
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


عِـبـرتــان مـن دروس الـهجــرة
عِـبـرتــان مـن دروس الـهجــرة
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 07/03/2003
بالأمس ودّع العالم الإسلامي عاماً هجرياً بكل ما تضمَّنه من أحداث وعبر، واستقبل عاماً هجرياً جديداً بكل ما يحمله إلينا من توقعات وآمال. ولقد كنت أنتظر أن يحتفي العالم الإسلامي بهذه المناسبة الاحتفال الذي يتفق مع نعمة هذه المناسبة التي أسداها الله سبحانه وتعالى إلى العالم الإسلامي كله؛ ذلك أن يوم الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة هو أول يوم من عمر الدولة الإسلامية المديدة، وهي حقيقة يعرفها كل إنسان ذي وعي وثقافة، ويستحيل ألاَّ يُقَدِّر هذا اليوم قدْره كل من يعلم قيمة الدولة الإسلامية؛ ومعنى قيام هذه الدولة؛ وأثرها على العالم الإسلامي، ولكن نَظَر العالم الإسلامي في هذه المناسبة العظيمة التي مرت - نَظَر يميناً وشمالاً، وتأمل في كل ما حوله فلم يجد دولة تهتم بهذه المناسبة أكثر من الاهتمام التقليدي المتمثل في عطلة تتكرر وتمر.
أيها الإخوة: لست بصدد الحديث عن أحداث الهجرة، فكلكم ينبغي أن يكون قد علمها وحفظها، ولكن المهم أن نقف عند العبر التي تؤخذ من أحداث الهجرة. لا بل المهم أن نطبق هذه العبر على أنفسنا وأن نجعل من دروسها واقعاً نستفيد منه لحياتنا التطبيقية، نجعل منه درساً نستفيد منه لحل مشكلاتنا ومعضلاتنا التي تتراكم في حياتنا اليوم.
أضعكم من دروس الهجرة أمام عبرتين اثنتين لا أزيد عليهما:
العبرة الأولى هي أن كل مَنْ عَبَد المال فلابدَّ أن يكون شقاؤه وذله وهلاكه على يد هذا المال، وكل من استخدام المال خادماً ذليلاً مَهِيناً لمرضاة الله عز وجل؛ لابدَّ أن يتحول المال في حياته إلى مَرْقَاة، إلى سُلَّم؛ يرقى به إلى أعلى درجات العز بعد الذل، الغنى بعد الفقر، القوة بعد الضعف. هذه هي العبرة الأولى، وإنكم لتلاحظون ذلك في معنى ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الوطن والأرض والمال، بل في كثير من الأحيان الأُسر، لحاقاً بما فيه مرضاة الله سبحانه وتعالى، لحاقاً بتنفيذ أمر الله وكأن أحدهم يتجه إلى شطر المدينة المنورة وهو يقول لربه: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 20/84] فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أن تحول المال الذي استخدموه لمرضاة الله والذي أعرضوا عنه بكل معنى الكلمة في سبيل أن يستعيضوا عن المال رضى الله عز وجل؛ كانت النتيجة أن قَدَّم الله لهم من المال سُلَّماً أمام أقدامهم، ارتقوا بهذا السُّلَّم إلى أعلى درجات الغنى وإلى أعلى درجات القوة وإلى أعلى درجات الوحدة والترابط.
أما الدرس الثاني الذي ينبغي أن نقتطف منه العبرة، لا لنحفظها بل لنطبقها، فهي أن الله عز وجل يكلف عباده المؤمنين أن يعتمدوا في سلوكهم وفي أعمالهم على الأسباب المادية التي وضعها فيما بينهم، كلفهم الله عز وجل ألاَّ يدخروا وسعاً لاستخدام هذه الأسباب، ولكن عليهم مع ذلك وبعد ذلك ألاَّ يجعلوا معتمدهم إلا على توفيق الله عز وجل ونصره، وألاَّ يلجؤوا بقلوبهم وبثقة أفئدتهم وبعقولهم إلا إلى نصر الله سبحانه وتعالى وتأييده، وإنكم لتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخر وسعاً في تجنيد الوسائل المادية التي وضعها الله سبحانه وتعالى بين يديه، لم يدخر وسعاً في تجنيد كل هذه الوسائل لإنجاح عمله مهاجراً من مكة إلى المدينة، ولكنه لم يعتمد بيقينه وعقله وإيمانه على شيء من تلك الأسباب، وإنما كان معتمده في ذلك كلّه توفيق الله سبحانه وتعالى، ألا ترون إلى قوله لأبي بكر؛ وقد جمعهما ذلك الغار الصغير الضيق؛ وقد خشي أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحشد الذي أحدق بفم الغار من المشركين؛ ألا تذكرون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما"؟ وإنكم لتعلمون أن الذي وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا الذي أمرهم به الله إنما هو توفيق الله ونصر الله عز وجل فقط: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ﴾ [الأنفال: 8/30] وليس مكر الله إلا تمزيق مكر الماكرين، وحاشا لله أن يمكر، وحاشا لله أن يُمْكَر به أيضاً، فإذا أسند الله عز وجل إلى ذاته العلية المكر فإنما معنى ذلك أن الله خير من يمزق مكر الماكرين. هذه هي العبرة الثانية.
