم تبيانه: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً﴾ [لقمان: 31/20] فما يعامل الرب عباده المؤمنين إلا بنعمة، ولكنها قد تكون نعمة ظاهرة جلية تراها البصيرة ويراها البصر، وقد تكون خفية تراها البصيرة ولكن يُحجب عنها البصر. وما حصل نعمة من النعم الخفية المقَنَّعة بغطاء المصيبة أو غطاء البأس. ومن تلا بيان الله سبحانه وتعالى الذي لكأنما تنزل في هذه الأيام؛ لم يجد اليأس إلى قلبه من سبيل، ولا يمكن أن يفتح قلبه لمشاعر الشماتة أو لمشاعر النظرة السوداوية قط، اسمعوا بيان الله سبحانه: ﴿هَذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَهُدَىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ﴾ [آل ‌عمران: 3/138-142] تأملوا في هذا البيان الإلهي في هذه الآيات التي يخاطبنا الله عز وجل فيها، وإن مظاهر الرحمة لجلية فيها، وإن نبضات اللطف لتتجلى في كل كلمة من كلمات هذه الآيات، إنها ليست هزيمة، أخطأ وأبعدَ النُّجْعَة من تصور أن المسلمين قد هُزِموا، إنه ابتلاء وما أكثر الابتلاءات التي لا تكون إلا عِصي تأديب من الله سبحانه وتعالى، ورحم الله من قال:


فقسا ليزدجروا من يكُ راحماً      فلْيقسُ أحياناً على من يرحمُ


هذه حقيقة ينبغي أن نعلمها أيها الإخوة. قالوا وكتبوا وكرروا وأعادوا: إن بغداد سقطت.


ما معنى هذا الكلام الذي لا معنى له قط؟ ما الذي حدث في بغداد أيها الإخوة؟ أمران اثنان لا ثالث لهما.


الأمر الأول: أن الفريق الذي كان يحكم بغداد غاب واختفى.


الأمر الثاني: أن عدواً ساقه الطغيان فدخل هذه الأرض الإسلامية المقدسة.


هل هنالك أمر ثالث حصل؟ لا الأمر الأول يستدعي أن نفسره بسقوط بغداد، ولا الأمر الثاني يستدعي أن نفسره بسقوطها. من الذي قال إن الذين قاتلوا وجاهدوا؛ إن في بغداد أو الذين هُرِعوا إليها من شتى الأقطار العربية والإسلامية؛ من الذي قال إنهم قاتلوا في سبيل حفنة من القادة، في سبيل فريق يحكمون بغداد، حتى نتصور أن هذا الفريق عندما غاب إذن فقد سقطت بغداد؟ إن الذي قاتلوا وإن الذين جاهدوا وإن الذين استاقوا أنفسهم بأرواحهم وبكل قدراتهم ليقاتلوا إلى جانب إخوانهم هناك إنما قاتلوا في سبيل الله، من أجل تحصين هذا الدين، من أجل حمايته عن العدو الذي جاء يحادّ الله ورسوله، إن اختفى الفريق أو لم يختفِ، مَنِ الذي قال إن دعائم الإسلام في بغداد كانت قائمة على هؤلاء الناس؟ من ذا الذي قال ذلك؟


أما الواقع الثاني الذي حصل وهو هذا الاحتلال من هذا العدو الأرعن الذي ساقه الطغيان إلى هذه الأرض المباركة، فقد قلتها لكم أيها الإخوة، وها أنا أعود فأقولها مرة ثانية: إنه لن يهنأ بطغيانه، ولن يهنأ باحتلاله، ولن يجني شيئاً من ثمرات رعونته قط، أجل إنه هدّم الدُّور وقتّل البُرآء وفعل ما فعل، وفتك واستعمل الأسلحة التي يقول إنها ممنوعة، ولكن كل ذلك لا يمكن أن يجعله يصل إلى فرحة بما يبتغيه. إنه كان ولا يزال أجيراً صغيراً ينفذ الخطط التي رسمتها له اليهودية والصهيونية العالمية، وحُمِل كبير هؤلاء الطغاة أو صغيرهم على أن ينفذ هذه الخطط، وسار ما شاء له الأمر إلى تنفيذ هذه الخطط، ولكنّ الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعملون.


لن يفرح هذا الطاغية بطغيانه، ولن يجني ثمرات عمله ولن يصل إلى شيء من الهدف الذي يبتغيه، بل الذي سيحصُل هو نقيض ما قد أَمَّلَه، والزمن المقبل ومُقبلات الليالي والأيام ستؤكد هذه الحقيقة التي أقولها لكم أيها الإخوة.


إذن فبغداد ما سقطت، بغداد لا تزال الأرض التي تحتضن حضارة الإسلام، والتي لا تزال تحتضن التاريخ الأغر لهذه الأمة، بغداد أرضها معجونة بالغيرة على دين الله سبحانه وتعالى، أهلها لا يزالون هم الذين كانوا ولا يزالون حصناً لهذا الدين الإسلامي العظيم، حُرَّاساً لحكم الله وشريعته الغراء. نعم ولسوف تجدون في مُقْبِلات الأيام ما يدل على أن المسلمين في بغداد وفي العراق سيكونون أكثر رجوعاً إلى دين الله سبحانه وتعالى، وأكثر تمسكاً واعتزازاً بحبل الله سبحانه وتعالى من ذي قبل، ولذلك ينبغي أن لا تمكِّنوا هذه الكلمة من أن تتسرب إلى آذانكم فضلاً عن أن تستقر في قلوبكم، بغداد سقطت.


