مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 20/12/2002

حصِّنوا النعم بشكر الله

حصِّنوا النعم بشكر الله


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 20/12/2002


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


إنكم لتعلمون أنه مرت بهذه البلدة سلسلة من سنوات جفاف، كان من آثارها يقظة المسلمين في هذه البلدة وتوجههم إلى الله سبحانه وتعالى بالالتجاء والدعاء والضراعة، توجهتم إلى الله بصلاة الاستسقاء فدعوتموه وألحفتم بالدعاء وأكثرتم من البكاء والالتجاء. ثم إن الله عز وجل وفق فكررتم ذلك ثانية؛ وعدتم إلى ساحة الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، والتذلل على أعتابه؛ وإعلان الفقر والحاجة إلى كرمه ورحمته وجوده؛ فأكرمنا الله بعد ذلك الجفاف بوابل متَّعَنا به، واستبشرنا به. ثم إن الله عز وجل ضاعف ذلك الوابل في العام الذي يليه فأكرمنا بمزيد من نعمه وأرسل إلينا من قَطْر السماء ما زادنا استبشاراً. ثم إن الله عز وجل ضاعف الخير بعد ذلك في هذا العام مع إقبال عباده إلى الله عز وجل بالضراعة والالتجاء ومع امتلاء المساجد في شهر رمضان بالتائبين والآيبين والمستغفرين والمصطلحين معه سبحانه وتعالى، وها أنتم ترون ثمار ذلك اليوم، وها أنتم ترون مصداق قول الله سبحانه: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 14/7].


عَهْدُنا بهذه النعمة التي تهمي إلينا من سماء الله عز وجل قديم، لعلنا نعود بالذكرى إلى سنوات طويلة كثيرة خلت، حُجِبْنا عن مثل هذه النعمة. ولكن تلك هي سُنة الله عز وجل في عباده؛ إذا نسي العبد ربه أيقظه إلى ذكر ربه ببعض الشدائد وبعض ألوان الحرمان لكي يستيقظ ولكي يعود فيطرق باب الرحمات الإلهية، حتى إذا عاد إلى رحاب الله عز وجل، وعاد فتجلبب برداء العبودية لله سبحانه وتعالى؛ وصل الله سبحانه وتعالى إليه ما انقطع من نعمه وآلائه وإكرامه، فهي في كل حال نعمة يعامل اللهُ عز وجل عبده بها، إما أن تكون نعمة ظاهرة من الخيرات التي يكرمنا بها، وإما أن تكون نعمة باطنة من التربية التي يُرَبِّينا الله سبحانه وتعالى بها.


يجب أيها الإخوة ونحن نستقبل نعمة الله وإكرامه أن نعلم هذه الحقيقة؛ لكي تكون من الفريق الذي يقول: مُطِرْنا بفضل الله سبحانه، ولا نكون من الغَيِّ والضلال من الفئة التي تقول: مُطِرنا بنوء كذا، أو مُطِرنا بالمنخفض الجوي الذي يأتي من بلدة كذا أو من قارة كذا. ينبغي أن نتذكر دائماً أن الـمُنْعِم هو الله وأن المتفضل هو الله، وينبغي أن نربط النعمة بِطَرْقِ باب الله سبحانه وتعالى؛ حتى نزداد ثقة بالله وحتى نزداد يقيناً بسُنَن الله سبحانه وتعالى في عباده، هذا شيء.


الشيء الثاني الذي ينبغي أن نتبيَّنه ونحن نستقبل المزيد والمزيد من إكرام الله سبحانه وتعالى الذي بَعُدَ العهدُ بنا به، ينبغي أن نعود إلى الواجب الذي نبهنا الله سبحانه وتعالى إليه؛ وهو شكر الله سبحانه وتعالى على نعمه، وما أعلم أن كلمة تتكرر في كتاب الله عز وجل بأساليب شتى من الأمر والوصف والبيان وبيان الأهمية ككلمة الشكر؛ شُكرِ الله سبحانه وتعالى، ولو تنبهتم وأنتم تقرؤون كتاب الله عز وجل لرأيتم أن البيان الإلهي يُذَكِّرُنا بشكره كلما نسينا أو كلما كدنا أن ننسى شكره سبحانه. انظروا مثلاً إلى قول الله سبحانه: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 14/7]. انظروا إلى قوله: ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ: 34/15]. تأملوا في قوله سبحانه: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 2/152]. تأملوا في قوله سبحانه وتعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ داوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 34/13]. تأملوا في قول الله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ [لقمان: 31/12]. تأملوا في هذا التحذير الذي يتراءى في قول سبحانه وتعالى: ﴿وَلا يَرْضَى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الزمر: 39/7]. والكلام الذي يتضمن المزيد والمزيد من التنبيه إلى شكر الله عز وجل في كتاب الله الـمُنَزَّل علينا شيء كثير، ولا أريد أن أطيل الحديث فيه، لكن ارجعوا إلى كتاب الله لتتأملوا ولتتبينوا مدى أهمية شكر العبد لربه سبحانه وتعالى عندما تصل إليه منن الله عز وجل وتمتد إليه رحماته وأفضاله.


