مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 25/10/2002

لهذا يستشري الفساد والإفساد؟!

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.




أمّا بعدُ فيا عباد الله ..



إن من رحمة الله عز وجل ولطفه بعباده أنه خلقهم مفطورين على الحنفية السمحاء، مفطورين على التوجه إلى الصلاح لا إلى الانتقال إلى أسباب الفساد، أليس هو القائل )فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَهّ[ وإنما المراد بالفطرة فطرة التوجه إلى الصلاح والابتعاد عن الفساد وأسباب الفساد. ألم يقل في الحديث القدسي )إني خلقت عبادي حنفاء كلهم[.



ثم إن من مظاهر لطف الله وفضله ورحمته أيضا على عباده أنه سخر لهم الأرض وما في داخلها من ذخر وما فوقها من خير، وسخر لهم البحر واليابسة منظمة صالحة بعيدة عن أسباب الفساد، قد قدرت فيها أقواتها وليس بين الإنسان وبينها إلا أن يستفيد منها وأن يسخرها لمصالحه وأن يبتعد عن أسباب الفساد فيها. هذه من أجل مظاهر لطف الله سبحانه وتعالى بعباده، ثم إن الله عز وجل أتم فضله وأكمل إحسانه إليهم أن أقام لهم حارساً على هذا الذي أكرمهم الله عز وجل به، فأقام لهم حارساً على الفطرة التي فطرهم جميعاً عليها وعلى الأرض أن لا يلحقها أي فساد بعد أن أصلحها الله سبحانه وتعالى.



ماذا كانت هذه الحراسة أو من هو هذا الحارس الذي أكرمه الله عز وجل به؟



إنه هذا الدين الذي شرفنا الله سبحانه وتعالى به. وما الدين الإسلامي في جملته وتفصيله الذي هو الدين الأوحد الذي خاطب الله عز وجل به عباده جميعاً منذ فجر الخليقة إلى اليوم إلا الحارس الأمين للأرض أن لا يلحقها فسادٌ بعد صلاح وللإنسان أن لا يتسرب إلى فطرته الإيمانية المتجهة إلى الصلاح أي سبب من أسباب الفساد، هذا هو الدين. ولذلك فإننا عندما نريد أن نتعامل مع هذا الإسلام الذي شرفنا الله عز وجل به وعندما نريد أن نطبقه نجده يقول )وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا[ ينهانا عن أن نفسد هذه الأرض التي سلمنا الله عز وجل إياها صالحة في ظاهرها وباطنها، لا تقدم لبني الإنسان إلا خيرا، لا تفرز لهم من داخلها أو خارجها إلا رزقاً طاهراً مطهراً. جاء الدين ليمنعنا من أن نتلاعب بهذه الأرض ونظامها الذي أقامها الله عز وجل عليه كي لا يتحول الصلاح إلى فساد، ثم إن الله عز وجل خاطبنا عن طريق هذا الدين أيضاً فحذرنا من أن نتلاعب بالفطرة التي فطرنا الله عز وجل جميعاً عليها فطرة تتجه بنا إلى حيث الصلاح، إلى حيث الرشاد، إلى حيث معرفة الذات. تتجه بنا للوقوف تحت مظلة العبودية لله عز وجل، تتجه بنا إلى سبيل التآخي، إلى سبيل التآلف والود، تتجه بنا إلى كل ما يدخل تحت معنى الإصلاح وتبعدنا عن كل ما يدخل تحت معاني الفساد أو الإفساد. و



كم وكم يحذر البيان الإلهي التائهين الذين شردوا عن فطرتهم الإيمانية السليمة واتجهوا إلى السبل المتعرجة التي لن تنتهي بهم إلا للفساد أو الإفساد. انظروا إلى قوله سبحانه: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ؛ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ[. ألا تلاحظون كيف أن الدين يدور على محور حراسة هذا الصلاح الذي يتمثل في الفطرة الإنسانية السليمة والذي يتمثل في المسخرات الكونية التي سخرها الله سبحانه وتعالى لنا.



انظروا إلى هذا التحذير الذي وجهه الله عز وجل إلى قارون عن طريق الناصحين له )ابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[.