من هو الذي يستطيع أن يبرهن على هذا الكلام الذي لا أصل له؟ الإسلام هُزِم. متى هُزِم الإسلام قبل اليوم حتى يُهزم اليوم؟ وهل هُزم الإسلام في بلاد الكفر حتى يُهزم اليوم في بلاد الإسلام؟ لا الإسلام هُزم، ولا بغداد سقطت، ولا المسلمون الصادقون مع الله سبحانه وتعالى باؤوا بخسران. الأمر على النقيض من ذلك تماماً.


كل ما في الأمر أيها الإخوة أن كثيراً من المسلمين سادرون عن حقيقة إسلامهم تائهون عن الانضباط بما عاهدوا الله سبحانه وتعالى عليه، أسكرتهم الدنيا، أسكرتهم الأهواء والشهوات، فتح الله سبحانه وتعالى عليهم أسباب الرزق وأسباب المتع ونعيم العيش عن يمين وشمال؛ فاشتغلوا بالنعمة التي متّعهم الله عز وجل بها، وعكفوا على المتع التي تتراقص من حولهم، حُجِبوا بذلك عن الله عز وجل، شاء الله سبحانه وهو الحكيم الرحيم أن يوقظهم من هذا السُّبات، وأن يرفعوا رؤوسهم عن العكوف الذي طال أمده على هذه المتع وهذه الشهوات والأهواء، فأرسل إليهم بعض عِصي التأديب، وعصا التأديب كانت ولا تزال مظهر رحمة بالمؤَدِّب أكثر من أن تكون مظهر قسوة، فكيف إذا كان المؤدِّب هو مولانا وخالقنا عز وجل؟


هذا ما حصل والمأمول أن يستيقظ المسلمون من سباتهم، المأمول أن تنتهي السكرة التي تطوف برؤوس كثير من الذين متَّعهم الله سبحانه وتعالى بالرزق الوفير؛ بالذهب الأسود والأصفر والأبيض، المأمول أن يستيقظوا من سُبات. وهذا ما نرجوه، وهذا ما ننتظره، هذا ما قد حصل والله سبحانه وتعالى له أساليبه - إن جاز التعبير - وعِصي التأديب متنوعة متطورة متبدلة.


أما الإسلام فلا يَخْطُرنَّ في بال أيٍّ منكم أنه سيُهزم يوماً ما، كيف، وربنا هو القائل: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾ [الصف: 61/8] هذا كلام رب العالمين سبحانه وتعالى. كيف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما صح عنه: ﴿سيبلغ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار﴾ نعم، حفنة من اليهود تريد أن تطفئ نور الله سبحانه وتعالى بأفواههم القَذِرة؟! حفنة من خُدَّام اليهود جاؤوا من أقصى العالم إلى أرض الإسلام من أجل أن يجتثّوا الإسلام من جذوره؟! هذا مما لا يحصُل، هذا ما لا يمكن أن يتم بشكل من الأشكال أيها الإخوة.


أما الذين تطوف برؤوسهم أفكار عجيبة رصيدها يتمثل في اعتراض على الله أو في عتاب لهذا الذي فوجئ به بعض الناس أو كثير من الناس فهؤلاء لم يتعرّفوا لعلهم على الإسلام، هؤلاء لم يَشَمُّوا رائحة لسُنن الله سبحانه وتعالى في عباده، أجل. قيل لي عن ذاك الذي كتب رسالة جعل عنوانها (رسالة إلى الله) ونشرها في بعض الصحف اللبنانية، قلت لهؤلاء الذين حدّثوني عن هذا الكاتب الغبي، قلت: قولوا له ليُعِد النظر إلى عينه الحولاء لعله أراد أن يبعثها رسالة إلى الخونة العرب، ولكن عينه الحولاء لم تُبَصِّره بمن ينبغي أن يوجّه إليهم الرسالة فوجَّهها أحول العينين أو أعور العينين إلى الله سبحانه وتعالى.


الله، الله جل جلاله كان ولا يزال هو الحكيم الرحيم، الله لا يُخلِف الميعاد، والله سبحانه وتعالى غيور على دينه بمقدار ما هو غيور على عباده المؤمنين أيضاً، ولكن الله سبحانه وتعالى شاء وهو الرحيم الودود أن يربي الخونة، شاء أن يوقظ هؤلاء الصغار الذين أعرضوا عن ولاية الله سبحانه وتعالى لهم، واتخذوا لأنفسهم أولياء من دون الله عز وجل، جعلوا أنفسهم عبيداً لهؤلاء الطغاة الصغار وقد نسوا أنهم عبيد لله، فتحوا الأرض أمامهم وقدَّموا الأعراض لهم وفتحوا الأقنية والتُّرع في طريقهم وقالوا لهم إنْ بلسان الحال أو بلسان المقال: افعلوا بنا ما تشاؤون فأنتم السادة ونحن العبيد، وهل لنا من سبيل أن نقف في وجه سادتنا؟


إذن الرسالة ينبغي أن توجّه إلى هؤلاء وقد وجَّهها الله رسالة إليهم، هذا الذي حصل إنما هو رسالة من الله إلى هؤلاء الناس، أما أعور العينين الذي أرسلها رسالة إلى الله سبحانه وتعالى فعليه أن يعود إلى مرآته فيعالج عينه الحولاء.


أيها الإخوة! كونوا على ثقة بأن الله عزيز قوي، وأن الله غالب لا يُغلَب، وأن الله شاهد لا يغيب، وأن وعد الله سبحانه وتعالى لا يَلحقه خُلْف بشكل من الأشكال، وأن الإسلام ينتشر اليوم كانتشار النار في الهشيم في ذلك المغرب بقسميه الأوروبي والأمريكي.


أقول قولي هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يُرِيكم في قادمات الأيام ما يُثْلج صدوركم. اِنتزعوا اليأس من قلوبكم وإياكم أن تتصوروا أنها هزيمة حاقت بالمسلمين.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 

تحميل



تشغيل

صوتي