أيها الإخوة: شكر الله سبحانه وتعالى يبدأ بكلمة يرددها اللسان ثم إنه لا ينتهي معناه إلا بتنفيذ ما أمر الله، والابتعاد جُهد الاستطاعة عما نهى الله عز وجل. أول مرحلة من مراحل الشكر أن يلهج اللسان بشكر الله سبحانه وتعالى وحمده، ثم إن سلسلة الشكر تمتد ولا تنتهي، لا تنتهي إلا وقوف العبد أمام أوامر الله سبحانه وتعالى يُعْلِن خضوعه لسلطان الله وحُكْمِه، ويُعلن ابتعاده جُهد الاستطاعة عما نهى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال ربنا سبحانه وتعالى وهو يُذَكِّر آل داود بالشكر، يقول: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 34/13]. لو كان الشكر يقف عند الكلمة التي يرددها اللسان لكان الشاكرون كثيراً. ولكنَّ الله يقول: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ ليبين لنا أن أول معاني الشكر يبدأ بنطق اللسان ولكنه يستمر ويستمر إلى أن ينتهي عند الوقوف على حدود الله سبحانه وتعالى.


حَصِّنوا - أيها الإخوة - النعم التي تهمي إليكم من عند الله عز وجل حصِّنوها بشكر الله، هي كنز تنبعث منه سائر الكنوز الدنيوية الأخرى، ولا بدَّ للكنز من وعاء يحويه ويُحَصَّنُ فيه، ووعاء هذه النعمة التي يُسْدِيها الله عز وجل إلينا إنما هو شكر الله سبحانه وتعالى. هذا الشكر يتمثل كما قلت لكم في حركة اللسان أولاً إعلاناً عن عبوديتنا لله واعترافاً بفضل الله عز وجل علينا، ثم إن تفسير هذه الكلمة لا يمكن أن يتم إلا بالالتزام بأوامر الله والوقوف عند حدود الله تعالى. هذا الكلام الذي أقول ينبغي أن يتمثله المسلمون جميعاً، ينبغي أن يتمثله كل من تأتيه رحمات الله سبحانه وتعالى وأفضاله، بكل فئاتهم وعلى كل مستوياتهم، وأحوج الناس إلى شكر الله الذين يتبوؤن مراكز المسؤولية في بلاد الله الإسلامية الواسعة؛ هؤلاء أحوج ما يكونون إلى أن يشكروا الله سبحانه وتعالى، إلى أن يشكروه بألسنتهم، وأن يشكروه بسلوكهم، وأن يشكروه بالتزاماتهم.


ولقد قلت لكم مرة بل لعلي قلتها مراراً: لا أجد منظراً أجمل ولا أبعث للنشوة في النفس من منظر مسؤول كبير بَوَّأه الله سبحانه وتعالى مركزاً عالياً مَتَّعَه من خلاله بنعمه الكثيرة، أَنْظُرُ إليه وهو يتبوَّأ هذه المكانة الباسقة؛ وإذا هو متجلبب برداء العبودية لله، متذللٌ لمولاه وخالقه، منكسرٌ على أعتابه يبسط كف الرجاء إليه. هذا المنظر كم وكم أتمنى أن أراه في رجال بَوَّأهم الله سبحانه وتعالى المكانة الباسقة.


لو أن هذا المنظر تكاثر إذن لرأيتم أن نصر الله سبحانه وتعالى رفيق لنا، ولرأيتم أن إكرام الله سبحانه لا يتخلى عنا، ولرأيتم أن حمايته تطوف بنا صباح مساء، ولا تستطيع أمة من أمم الطغيان أن تنتقص من حقوقنا أو أن تسيء إلينا بشكل من الأشكال، ولكنَّ الأمر كما تعلمون، هذه الصورة التي أتمنى أن أراها كنتُ ولا أزال أنتظر أن أراها ولا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون، لا أيأس ولكنني أنظر اليوم عن يمين وشمال وأتصور أَنْ لعلي أجد إنساناً متَّعَه الله بمكانة باسقة يهبط إلى ساحة العبودية لله سبحانه وتعالى فيشكره عند الرخاء، ويلتجئ إليه عند الشدائد، ويرتدي كسوة العبودية حقيقة لله عز وجل، لا أزال أنتظر هذه الصورة التي تبعث نشوة ما مثلها نشوة في الفؤاد. ولكني أنظر فأجد ما يُنْذِر بنقيض ذلك؛ أنظرُ فأجد من ينتقص من حدود الله عز وجل، أنظرُ فأجد من يعبث بشرائع الله سبحانه وتعالى وأحكامه. وأتأمل في هذا الذي يبعث غضب الله عز وجل يُخَيَّل إلي أن عذاب الله أصبح قاب قوسين أو أدنى منا. ولكني أتذكر رحمة الله، أتذكر فضل الله، أتذكر مغفرة الله فألجأ إلى حُسن الظن وإلى الأمل بأن الله عز وجل لن يأخذ صالحي هذه الأمة بطالحيها. بل أرجو وآمُل أن يغفر الله سبحانه وتعالى لطالحيها وإن كثروا بفضل صالحيها وإن قَلُّوا.


