مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 24/01/2003

فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا


فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 24/01/2003


فلتتضرع الأمة إلى الله لإزالة البأس، وليكن في مقدمة المتضرعين قادة الأمة في موسم الحج


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


إن من سنن الله عز وجل في عباده أن يأخذهم بالشدة والرخاء، وقد أوضح البيان الإلهي في هذا قول عز وجل: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 21/35]. أما الخير فلكي يتجه الناس إلى الله عز وجل بالشكر. وأما الشر فلكي يوقظهم من غَفَلاتهم، ولكي ينبههم إلى عبوديتهم، ولكي يقودهم إلى باب التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، ومن ثم يقودهم الشر، بكل أصنافه من ابتلاءات ومصائب مختلفة، إلى التضرع بين يدي الله سبحانه وتعالى. وقد أوضح البيان الإلهي هذا في قوله: ﴿فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 6/43]. فأما من كان في قلبه جذوة من الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ولو كانت هامدة؛ فإن الشر لا بدَّ أن يوقظها؛ ولا بدَّ أن يعيدها إلى حرارة الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، ومن ثمَّ فلابدَّ لصاحب هذه الجذوة أن يتوب ويؤوب إلى الله، وأن تدفعه سياط الشر إلى التضرع بين يدي الله سبحانه وتعالى؛ وإذا الشرُّ منصرف وإذا الخير يَحُل محله. وأما الذي فَرغَ قلبه من هذه الجذوة ولم يبق فيه أي بصيص من معاني الإيمان بالله عز وجل؛ فإن المصائب على اختلافها لن تزيد هذا الإنسان إلا بعداً عن الله عز وجل، ولربما أثارت في نفسه مشاعر العَتْب على الله سبحانه وتعالى.


تلك هي سُنة رب العالمين عز وجل وقد نبهنا البيان الإلهي إلى ذلك في كثير من آي كتابه المبين، وإنكم لتقرؤون في هذا كثيراً من مثل قوله عز وجل: ﴿أَوَ لَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا﴾ [آل ‌عمران: 3/165-167] وهكذا فإن المصائب تميز ما بين المؤمن ولو كان تائهاً وعاصياً وما بين المنافق أو التائه عن مولاه وخالقه الذي انقطعت بينه وبين الله أوهى خيوط الصلة به.


ونحن اليوم أيها الإخوة نمر بظاهرة من ظواهر هذه السُّنة الربانية التي يأخذ الله بها عباده، نحن نعاني من شدة كلكم يعلمها، والمصيبة تدنو إلى المسلمين رويداً رويداً، ولاشك أن كل عاقل يفكر وربما يدبر أيضاً ويتساءل عن المصير، وربما تساءل عن الحكمة. أما الحكمة فقد بَيَّنْتُها لكم هي سُنة من سنن رب العالمين يأخذ عباده بالخير والشر. عندما تكون الأمة المسلمة تَغُطُّ في رقاد الغفلة وتَشْرُد إلى تيه الضلال والبعد عن الله ويريد الله عز وجل بها خيراً لا بدَّ أن يوقظها، ووسائل الإيقاظ كثيرة من أبرزها هذه الشدائد التي يأخذ الله سبحانه وتعالى بها عباده.


لكنْ ما المَخْلَصُ من هذه الشدة؟ ما المَخْلَص من هذه المصيبة؟ التي أحدقت بنا من تسلط أشرس أعداء الله عز وجل علينا؟ المَخْلَص واضح والباب إلى هذا المَخْلص مفتوح أيها الإخوة؛ إنه صدق الالتجاء إلى الله عز وجل. وإذا كان الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى مطلوباً في كل الساعات وفي كل الأوقات؛ فإنه في حالات الشدائد وفي الحالات تحيط المصائب فيها بالأمة أكثر ضرورة وأكثر إلحاحاً. وإن كانت الأوقات كلها مناسبة ومنسجمة مع الالتجاء إلى الله والتضرع على باب الله عز وجل فإن موسم الحج إلى بيت الله الحرام أليق هذه الأوقات كلها وأنسبها للتضرع والرجوع إلى الله عز وجل والالتجاء بِذُلِّ العبودية إلى حماه. وهاهو ذا موسم الحج مُقْبل فالظرف الأنسب خلال العام كله قادم إليكم، وباب الالتجاء إلى الله عز وجل مُفَتَّح على مصاريعه أمامكم، ونداء رب العالمين يُهِيب بكل مسلم أن التجئوا إلى الله وتضرعوا إليه فلسوف تجدون المَخْلَص من هذا البلاء ﴿وَما النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [آل ‌عمران: 3/126] و[الأنفال: 8/10] هذا كلام الله سبحانه وتعالى.


وأقول لكم بحق العُدَّة مطلوبة بكل أنواعها وأشكالها، وقد أمرنا الله عز وجل بها في محكم تبيانه ولكن فلتعلموا أن المسلمين مهما تراكمت العُدَد أمامهم، ومهما كثرت القوة المادية بين أيديهم فإن ذلك كله لن يغنيهم شيئاً إن لم يتوج ذلك كله بتاج الالتجاء إلى الله والتضرع على أعتاب الله عز وجل. ودونكم فاسمعوا بيان الله عز وجل: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 8/9] كان ذلك يوم بدر وقد أَعَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك اليوم العُدة، وهَيَّأ ما استطاع أن يهيئ، ولكن النصر لم يأت عن طريق هذه العُدة المادية كثرت أو قَلت؛ وإنما جاء النصر عندما طرق المسلمون وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الرحمة الإلهية عن طريق الإكثار من التضرع والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى؛ فالمسلمون على الرغم من ضعفهم فيما يتعلق بالعُدد المادية وعلى الرغم من ثغرات مادية كثيرة في حياتهم؛ فإن ذلك كله لن يضيرهم شيئاً إن صدقوا في الالتجاء إلى الله والتضرع على أعتاب الله عز وجل.


وأنا أنظر إلى الشعوب الإسلامية فأجد أن فيهم كثرة كاثرة تعي هذا الذي أقول، وتعلم أهمية الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى وإنه ليخيل إلى أن سائر الآلاف بل مئات الآلاف الذين سيتزاحمون وسيتلاقون حول بيت الله العتيق لسوف تتجه لا أقول حناجرهم بل قلوبهم بنشيد واحد إلى الله عز وجل، هو نشيد التضرع، نشيد الالتجاء إلى الله عز وجل مع التجلبب برداء العبودية والمهانة والذل للواحد الأحد سبحانه وتعالى، إن هذا ليخيل إلي وأعتقد أنه حقيقةٌ نافذةٌ سنراها بأعيننا إن شاء الله.


لكن هذا لا يكفي أيها الإخوة، الأمة ليست عبارة عن هذه الشعوب التي تتكاثر في موسم الحج فننظر عبر شاشات الأقنية المختلفة إلى كثرتهم ونُقَدِّر أعدادهم ربما بالملايين، ليست الأمة هذه الفئات وحدها، الأمة أيضاً تتمثل في شطر آخر ألا وهو قادة المسلمين وحكامهم، هؤلاء هم ألسنة الأمة الإسلامية، وهم الذين يمثلون نبضات قلوب المسلمين، هؤلاء هم الذين ننتظر بل تنتظر سُنة رب العالمين سبحانه وتعالى منهم أن يلتجئوا إلى الله، وأن يَصْدُقوا في التضرع على أعتاب الله، وأن يخلعوا سيما الكبرياء والتباهي، وأن يتجلببوا بِذُلِّ العبودية الحقيقية لله عز وجل.


كم وكم أتمنى أن لو عُقِدت قمة إسلامية تكون في مقدمتها قمة البلاد العربية القريبة من المصيبة التي نتحدث عنها. كم أَوَدّ لو عُقدت قمة متميزة عن سائر القِمم التقليدية التي تَتِم بين فترة وأخرى؛ قمة يكون محورها بيت الله الحرام، ويكون موضوعها صدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، ويكون قرارها الذي يتفرقون عنه تجديد البيعة الصادقة مع الله سبحانه وتعالى. وأنا أقول لكم بحق وأنا الضامن، وليسمع من شاء أن يسمع كلمتي هذه، أنا الضامن لو أن هذه القمة المتميزة تَمَّ انعقادها في البلد الحرام وكان محورها كما قلت لكم بيتَ الله العتيق، وكان الموضوع الذي يتبادلونه ويجتمعون عليه صدق الالتجاء إلى الله، صدق التضرع على أعتاب الله سبحانه وتعالى، ثم إذا انتهوا من ذلك إلى القرار الذي يتمثل في تجديد البيعة الصادقة مع الله عز وجل فأنا الضامن بأن النصر سيتحقق وبأن الطغيان الأمريكي سيضمحل في صَغَار وذل. النصر بيد الله والخذلان أيضاً بيد الله عز وجل: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل ‌عمران: 3/160].


ولكني أتساءل ما مدى إمكان انعقاد هذه القمة المتميزة المختلفة عن سائر القِمم التي سمعناها أو سمعنا بها أو رأينا صوراً لها؟ كنت أود لو أن قادة المسلمين تجول في خواطرهم ضرورة هذه القمة، كنت أَوَدّ لو أن قادة المسلمين تنبهوا إلى هذا المفتاح الملقى أمامهم وهو المفتاح الوحيد للنصر لا مفتاح قلبه ولا مفتاح لهم بعده. لو أن المسلمين صادقون في أنهم ينشدون لأنفسهم العزة ويأبون المهانة إذن لاستعملوا هذا المفتاح الذي هو أمامهم أيها الإخوة.


لئن صدق بعضهم في الاعتذار بأنهم لا يستطيعون أن يقفوا في وجه الطغيان الأمريكي في أن يحجزوا بلادهم وأوطانهم عن العدو الذي يريد أن يستعمل هذه الأوطان وهذه البلاد لضرب إخوة لنا في الله سبحانه وتعالى. لئن صدقوا أنهم عاجزون عن الوقوف في وجه هذا العدو فهم ليسوا بعاجزين عن الالتجاء إلى الله، ليسوا عاجزين عن أن يرحلوا كهؤلاء الذين يتجهون إلى بيت الله الحرام في قمة متكاملة مجتمعة، ليسوا عاجزين عن هذا. الذي يشكو ضعفه يلتجئ إلى القوي، ونحن المسلمين ضعفاء إن لم نلتجئ إلى الله، ونحن المسلمين أقوى الأقوياء إن التجأنا إلى الله سبحانه وتعالى.


ولقد سُئِلت البارحة من قِبَل بعض المتنفذين عن العلاج الذي يمكن اتخاذه بعد أن أوصدت الأبواب؟ قلت: هنالك باب هو أَجَلُّ هذه الأبواب كلها مفتوح؛ إنه باب الرجوع إلى الله، باب الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى؛ باب التوبة؛ باب الإنابة. ولا يكفي أن يتمثل ذلك كله في الشعوب التي ترفع أصواتها عالية بصدق الرجوع إلى الله والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى على أنها فئة من مجموع هذه الأمة، وما أكثر الفئات الأخرى التي تتطوّح ولا تزال في أودية التيه والضلال، وتلتقي مع هذا العدو الطاغي تلتقي معه في خندق واحد؛ خندق التبرم من الإسلام، خندق الدعوة إلى الحداثة أنشودة لَحَّنَها الغرب الأمريكي ويتغنى بها كثير من المسلمين الأذلاء في مجتمعاتنا الإسلامية. ولكن مع هذا فإن الله عز وجل يستجيب دعاء الملتجئين إليه، وإن الله من شأنه أن يغفر للطالح بمحبته للصالح، ولكن أين هم القادة الذين يمثلون هذه الأمة؟ لماذا نسمع دائماً صوت الاستغاثة وكلمات التضرع والإنابة إلى الله ونجد صور ذلك بشكل يبعث في الإنسان التأثر البالغ دون أن نجد مرة واحدة هذه الصورة تمثلت في كيان قائد من قادة المسلمين؟ لماذا يُهرع عامة المسلمين إلى بيت الله الحرام ويتعلقون بالمقام ويبكون ويتضرعون وأبحث بعيني ويبحث كل واحد منكم بعينيه عن قادة المسلمين أين مكانهم في سُدَّة التضرع؟ فارغ، مكان فارغ، أين مكانهم في واجب الالتجاء إلى الله؟ ومن هي الفئة التي هي أحوج ما تكون إلى التضرع؟ إنها هؤلاء القادة. عندما يُتَوَّج التجاء المسلمين إلى الله بالتجاء قادتهم، وعندما يُتَوَّج تضرع المسلمين إلى الله في موسم الحج القادم بتضرع قادتهم فاعلموا يقيناً أن نصر الله قد أَزِف، وأن الخذلان لعدو الله وعدو المسلمين قد تحقق. ومع هذا فإن باب الكرم الإلهي لا يُحَدّ، وإنا لنسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يعامل هذه الأمة بما هو من شأنه هو، وألا يعاملها بما هو من شأننا نحن وهو القائل: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شاكِلَتِهِ﴾ [الإسراء: 17/84] وقد علمنا أن شاكلة ربنا الرحمة التي لا حَدّ لها.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 

تحميل



تشغيل

صوتي