مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 11/04/2003

وَاللَّهُ غالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ

وَاللَّهُ غالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 11/04/2003


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


قد عرفتم أن الإنسان عبد مملوك لله عز وجل، وقد عرفتم أن المطلوب منه أن يضع عبوديته لله عز وجل موضع التنفيذ، فيمارس عبوديته لله بالاعتقاد واليقين وبالسلوك والتطبيق. ومن أجلى مظاهر العبودية والعبادة لله سبحانه وتعالى دوام الالتجاء إلى الله ودوام الدعاء على باب الله سبحانه وتعالى.


وقد عرفتم مما ذكرتُ أكثر من مرة أن الدعاء مظهر من مظاهر عبودية الإنسان لله، فهو غاية وليس وسيلة، وقد بيّن لنا البيان الإلهي هذا عندما قال: ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ﴾ [غافر: 40/60] فَفَسَّر الدعاء بالعبادة، والعبادة بالدعاء.


والمطلوب من الإنسان العبد لله أن يمارس عبوديته لله، وإنما يكون ذلك بإعلان عجزه وضعفه واحتياجاته إلى الله سبحانه وتعالى دائماً، وسبيل هذا الإعلان هو الدعاء. إذن الدعاء غاية بحد ذاتها وليس وسيلة.


إذن لا يقولن قائل: أنا أدعو الله عز وجل بشرط الاستجابة، أنا أطلب منه فإن ألحفْتُ بالدعاء وثابرتُ على الطلب فلم يستجب فلسوف أتمرد عليه إذن، ولسوف أُعرض عن الدعاء، ولسوف أقرر أنه لم ينفذ ما قد ألزم به ذاته عندما قال: ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 40/60]. أنت لا تملك عندما تطرق باب الله أن تشترط عليه ما تريد، أنت لست نِداً له، أنت عبده، مهمتك أن تعلن عن حاجتك إليه، مهمتك أن تقف على بابه ذليلاً منكسراً متجلبباً برداء العبودية له؛ سواء استجاب أو لم يستجب، فتح لك الباب أم أغلقه، حقق لك الآمال أم لم يحققها لك. مهمتك أن تظل ملتصقاً ببابه، مترامياً على أعتابه بل قل لي: إن أردت أن تتحول عن بابه إلى أي باب تذهب؟ ومن هو المسؤول الآخر الذي ستتجه إليه بالسؤال؟ لابدَّ أن يكون فرارك من الله إلى الله، وقد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليالي والأسحار والسجود ﴿اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعافيتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك﴾.


أقول هذا أيها الإخوة حتى لا يطوف طائف النفس والهوى أو الشيطان في رأس بعض منكم فيقول له الشيطان: ها قد دعوتَ الله عز وجل مع الآلاف المؤلفة الذين دَعوا، أين هي الاستجابة؟ وأين هو الوعد الذي قطعه الله عز وجل على ذاته؟ إياكم وأن يُدْخِل الشيطان هذا الوسواس إلى قلوبكم.


حصِّنوا أنفسكم ضد وسواسه هذا بالحقائق التالية:


أولها ما ذكرتُه لكم الآن؛ الدعاء غاية وليس وسيلة، ليس وسيلة من أجل الحصول على طلب حتى إذا حصلت على طلبك أعرضت ومضيت، وأكثر ما في الأمر أن تقول للذي أعطاك: شكراً لا، دعاء العبد إذ يتجه به إلى الرب عبودية ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 15/99]. هذه هي الحقيقة الأولى.


الحقيقة الثانية: ألا تستعجل الأمور، من الذي قال لك: إن الله لم يستجب؟ ومن هذا الذي يسير وراء رعونته المستعجِلَة فيفسِّرُ الأمور كما يشاؤُه له هواه، أو كما تشاؤه له رعونته أمر غامض، ما ينبغي أن نستعجل الأمور، وما ينبغي أن نستبق الأحداث، إنني باعتباري واحداً من عباد الله سبحانه وتعالى الموقنين بعبوديتهم له أجزم وأقطع بأن الله قد استجاب، ولا يُشْتَرط ليقيني هذا أن أجد أطياف ذلك تلتمع أمامي اليوم، وما ينبغي أن أجعل من الدليل على يقيني هذا عَجَلة تهفو إليها نفسي. هذا من الخطأ بمكان أيها الإخوة. أمر غامض لا أقول فوجئت به أمتنا العربية الإسلامية بل فوجئ به العالم الإسلامي أجمع، ولكن من الخطأ أن نستبق الأمور ونفسِّرَ الأحداث بما قد يبعث على التشاؤم. الأمر ليس كذلك، هذه هي الحقيقة الثانية.


أما الحقيقة الثالثة: فما قد قلت بالأمس، علينا عندما نمد أيدينا وأكفنا بالضراعة إلى الله أن نتذكر شرائط الاستجابة، وأن نعلم أن لاستجابةِ الله الدعاء شرائط، وأن نعود إلى أنفسنا فنتساءل: هل وفَّيْنا بهذه الشرائط؟


المشكلة أيها الإخوة أن الواحد منا لا يدعو لخاصة نفسه، لو أنه كان يدعو لخاصة نفسه لكان الخطب سهلاً، ولكان تحقيق الشروط أمراً هيناً، بدقيقة واحدة أتوب إلى الله وأستغفره من ذنوبي وأعاهده على عدم الرجوع إلى تلك السيئات ثم أدعوه تتحقق الاستجابة.


لكن عندما أدعو للأمة، عندما أدعو لمجموعة من الفئات والناس؛ أَنَّى لي بأن أضمن أنهم جميعاً قد تابوا إلى الله؟ وأنهم جميعاً انقادوا لأمر الله عز وجل. ينبغي أن أعلم كأن قائلاً يقول لي من الملأ الأعلى: ها أنت دعوت لنفسك فاستجبت، ولكنك تدعو لعامة الناس هَلاَّ دعوتهم قبل ذلك إلى أن يحققوا شرائط الدعوة في أنفسهم؟ ينبغي أن نَشَمَّ رائحة أكفنا، هل تحققت شرائط الدعوة في بلادنا كلها - والعراق واحدة من البلاد العربية والإسلامية ندعو الله لها؟ هل تحققت الشرائط؟


بالأمس في مثل هذا اليوم لفتُّ نظري ونظركم إلى الخيانة؛ خيانتين عظيمتين كبيرتين صاعقتين إحداهما في الجنوب والأخرى في الشمال، وكم من الخيانات بينهما الله أعلم.


هذا الأمر الذي وقع أما ينبغي أن تعلموا أنه حجاب يحجب صعود الدعاء إلى السماء؟ أذكِّرُكم وأذكِّر نفسي بيوم أحد، وغزوة أحد شرَّفها الله عز وجل بوجود حبيبنا المصطفى فيها، انتصر المسلمون انتصاراً باهراً عظيماً، ولكن بعد الانتصار وقعت خطيئة - ولا أقول خيانة - بل هي خطيئة اجتهادية، وقعت من عشرين شخصاً لا أكثر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَسَّرُوا أمر رسول الله لهم إذ كانوا يرقبون ويحرسون ظهور المسلمين في جبل الرماة، فسَّروه على نحو ما طاب لهم؛ فنزلوا قبل أن يأذن لهم رسول الله، وقد ظنوا أن الحرب وضعت أوزارها وانتهى كل شيء، نزلوا مستعجلين بدافع الرغبة في أن يشتركوا مع إخوانهم في الغنائم، إلامَ آل أمر هذا الجيش المنتصر المتوج بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ في دقائق تحول النصر إلى هزيمة، وتحولت هزيمة المشركين إلى انتصار، وأصاب رشاشُ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقع في كمين، كُسِرت رباعيته، وكلكم يعلم الأمر.


قيسوا أيها الإخوة خيانات المسلمين في هذا العصر وما أكثرها وما أكثر تنوعها، قارنوا بينها وبين هذه الغلطة الاجتهادية التي وقعت من عشرين شخصاً على الأكثر، وانظروا ماذا فعل الله عز وجل بأصحاب رسول الله بل برسوله أيضاً صلى الله عليه وسلم.


إذن على هذا الغِرار ما الذي ينبغي أن يؤول إليه أمرنا؟ هو الدمار لو أن الله أراد أن يعاملنا حسَب واقعنا، هذه حقيقة أخرى ينبغي أن تعلموها، ومع ذلك أسْتَدْرِك؛ لا والله إن الله لن يعاملنا بما نستحق هو أكرم من ذلك، يعاملنا بما هو أهل له. لا يزال في هذه الأمة أولياء صالحون مقربون إلى الله عز وجل، لا يزال في أمتنا اليوم من وصفهم المصطفى صلى الله عليه وسلم ((الشعث الغبر الذين لو أقسم أحدهم على الله لأبر قَسَمه)) المأمول - المأمول نقول ولا نتألى على الله - أن يستجيب الله عز وجل دعاءنا وأن يصفح عنا صفحه الجميل وأن يهب طالحينا لصالحينا على الرغم من أن الخيانة كبيرة أيها الإخوة، ولعلكم سمعتم، سمعتم بالتفاصيل التي تغنيكم عن إعادة ذكرها.


الحقيقة الرابعة: هي أن المسلمين أشخاصاً قد يُقتَلون قد يذهبون، ولن يُقْتَل واحد إلا بأجله ولن يرحل واحد من الدنيا إلا عندما يحين حَيْنُه، ولابدَّ أن يرحل إلى الله. أما هذا الدين فلسوف يبقى منتصراً شاء أعداؤه أم أَبوا ﴿إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهادُ﴾ [غافر: 40/51] هو ليس انتصاراً للأشخاص، هو انتصار للدين، وصدق الله القائل: ﴿وَاللَّهُ غالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 12/21] وصدق الله القائل: ﴿إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ [الحجر: 15/9] وصدق الله القائل: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ [الصف: 61/8] وصدق الله القائل: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: 58/21]. آيات كثيرة أيها الإخوة تبين لنا أن انتصار الدين شيء وانتصار الأشخاص شيء.


أما أن يُهْزَم هذا الدين كما يحلم كبير الطغاة بل صغيرهم في أمريكا فهذا ما لن يقع، سيغزو هذا الإسلام أرضه ولسوف تشرق شمس الإسلام في مغربه الذي يقبع فيه، نحن واثقون بهذا.


هذه حقيقة ألزم الله عز وجل بها ذاته العلية، ولسوف يعلو الإسلام ولا يُعلى عليه، ولكن هل هذا يستلزم أن يكون الأشخاص هم الأعلون؟ هل هذا يستلزم أن يكون قادة العالم العربي اليوم - هؤلاء الذين ترونهم وتعرفون عنهم الكثير - هل انتصار الإسلام يقتضي أن يكونوا هم الممثلين له ومن ثم هم المتربعين على عرش القيادة والرئاسة؟ لا. صدق الله القائل: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ﴾ [محمد: 47/38].


هذه الحقائق أيها الإخوة ضعوها في عين الاعتبار، ضعوها في عين الاعتبار، إذن يبتعد وسواس الشيطان عنكم. واذكرا كلام الله عز وجل، واذكروا التاريخ الذي يُطَأطِئُ الرأس له. أجل اذكروا هذه الحقائق المتكررة في كتاب الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ [الصف: 61/8]، ﴿إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ [الحجر: 15/9]، ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: 58/21]. هكذا قضى الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاللَّهُ غالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 12/21]. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل في الحديث الصحيح: ﴿إن الله زوى لي الأرض فأراني مشارقها ومغاربها وسيبلغ مُلك أمتي ما زُوي لي منها﴾ ومعنى ﴿زوى لي﴾ أي صَغَّرها وصغَّرها وجعلها كنموذج كما يقال اليوم نموذج للعالم كله أَرَانيه هذا النموذج وأعلمني أن سلطان الدين الذي بُعثتُ به بعد سائر الرسل والأنبياء سيبلغ هذا الذي زواه الله عز وجل لي. ﴿سيبلغ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار﴾ فاطمئنوا.


لكن الأشخاص شيء ودين الله عز وجل شيء آخر، لو مُلِئت الأرض خيانة ولو تحول الناس الذين هم في ظاهرهم مسلمون لو تحولوا إلى كلاب صيد يصطادون لأعداء الله سبحانه وتعالى الناس ثم يُقَدِّمونهم لهم ويذهبون إلى حال سبيلهم، فإن دين الله سبقى في منجاة عن هذا كله أبداً، اطمئنوا أيها الإخوة. دين الله أشبه ما يكون بهذه الشمس التي تتلألأ في كبد السماء، قد يتحول الناس كلهم إلى كَنَّاسين يثيرون من غبار الأرض ليتعالى هذا الغبار ليصل إلى الشمس، لكن ما الذي سيحصُل؟ سيتهاوى هذا الغبار ويعود إلى رؤوس هؤلاء الكنَّاسين، وستبقى شمس الإسلام مشرقة مُتَّقِدة تَشِع.


هذا هو عزاؤنا، ونحن نذهب ونمضي ولن يذهب إنسان من هذه الدنيا إلى لقاء ربه إلا في ميقات محدود معدود، سواء كان على فراشه، أو كان في ساحة القتال.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


تحميل



تشغيل

صوتي