انظروا إلى قوله سبحانه وتعالى وهو ينعي على أولئك الذين شردوا عن النصائح الربانية والوصايا الإلهية فأوقعوا أنفسهم في السبل المتعرجة التي انتهت بهم إلى الفساد والإفساد، انظروا إلى قوله )ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[



هذا هو محور الدين أيها الإخوة في عقائده، في شرائعه، في أخلاقياته، هو في كل ذلك حارسٌ لهذا الصلاح الذي شرفنا ومتعنا الله عز وجل به. صلاح الفطرة الإنسانية أولاً وصلاح المكونات التي سخرها الله سبحانه وتعالى لنا، وكأن الدين يقول لنا لقد وضعتكم على طريق كله خير أوله وأوسطه ومنتهاه صلاح وخير فما عليكم إلا أن تجعلوا من نصائحي حارساً لهذا الصلاح الذي متعتكم به وانظروا إلى الأرض التي أقمتكم عليها، انظروا إلى الذخر الذي في داخلها، والخير الذي يتفجر من ظاهرها، انظروا إلى البحار وما فيها، انظروا إلى هذه المسخرات لقد أقمتها على خير ما يمكن أن يصلح أمركم، فلا تتلاعبوا بشيءٍ من هذا الذي أصلحته لكم ووضعته بين أيديكم، هذا ما يقوله لنا الدين.



ولكن ننظر أيها الإخوة فنجد أن الفساد هو الذي يستشري اليوم ونبحث عن الصلاح الذي أكرمنا الله عز وجل به وأقامنا من دينه الحنيف حارساً، نبحث عنه ذات اليمين وذات الشمال فلا نجد أو قل ما نجد وصدق الله القائل ظهر الفساد في البر والبحر فعلاً ظهر.



ومصدر الفساد مصدران اثنان لا ثالث لهما: كبرٌ يهيمن على عقل الإنسان فينسى هذا المستكبر في سبيل كبره غيره، ينسى مصالح الآخرين، ينسى حقوق الآخرين، ينسى قوانين الصلاح في علاقات الناس بعضهم مع بعض وينسى قوانين الصلاح التي أقامها في المكونات التي من حولها. هذا هو السبب الأول، أما السبب الثاني للفساد فهو الشراهة العجيبة التي يعاني منها كثيرٌ من الناس في اتجاههم إلى محبة الدنيا والمال بل إلى محبة المال، هذه الشراهة التي تصل إلى درجة الشذوذ في حب المال هو المصدر الثاني للفساد.



أعطاك الله سبحانه وتعالى من مقومات السعادة ما يكفيك ويزيد، هو القائل )وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ[، متعك الله سبحانه وتعالى من الدنيا وثمارها ومعطياتها وخيراتها وأرزاقها ما يكفيك بل ما يغمرك غمراً، ولكنك لا تشبع يا ابن آدم ولا تكتفي يأتيك المال من كل صوب وكلما جاءك هذا المال وازداد وتكاثر وتراكم لديك كلما شعرت بمزيد من الافتقار إلى المزيد، تسلك السبل المختلفة لجمع هذا المال، لا تبالي بحقوق الآخرين، لا تبالي بأن الناس كلهم عيالٌ لله سبحانه وتعالى وعبيد ولا بد أن يتقاسم الجميع أرزاق الله سبحانه وتعالى فيما بينهم بالعدل وبالمساواة، ينسى هذا الإنسان الشره هذا النظام الإنساني بل ينسى فطرته التي فطره الله عز وجل عليها فيعبث ذات اليمين وينتهي في عبثه إلى شر أنواع الفساد، فهذا هو المصدر الثاني للفساد.



المصدر الأول الاستكبار ومن خلال الاستكبار ينسى المستكبر وجود الآخرين فضلاً على أنه ينسى حقوق الآخرين أيضا ومن خلال هذا السبب تقوم الدنيا ولا تقعد اليوم بهذه الفتن الصاخبة التي ترونها وتسمعون عنها، فسادٌ وأي فساد يستشري ويهدد بقاع وبقاع وبقاعا ويستلب حقوقاً وحقوقاً وحقوقا، هل هنالك فساد شرٌ من هذا الفساد لا؟ ما سببه سببه وما مصدره؟ الاستكبار. وما دواء الاستكبار؟ أن يعود الإنسان ويقف تحت مظلة العبودية لله لا دواء للاستكبار إلا هذا إذا عرف نفسه عبداً مملوكاً لله عز وجل خنع وخضع وتذكر الآخرين وتذكر حقوق الآخرين أيضاً.



