مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 06/09/2002

لتنتعش أرواحنا ...

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.




أمّا بعدُ فيا عباد الله..



أن ينظر أحدنا إلى واحد من عامة المسلمين فيجده مستغرقاً في ذكر الله سبحانه وتعالى مستغرقاً في شهوده ومراقبته ليس أمراً غريباً، أما أن ينظر أحدنا إلى رجلٍ من الأغنياء المترفين الذين انهالت عليهم نعم الله الدنيوية من كل جانب أو إلى رجل أوتي قدرةً وأوتي زعامةً وقيادةً مطلقةً وقوةً في الحكم والسلطة، أن ينظر إليه فيجده جالساً منصرفاً إلى ذكر الله مستغرقاً في شهوده ومراقبته، ذلك أمرٌ نادر وعجيب، ذلك لأن الغني المترف الذي انهالت عليه نعم المال من كل حدبً وصوب يكون محجوباً في الغالب بغناه وترفه عن الله سبحانه وتعالى، وصاحب البسطة في الحكم والسلطان والزعامة والأُبهة هو الآخر يكون محجوباً بأبهته وزعامته وسلطانه عن الله سبحانه وتعالى. وإنها لمصيبة ما بعدها مصيبة، ولا تشل فعالية الإسلام في الإنسان المسلم إلا لهذا السبب.



وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت[، أي أن الذي له غذاء دائم من ذكر الله سبحانه وتعالى يتخذ منه ورداً لنفسه، يحيى كيانه بذكر الله بروحٍ أخرى غير الروح التي يتمتع بها جسده، أما المنصرف عن ذكر الله عز وجل المحجوب عن مراقبته ومشاهدته وتذكره فهو لا يتمتع إلا بروح واحدة هي التي يحيى بها هذا الجسد، أما الروح الأخرى فغائبة فمن ثم هو ميت أو هو كالميت، ولا يصلح إسلام امرء إلا إذا كان الذكر قد امتد في كيانه بهذه الروح التي يتحدث عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: )مثل من يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت[ هكذا يقول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم.



ودعوني أقرب لكم هذا التمثيل الدقيق البليغ الذي نبهنا إليه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن الإنسان يحتاج ليتمتع بالحياة التامة يحتاج إلى روحٍ تسري في جسده فتلك هي الروح الأولى، وبها يحيى الجسد، ويحتاج إلى روح ثانية تسري في روحه وبها تحيى هذه الروح المتسربة في الجسد. هذا معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم باختصار. ولكن كيف ذلك؟



ينبغي أن نعلم أن الإنسان إذا طرحنا من كيانه هذا القفص الجسدي فهو شيء واحد هو الروح هو جذع جسده وكيانه، هذه الروح من أين جاءت؟ هبطت إليه من الملأ الأعلى، هذه الروح إلى من تنسب؟ إلى الله سبحانه وتعالى )فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ[ هذا كلام الله عز وجل لملائكته. هذه الروح سكبت في هذا القفص الجسدي وقضي عليها أن تكون حبيسة في داخله، إذا أشرقت هذه الروح على خلايا الجسد تكون من ذلك الإحساس والحياة، وإذا أشرقت الروح على حجيرات الدماغ تكون من ذلك الوعي والعقل، وإذا أشرقت على عضلة القلب تكونت من ذلك عواطف الحب والتعظيم والمهابة والمخافة. فالروح في كيان الإنسان كالجزع من الشجرة تتفجر من هذا الجزع الحياة التي تسري في الخلايا والإدراك الذي يشرق على الدماغ والعواطف التي تنعكس على عضلة الفؤاد، هذه الروح أيها الإخوة الهابطة من الملأ الأعلى قُضي عليها أن تسجن طوال حياة هذا الإنسان فوق سطح هذه الأرض في قفصه الجسدي.



هذه الروح ما الذي ينعشها؟ ما الذي يغذيها وهي غريبة، أُهبطت من عالمها العلوي وأحيطت بجيوش من الغرائز والشهوات والأهواء والرغائب الأرضية التي تعرفونها، هذه الروح إذاً تعيش غريبة في هذا السجن الذي قُضي عليها أن تعيش فيه إلى أمد، ما الذي ينعشها؟ ما غذاؤها؟ غذاؤها ذاك الذي يذكرها بالعالم العلوي الذي أهبطت منه، غذاؤها ذاك الذي يذكرها بمن تنتمي إليه وتنتسب إليه ألا وهو الله سبحانه وتعالى، غذاؤها ذكر الله سبحانه وتعالى. فإذا عاش صاحب هذه الروح غافلاً عن الله محجوباً عن ذكر الله سبحانه وتعالى تائهاً في جنبات الدنيا متقلباً في رغائبها وأهوائها، يستجيب لجيوش غرائزه وهو عن ذكر الله عز وجل تائه ومعرض، إلام تؤول حال هذه الروح؟ تذبل ثم إنها تذبل، ثم إنها تزداد ذبولاً ويؤول أمرها إلى مثل الشجرة التي قطع عنها الغذاء، قطعت عنها السقيا، ومن ثم فإن هذه الروح تكون كالميتة داخل هذا الجسد لأنها لم تنتعش بروحها.



أنت تحتاج إلى روحين، روحٍ يعيش بها جسدك وروح أخرى تعيش بها روحك، هذه الروح الثانية التي تعيش بها روحك إنما هو ذكر الله سبحانه وتعالى. أما الإنسان الذي يقبل على الله عز وجل ويذكره ويراقبه ويتذكره إن لم دائماً ففي بكوره وآصاله، في بكوره ورواحه، إذا تعهد هذا الإنسان نفسه بغذاءٍ دائمٍ لذكر الله عز وجل سرى هذا الغذاء من الجسم إلى الروح، ثم انتعشت هذه الروح وازدادت بذلك انتعاشاً وبذلك تحيى هذه الروح بروحها، ألا وهي الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى، فمن هنا يقول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فيما صح عنه )مثل من يذكر ربه ومن لا يذكره كمثل الحي والميت[ تمثيل دقيق وهذا هو مصداقه الذي أقوله لكم.



فيا أيها الإخوة كما أن الله سبحانه وتعالى أنجدكم بروحٍ تحيا به أجسادكم، أنجدوا روحكم هذه بروحٍ أخرى تتغذى بها وتشعر بالسلوى وهي تتقلب في هذا السجن داخل هذا القفص الجسدي، أنعشوا هذه الروح التي أحيا الله بها أجسادنا، أنعشوا هذه الروح بروحٍ هي غذاؤها الا وهو ذكر الله سبحانه وتعالى ومراقبته وشهوده من خلال تذكر القلب له، هذه الحقيقة التي ذكرها لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم هي السبب في أن بيان الله عز وجل يكثر دائماً من التنبيه إلى ضرورة الإكثار من ذكر الله.



أنا ما رأيت شيئاً يكرر البيان الإلهي الدعوة إليه وبيان أهميته بأساليب شتى كما يكرر الدعوة إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، والسبب هذا الذي أقوله لكم: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا " وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ[. لاحظوا هذا التنبيه وهذا الاهتمام بهذه الدعوة )كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ[.



أما الأحاديث التي يذكرها المصطفى صلى الله عليه وسلم في بيان أهمية الذكر فاعتقد أن كل مسلم ينبغي أن يعرفها: )أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذاذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم[ ما السر؟ السر أن روح الإنسان تحتاج إلى غذائها كما أن الجسد يحتاج إلى غذائه.



من ذا الذي ينسى غذاء الجسد منا أيها الإخوة؟ ليس في الناس من ينسى حاجة جسده إلى الطعام والشراب بين كل حين وآخر، أرأيتم إلى الروح هي كالجسد تماماً تحتاج هي الأخرى إلى غذائها، غذاء الروح شيء واحد لا ثاني له ذكر الله سبحانه وتعالى.



لاشك أن الذكر يبدأ باللسان، وربما قال أحدنا في هذه المرحلة إن الإنسان هو الذي يأخذ حظه من الذكر وأنا لا أشعر إلا بتعب ينتاب لساني بترديد هذه الكلمة التي أذكر من خلالها الله عز وجل، تلك هي المقدمة، ولكن إذا استقر الأمر على هذا المنوال واتخذت من ذكر الله عز وجل بلسانك ورداً فإن حركة اللسان تسري إلى القلب ثم إنها تسري إلى الروح ثم إن الروح تنتعش، تُفتح لها نافذة وهي في سجنها هذا، تشعر من خلال هذه النافذة بما ينعشها بما يجعلها تتذكر العالم العلوي الذي أهبطت منه.



أرأيتم إلى الإنسان الذي اتخذ من ذكر الله عز وجل لنفسه ورداً إنه بعد حين يشعر بنشوة ما مثلها نشوة، يشعر بحالٍ يسميها علماء هذا الشأن البسط أو الوجد أو نحو ذلك، ترى من أين تأتي هذه الحال؟ إنها انتعاش الروح، إنها سعادة الروح، تلقت غذائها، تقلت ما كانت تحتاج إليه فانتعشت ثم إنها انتعشت ثم إنها تذكرت العالم العلوي الذي أهبطت منه فاهتاجت وانتقل شعور هذا الاهتياج إليك، هذا الذي أقوله لكم أريد أن أنتهي منه إلى ثمرة.



أقول باختصار: مشكلات العالم الإسلامي اليوم مهما تكاثرت تتجمع في جزع واحد لا ثاني له، هو أن العالم الإسلامي في معظم أفراده قد نسوا الله عز وجل فأنساهم أنفسهم، ينطبق هذا على معظم قادة العالم العربي والإسلامي ثم إن هذا ينطبق على الكثرة الكاثرة ممن أكرمهم الله عز وجل بالغنى المترف، ممن أنعم الله عز وجل عليهم بنعم دنيوية متنوعة شتى يتقلبون في رحابها، هذه هي الفئة الثانية التي ينطبق عليها هذا الوصف الذي أقوله لكم. وقيادة العالم العربي والإسلامي آيلة إلى تقريباً إلى هذين الفريقين، قادة يحكمون وأغنياء مترفون متسلطون، هذان الفريقان هما المحجوبان في الغالب عن ذكر الله سبحانه وتعالى، الحاكم محجوب عن ذكر الله عز وجل لانشغاله بأبهته، بسلطانه، بزعامته، بقوته يُنسج له من ذلك له حجاب يحجبه عن الله فينساه، وهؤلاء المترفون أيضاً يحجبون بسبب الترف الذي يتقلبون فيه، بسبب سكرة النعيم التي تطوف برؤوسهم، يحجبون عن الله عز وجل، وتبقى عامة المسلمين مهما ذكروا الله ومهما التجؤوا إلى الله عز وجل يقول الله عز وجل )وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً[



أنا أدعوا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يكشف عن أفئدة هذين الفريقين، وأن يمزق الحجب المسدلة بينها وبين الله سبحانه وتعالى، لكي ننظر فنجد الصورة التي تنعش النفس وتطرب العين قبل الأذن، أن أنظر فأجد مظهر قائد من كبار قادة المسلمين ذي أبهة، ذي سلطان، ذي زعامة ذي بطش وقوة وقدرة أنظر فأجده مستغرقاً في ذكر الله، مستغرقاً في مراقبة الله في شؤون الله، هذه الصورة كانت كثيرة جداً في عصر سلفنا الصالح، لكنني أنظر اليوم ذات اليمين وذات الشمال وأتمنى أن أمتع عيني بمنظرٍ من هذا القبيل فلا أجد، كذلكم حال الطبقة الأولى من الموسرين الأغنياء، تأملوا حالهم في هذه البلدة وغير هذه البلدة، هم في شغلٍ شاغل عن ذكر الله عز وجل وكأن لسان حال أحدهم يقول: شغلتنا أموالنا وأهلونا.



يا هذا من الذي أورثك الأموال التي شغلتك عن الله؟ أليس الله هو الذي أعطاك هذه الأموال فكيف تشتغل بنعم الله عن المنعم الذ تفضل بهذه النعم التي تفضل بها عليك؟! عندما يصحو هذان الفريقان إلى ذكر الله عز وجل وعندما تنتعش أرواح هذين الفريقين بعد الذبول والخمود الذي كاد يصل إلى الموت عندما تنتعش أفئدة هذين الفريقين بذكر الله عز وجل وشهوده فأنا الضمين وأنا الكفيل بأن الله عز وجل سيصلح حال هذه الأمة ولسوف يرفع عنها البلاء ولسوف يجمع شملها ويعيد إليها سابق مجدها وعزها والله هو المستعان.



أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.



 



تحميل



تشغيل

صوتي