وليت أن المسلمين ينفذون في حياتهم هاتين العبرتين، إذن لَحُلّت مشكلاتهم جميعاً، ولكنهم يُقْدِمون اليوم على النقيض من هذين الدرسين اللذين كم وكم تلقاهما السلف من قبلنا فنصرهم الله سبحانه وتعالى أي نصر.
أما نحن فلقد سلكنا الطريق المناقض.
تقول العبرة الأولى: إن كل من عبد المال - والمال يصدق على كل مظاهر الحياة الدنيا - كل من عبد المال لابدَّ أن يجعل الله سبحانه وتعالى ذلّه وهوانه وهلاكه بواسطة هذا المال. وها نحن اليوم يقول لسان حالنا: مرحباً بالهوان والذل والهلاك الذي يكون سببه تعشق المال، فلنتعشقه، وداوني بالتي كانت هي الداء، هذا هو لسان حال كثير ممن حولنا اليوم أيها الإخوة، النصر كان ولا يزال قاب قوسين أو أدنى من المسلمين، كان ولا يزال ولكن جُلّ المسلمين لا يريدون النصر، يريدون الهوان والذل والانمحاق في سبيل المال، في سبيل الدنيا وزخارفها، في سبيل أَلَقِ الحياة الدنيا الذي يتراقص أمام أعينهم وفي أحلامهم ورؤاهم وبكورهم وآصالهم، في سبيل عبادتهم لزخارف الدنيا هانوا وذلّوا ووضعوا أنفسهم بين ما ضِغَي الهلاك، وهذا معنى تقديم المال والأرض والعرض - أقولها ولست مبالغاً - والعرض لأعدائهم الذين يتوقف نصرهم على هذا الأمر، لماذا؟ ذلك لأنهم عبدوا المال فجرّتهم عبادتهم للمال إلى هذه المهانة، إلى هذا الذل، وإن أعينهم لترى بارقة الهلاك ولا أقول النصر، ومع ذلك فإنهم لينغضون الرأس للهلاك القادم.
عندما يأتي فلول العدو ويقيموا في تلك الأرض إلى ما شاء الله أن يقيموا، لابدَّ لهم من غذاء: يُقدّم لهم الغذاء، ولابدَّ لهم من الغذاء العضوي والجنسي: يُقدّم لهم ذلك كلّه، مرحباً بالعدو الذي جاء ليمحق وجودي.
مناسبة الهجرة تمرُّ وعبرتها تصكُّ الآذان، ولكنها لا تدخل إلى القلوب، لا تدخل إلى القلوب، لو أن هؤلاء المسلمين سلكوا المسلك الذي سلكه أصحاب رسول الله ومن بعدهم السلف الصالح، وأخلاف هذا السلف أيضاً، لو أنهم فعلوا ذلك؛ ورفعوا الرأس عالياً؛ واعتذروا عن تقديم الأرض والمال وكل ما يطلبون؛ وسدّوا المنافذ في وجوه هؤلاء الأعداء؛ أي مسلك يسلكونه للوصول إلى ما يبتغون إطلاقاً بشكل من الأشكال، وهكذا فإن يوم الهجرة يمر ولكنه يمر غريباً كما تمر سحابة صيف ضمن يوم من الصيف اللاهب.
أما العبرة الثانية: فهي كما قلت لكم أيها الإخوة ينبغي للمسلمين أن يستخدموا كل الوسائل والأسباب التي وضعها الله عز وجل بين أيديهم، ولقد قال الله عز وجل عن ذي القرنين: ﴿إِنّا مَكَّنّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ [الكهف: 18/84] أي قدّمنا له الأسباب المادية وألهمناه أن يستعمل هذه الأسباب.
وأظن أن الذين يحاولون أن ينفذوا شيئاً من الأوامر التي خاطبنا الله عز وجل بها - وهم لا يزالون موجودين وإن كانوا قِلّة - حاولوا أن يستنفدوا هذه الأسباب، وحاولوا أن يطرقوا الأبواب، وحاولوا أن يتلاقوا ويجتمعوا وأن تجتمع كلمتهم على أمر سواء، طرقوا الأبواب، سلكوا المسالك، سُدت الأبواب كلها ولم يبقَ إلا باب واحد هو الباب الأساسي؛ وهو الباب الذي ينبغي أن يعتمد عليه المسلمون، وينبغي أن تجتمع عليه عقائدهم وتتعلق به آمالهم، ألا وهو باب الالتجاء إلى الله، هذا هو الباب المفتوح الوحيد أمام المسلمين اليوم أيها الإخوة، وأَعْظِمْ به من باب، وأَعْظِمْ به من سلاح، هذا هو معنى قول الله عز وجل: ﴿يا أَيُّها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 8/64] وكم وقفت أمام هذا العطف: أفيكون المؤمنين مكانتهم في استنزال النصر مثل مكانة رب العالمين؟ لا، الأمر ليس على هذه الشاكلة، إذن ما معنى قوله: ﴿يا أَيُّها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 8/64] حسبك الله، أمَّا مَن اتبع رسولَ الله من المؤمنين فإنما قوتهم في الالتجاء إلى الله، قوتهم في استنزال النصر من عند الله، قوتهم في التوبة إلى الله، في مدّ يد البيعة مجدداً إلى الله سبحانه وتعالى، فالنصر في كل الأحوال يأتي من عند الواحد الذي لا ثاني له، ألا وهو الله سبحانه وتعالى.
هذا هو الباب الـمُفتح أمامنا فهلاّ التجأ المسلمون قادة وشعوباً في هذا المنعطف الخطير الذي نمر به إلى الله بصدق لا بكلمات روتينية – كما يقولون – وبمواقف تقليدية، استجابة لمقتضيات حفلات، أو خضوعاً تحت أضواء حفلات وكاميرات، لا، هلاّ التجؤوا إلى الله عز وجل التجاءً ينبع من مشاعر القلب، ينبع من اليقين بعبودية الإنسان لله عز وجل، كنت ولا أزال أتحيَّن هذه الساعة، أن أجد قادة المسلمين وقد نفضوا أيديهم من الوسائل المادية المختلفة، كنت أتحين هذه الساعة: أن أجدهم وهم متزاحمون على هذا الباب المفتوح، باب الالتجاء إلى الله عز وجل، وقد طأطؤوا الرأس ذلاًّ وخنوعاً لله عز وجل، يدعون، يبتهلون، يتضرعون، ولكني بحثت وبحثت وبحثت فلم أجد، وجدت ذلك؛ بل وجدت كثيراً من ذلك فيما بين الشعوب، فيما بين الأفراد، هذا هو الأمل الوحيد الباقي أيها الإخوة، ولسوف نتمسك بهذا الأمل، وأنا أقول - وهذا تفاؤل أسأل الله عز وجل أن أجده عما قريب وقد ازدهر - بأن الله عز وجل سيخلق أعاجيب النصر وخوارق التأييد للمسلمين إن هم استعملوا هذا السلاح؛ وإن هم تزاحموا أمام باب الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة: كونوا على يقين أن سنة الله لا تتبدل، ووعد الله لا يُخلف ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [آل عمران: 3/151] هذا وعد قاطع من الله عز وجل، وأنا على يقين أن الرعب يفري في قلوب هؤلاء الذين جاؤوا واستوطنوا في بلاد المسلمين تهيُّؤاً لهذه الحرب التي تُطبخ اليوم، ولا ندري ما قد قدر الله سبحانه وتعالى. أنا أعلم أن الرعب يفري في قلوبهم، ولماذا؟ تحاول أمريكا أن تسعى سعيها عن طريق عملائها لكي لا تدخل بغداد إلا في طريق مفروشٍ بالرياحين، لماذا تسعى سعيها إلى هذا؟ لأن الهلع قد أخذ بمجامع قلوب القادة والجنود، تُرى كيف يكون المصير؟ كيف نُستقبل من هؤلاء الناس الذين وضعوا الموت أقدس مقدس بين جباههم؟ من أجل هذا يوحون إلى عملائهم أن يدعو الحكومة هناك أن تفك عراها، وأن يذهب قائدها، لكي يدخلوا وهم مطمئنون، يدخلوا وقد زايلهم الرعب، وقد ابتعد عنهم الخوف.
أجل قرار الله نافذ ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ لكن أين الذين سينتصر الله من هؤلاء الأعداء في سبيلهم؟ أين هم المسلمون؟ أين هم الصادقون؟ أين هم الملتجؤون إلى الله عز وجل في البكور والآصال؟ أرني من قادة المسلمين ثلّة تصدق مع الله عز وجل في الالتجاء إليه، في التوبة بين يديه، في الرجوع إليه، في مد يد البيعة إليه مجدداً، ستجدون عندئذ أعاجيب النصر، وستجدون عندئذ الخوارق التي يكرم الله سبحانه وتعالى بها عباده.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.