أما السبب الثاني: فهو السبب الذي تجدون منه نماذج في كل بلد مع التفاوت والاختلاف، هذا السبب الثاني هو الذي يجسده رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: )لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانيا ولو كان له واديان لابتغى إليه ثالثاً ولا يملئ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب[



انظروا أيها الإخوة إلى قوله )لو كان لابن آدم واد من مال[ إن كلمة ابن آدم ليست للاستغراق ليس معنى كلام رسول الله أن كل فردٍ فردٍ من أولاد آدم هذا شأنهم لا بل فيهم من وقفوا تحت مظلة العبودية لله ونفذوا وصايا الله ونفذوا الأوامر الربانية التي جعل الله منها حارساً لصلاح أمرنا ولصلاح مجتمعاتنا لكن معنى كلام سيدنا رسول الله أن الشأن في ابن آدم إن لم يرعوي، إن لم يقف تحت مظلة العبودية لله الشأن فيه إن شرد عن وصايا الدين وأحكامه هكذا، لو كان له واد وادٍ من مال لشعر أنه فقير ولابتغى إليه ثانياً، ولو كان له واديان لرأى أنه أفقر ولابتغى إلى الواديان ثالثا .. ًوهكذا دون انتهاء، متى متى ينتهي الفقر ومتى ينتهي الشعور به؟ لا ينتهي إلا إذا وسد الإنسان في التراب، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. هذا هو السبب الثاني.



ننظر فنجد في المجتمعات أناساً يذهل الإنسان ويعجب لشأنهم، يأتيه المال من كل حدب وصوب ويشعر بالاستغناء ولكن لا يكون شأنه إلا كشأن الإنسان الذي ظمئ فشرب كأساً من الماء المالح يشعر بمزيدٍ من الظمأ، يعود فيشرب فلا يزيده الشرب إلا شعوراً بمزيدٍ من الظمأ وهكذا، يصبح هذا الإنسان مضرب مثل للوحشية لو أتيح له أن يمتص دماء الناس جميعاً ويحيلها إلى مال يضيفه إلى المال لديه لفعل. وهكذا يستشري الفساد والله عز وجل يقول لنا في آيات كثيرة لو تأملناها وتدبرناها: يا ابن آدم أصلحت شأنكم ونشأتكم على الفطرة فطرة الصلاح، ثم إني سخرت لكم مكونات كثيرة من حولكم، أقمتها على أدق مناهج الصلاح وليس المطلوب منكم إلا أن تحرسوا صلاح أنفسكم وصلاح أرضكم ومجتمعاتكم، وها أنا ذا قد أكرمتكم بحارس فأكرموا وفادة هذا الحارس واجعلوه خير ناصح لكم، من هو هذا الحارس؟



دين الله سبحانه وتعالى، عبوديتي لله تقلم أظفاري، عبوديتي لله تبعد أسباب الفساد عن مخيلتي، عبوديتي لله تجعلني إنساناً موطئ الأكناف أتآلف أود أتآخى، هذه هي الوصية الربانية التي يوصيها الله عز وجل إلينا.



فإن رأيتم أيها الإخوة فساداً يستشري فاعلموا أن له منبعين اثنين، الأول الاستكبار وهو داءٌ عالميٌ نعاني اليوم منه. الثاني الشراهة العجيبة التي تتجه إلى حب المال حتى لكأنها تعمي صاحبها عن وجود الآخرين. ينبغي أن يتحول الناس كلهم مملوكين لملكيته وحده، ولا دواء إلا الرجوع إلى الله حيثما وجدتم هذا الفساد مستشرياً فاعلموا أن الحارس مغيب، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا عوداً حميداً إلى دينه حتى تعود حراسة هذا الدين إلى أنفسنا وإلى المكونات التي سخرها الله سبحانه وتعالى لنا.  فاستغفروه يغفر لكم.   

تحميل



تشغيل

صوتي