أتأمل أيها الإخوة فيما قد ذكرته لكم في الأسبوع الماضي؛ في أناس يرتدون كسوة الدعوة إلى الله، ويَظْهَرون أمام الناس بمظهر المشيخة والحديث عن أحكام الله وأوامره وأُفاجأ بماذا؟ أُفاجأ بأنهم خَدَم لأولئك الذين يهمسون في آذانهم من الطغاة المستكبرين على الله، والذين أعلنوا الحرب على قرآن الله وإسلامه، يهمسون في آذانهم أن غَيِّروا وبدِّلوا، فيقول قائلهم - والعِمَّةُ على رأسه - سمعاً وطاعة.


كنا ننتظر أن تكون هذه الكلمة مُوَجَّهة إلى المولى الخالق عز وجل ولكنها موجَّهةٌ منهم إلى أمريكا، نعم أمريكا هي التي توحي بتغيير كثير من مبادئ دين الله، هي التي توحي وتأمر بتغيير كثير من شرائع الله ومنها الربا. ليت شِعري لماذا لم يكن يُعْلِنها شيخ الأزهر قبل اليوم، أن هذا الذي حرَّمه الله ليس محرَّماً؟ لماذا اكتشف اليوم أن الربا الذي تتعامل به البنوك ليس محرَّماً قط؟ لماذا لم يعلم قبل عشر سنوات؟ لماذا لم يعلن ذلك قبل عشرين عاماً؟ والربا الذي يتعامل به هؤلاء اليوم هو ذاك الذي كانوا يتعاملون به بالأمس. لماذا لم يكن يُعْلِنها قبل اليوم؟ لأن أمريكا لم تكن قد أمرت بذلك بعد. أما اليوم فقد جاء الأمر. وإذا جاء أمر أمريكا فقد غاب أمر الله؛ والعياذ بالله، غاب أمر الله عن تلك الرؤوس المأفونة. أما أمر الله في الحقيقة فمهيمن لا يمكن أن يتعالى عليه أمر آخر.


ستسمعون المبررات المختلفة، ولسوف تسمعون الحيثيات المتنوعة أملاً في أن يُغَرَّ السُّذَّج بذلك، وأملاً في أن يُصَدِّق العامة من المسلمين هذه المبررات وهذه الحيثيات؛ إن البنك وكيل عن المقرض، أو إن المقترض وكيل عن المقرض، كلام من الدجل بمكان، أو إن العملية عملية استثمار وإنها فائدة في الاسم وأرباح في الحقيقة. ستسمعون كلاماً من هذا القبيل. وإنه لَلْكلام الذي قاله اليهود عندما أنزل الله عز وجل قرارا بحرمة الربا، إذ قالوا: ﴿إِنَّما الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا﴾ [البقرة: 2/275]، قالوا الكلام الذي يُقال اليوم: ﴿إِنَّما الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا﴾ [البقرة: 2/275]. ولكن الله أجاب من مستوى الألوهية قائلاً: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾ [البقرة: 2/275]. فليكن البيع كالربا، قولوها كما تشاؤون، وخالقكم الواحد الأحد ومولاكم الفرد الصمد. أحلَّ البيع وحرَّم الربا. وليس للعبد إلا أن يطيع الرب. ولكن ما أشبه اليوم بالبارحة، ها هي ذي الكلمة التي تَوَجَّه بها اليهود إلى رسول الله قائلين: ما الفرق؟ إنما الربا لون من ألوان الاستثمار يشيع بين مقرض ومقترض، وإنها لصورة من صور البيع يتجاذبها المتعاقدان. وجاء جواب الله من مستوى الربوبية: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾. واليوم يتردد الكلام ذاته، لكن لا على ألسنة اليهود، وإنما على ألسنة خُدّام لليهود.


اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الشاكرين لنعمك والمثنين عليها. اللهم وفقنا لأن نكون من الحامدين لك ومن الشاكرين لك، ولا تَزُجَّنا في مَهْيَع الذين أبدلوا نعمتك كفراً.


اللهم إنا نسألك ألاَّ تُهلكنا بفعل الطغاة من عبادك. اللهم إنا نسألك ألاَّ تأخذنا بجريرة الذين استمرؤوا العصيان.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي