مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/08/2002

عندما غابت المرجعية

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إنكم لتعلمون أن مصائب الأمة الإسلامية قد تكاثرت وتزايدت حتى كادت أن تحيلها إلى سبب للاختناق والدمار، ولكن ما من ريب في أن أخطر هذه المصائب التي حاقت بها هذا الشتات الذي تسرب إليها، هذه الفرقة التي حلت محل وحدتها، تلك هي المصيبة العظمى التي تفرعت عنها مصائب كثيرة شتى؛ نهانا الله عز وجل عن التنازع فقال: )وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[ ولكنا تنازعنا وأصر المسلمون إلا أن يتنازعوا، نهانا الله عز وجل أن نكون كأولئك الذين تفرقوا فحاقت بهم المصائب من كل الجهات فأبينا إلا أن نسير مسيرتهم وأن نتبعهم فيما نهاهم الله عز وجل وأعرضنا عن قوله: )وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ[. تلك هي المصيبة الكبرى التي حاقت بالأمة الإسلامية وأنا لا أتحدث في هذا الصدد عن فرقة القادة والحكام وإنما أتحدث عن الشتات الذي حاق بالمسلمين بالشعوب الإسلامية بقطع النظر عن حكامهم وقادتهم. فما هو السبب الأهم والأول لهذا البلاء الذي حاق بهذه الأمة بل لهذا المرض السرطاني الذي توضع في كيانها؟

أهم الأسباب أيها الإخوة ذاك السبب الذي يتمثل في غياب مرجعية دينية يمثلها علماء صادقون مخلصون يتمتعون بصلاحية وسلطة تنفيذية، عندما غابت هذه المرجعية التي تتمتع بهذه الصفات كان لكلٍ أن يتكلم عن الإسلام ما يشتهي وكما يريد وكما تقتضيه مصالحه بل كما تقتضيه في كثير من الأحيان رعوناته وأهواؤه. فلما نظر المسلمون عامتهم الجاهلون بحقائق الإسلام نظروا فوجدوا أن كثيرين هم الذين يقفون في فهم الإسلام ليفهموه أو ليفهموه الناس فلا ينزعون إلا من آراء متناقضة مختلفة، ينظر عامة المسلمين فيجدون أن الإسلام ليس أكثر من آراء متصارعة ومن أفكار متناقضة، هذا يحلل وذاك يحرم، هذا يقول إنه جائز وذاك يقول إنه واجب، ذاك يقول إنه بدعة وذاك يقول بل إنه سنة، هذا يكفر وهذا يحذر من التكفير ... وكلٌ يأخذ حظه من الكلام عن الإسلام كما يريد ليس ثمة من رقيب وليس ثمة من مرجعٍ يجمع نثار هؤلاء الناس على صراط واحد، هذا هو السبب الأهم الذي جعل المسلمين يؤولون إلى هذه الحال من الشتات ومن الفرقة، غياب المرجعية الإسلامية التي تتمتع بالصفات التي حدثتكم عنها.

وانظروا أيها الإخوة كيف كان المسلمون فيما مضى متحدين ومن ثم كانوا أعزة؟ ما الذي حفظ عليهم وحدتهم وما الذي جعلهم يستمرون في تضامنهم؟ السبب يعود إلى شيء واحد، أن قادة المسلمين كانوا يعلمون أن مهمتهم الأولى في هذه الحياة تتمثل في حراسة الإسلام وفي النظر إلى شأنه وفي الوقوف على الثغرات التي يمكن أن يتسرب منها المبطلون والمشككون والمعادون لدين الله عز وجل. كان قادة الأمة الإسلامية بكلمة مختصرة خداماً وحراساً لدين الله عز وجل، فكانوا يعتمدون مرجعية إسلامية تتمثل في علماء مخلصين موضوعيين، ثم إن هذه المرجعية أعطيت صلاحيتها التامة ومتعت بسلطة تنفيذية كافية، عهد برعاية الإسلام إلى هذه المرجعية واشترك قادة المسلمين من جانب وهؤلاء العلماء الذين يمثلون مرجعية الإسلام من جانب آخر في حراسة هذا الدين، في حراسة شرع الله سبحانه وتعالى ونظامه، فكان إذا أراد أحد المتسربين بالكيد أو بدافعٍ من دوافع التهديم إلى الإسلام ليسرب فكرة باطلة أو ليتقول على الإسلام ما هو منه بريء ألجم فمه وعوقب وعزر بعد أن يستدعى وبعد أن يناقش وبعد أن يتبين أنه مبطل، ومن ثم فقد كان الإسلام مكلوءً وكان المسلمون محفوظين من كل الجوانب من خطر يتسرب إليهم فيثير فيما بينهم خلافاً فيسبب لهم شقاقاً وفرقة وتشرذما.

واستمرت هذه المرجعية استمرار الحلافة الإسلامية أيها الإخوة، كان الخليفة بل قل كان القائد أو الحاكم كان إذا وقف عند قول الله عز وجل )ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ[ شعر بثقل الأمانة التي وضعت في عنقه، شعر بثقل هذا الشرف الذي عهد الله عز وجل به إليه فسهر ليله وأجهد نهاره وأتعب نهاره في سبيل حراسة هذا الدين من الذين يريدون أن يتربصوا به أو أن يعبثوا به أو أن يحطموه فيحيلوه إلى جذاذ إلى أفكار وإسلامات متناقضة شتى.

منذ عصورٍ قديمة خلت أعداء الإسلام موجودون والمتربصون به كثر ولم يكن وجودهم وقفاً على هذا الزمن فقط، ولكن كانت السبل موصدة أمامهم، وكانت الطرق مليئة بالقتاد ما بينهم وبين الهدف الذي يبتغون، كانت الحراسة قوية وكان دين الله مكلوءً بالخدم الذين يحرسونه، لأنهم كانوا يعلمون أن مهتمهم العظمى التي وكلهم الله عز وجل إليهم هي حراسة الدين، أما اليوم فقد خلف من بعدهم خلف آخر أصبح أولاً قادة المسلمين ينظرون إلى المهمة التي أنيطت بهم فلا يرون إلا مهمة واحدة هي المهمة السياسية بالمعنى الحديث. تلك هي المهمة التي ينبغي أن يتقنها الحاكم بمعنى الكر والفر لأسباب وبأشكال ولغايات متنوعة شتى. أما الغاية العظمى التي خلق الإنسان من أجلها، أما المهمة العظمى التي وكلنا الله عز وجل إليها ووكلها إلينا، فقد غابت عن أذهان معظم القادة والحكام إن لم أقل غابت عنهم نهائياً، وفي أحسن الأحوال وكل الإسلام إلى ما يسمون وزراء الأوقاف أو الشؤون الدينية وننظر إلى المهام التي ينهضون بها وإذا هي مهام تقليدية، مهام إدارية، مهام مكتبية، مهام تقوم على التوقيع وتقوم على تحريك الأمور المكتبية والإدارية والورقية التي تدور في حلقة مفرغة مغلقة. أما الدين وسلطانه، أما هذه الشرعة التي شرفنا الله بها، أما الإسلام الذي خاطبنا الله عز وجل قائلاً: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[ فالمسلمون اليوم بدءاً من قادتهم في شغل شاغل عن حماية هذه الجوهرة، عن حماية هذا الشرف الذي أناطه الله عز وجل بأعناقنا والذي سيسألنا عنه غداً إذا وقفنا بين يديه. لما غابت هذه المهمة القدسية عن أذهان معظم قادة المسلمين وأحيل الأمر إلى موظفين يمارسون هذا الأمر من خلال عمل روتيني مكتبي كما قد قلت لكم، غابت المرجعية وأقول أي مرجعية تلك التي غابت، مرجعية تتمثل في علماء صادقين مخلصين يتمتعون بصلاحيات وسلطة تنفيذية.

هذه هي المرجعية التي أعنيها فأنا لا أعني المجامع الفقهية مثلاً مجامع فقهية كثيرة تجتمع ويتناقشون ويتكلمون ويدلون بأحكام ولكن هذه الأحكام سرعان ما توضع على الرفوف ثم تطوى ثم تغيب ولا نجد أي سلطة تنفيذية تقود إلى تطبيق هذه الأمور بشكل من الأشكال. عندما غابت هذه المرجعية، ما الذي ظهر بعد ذلك؟ ظهرت فقاقيع تتمثل في أناس كلٌ يتأبط غايةً يحلم بها وينشدها ويسعى إليها وكلهم يستخدمون الإسلام لمصلحته وغايته، ليس فيهم من يغار على دين الله وليس فيهم من يريد أن يحرس دين الله عز وجل من العبث، لكن كما قلت لكم: كلٌ منهم ينشد غايته، هذا تقاعد عن عمله الوظيفي فأراد أن يتسلى بعمل من الأعمال لم يجد أمامه شيء يتسلى به ويزجي وقته عن طريقه إلا أن يتسلى ويزجي وقته بالحديث عن الإسلام، غايته مجرد تسلية، عندما كان يمارس عمله الوظيفي كانت الحجب قائمة بينه وبين الإسلام ولم تكن تجده يطبق من الإسلام شيئاً. والآخر يبحث عن شهرة، يبحث عن مكانة، يبحث عن الأصابيع التي تشير إليه ولم يجد سبيلاً إلى ذلك أقصر من أن يتحدث عن الإسلام ويركب إلى هذه الغاية مطية الإسلام. وكيف السبيل إلى ذلك؟ السبيل إلى ذلك أن يعلن الشذوذ تلو الشذوذ تلو الشذوذ فيما يخالف به شرع الله سبحانه وتعالى وأوامره، فإن ذلك قمينٌ أن يلفت أنظار الناس إليه وذلك قمينٌ أن يجعل الناس يتحدثون عنه حتى لو تحدثوا عنه بنقد وعندئذٍ تتحقق له غاية الشهرة التي يبحث عنها، وذلك هو أمله لا يبالي أن سار إلى هذه الغاية على سلم الإسلام، لا يبالي إن اقتضى الأمر أن يحطم مبادئ الإسلام، لا يبالي أن يخالف المقطوع والمجمع عليه في دين الله سبحانه وتعالى مادام أنه يستخدم الإسلام ولا يخدم دين الله سبحانه وتعالى.

والآخر علم أن هنالك طوابير تسربت إلى العالم الإسلامي من العالم الغربي تبحث عمن يعلن استعداده عن تغير الإسلام وتبديله وتطويره وتحويله إلى ساحة للحداثة، أجل فلما علم أن هنالك رسلاً من الغرب يبحثون عن من هو مستعدٌ لتغيير الإسلام وتبديله وتطويره وتحويله إلى ما يشبه كرة بين الفرقاء اللاعبين، سار في هذا الطريق ليلفت أنظار أولئك الناس إلى نفسه لعله ينال بذلك حظوة لعله ينال بذلك ربحاً مالياً، لعله ينال بذلك وظيفةً عظمى، وأنتم تعلمون أن هنالك من لا يتبوء مكانة مرموقة إلا إذا أثبت أنه مستعد أن يعبث بدين الله سبحانه وتعالى، وهكذا نشأت على أعقاب هذه المرجعية فقاقيع من الأفكار التي لا علاقة لها بالإسلام وليست في كياناتها غيرة ما على دين الله سبحانه وتعالى، أخذ كل واحد منهم يدلي بآراءه المخالفة لدين الله، أخذ كل واحد منهم يتحدث عن إسلام جديد يدعو إليه.

أما النصوص فما أيسر أن تلوى أعناقها وما أيسر أن تخضع لقراءة معاصرة جديدة، ومن ثم تكاثرت المذاهب في فهم الإسلام وتفسيره، تكاثرت الآراء في الإدلاء بأحكام الله سبحانه وتعالى في أمور العقائد آناً وفي أمور التشريعات السلوكية آناً آخر وسرعان ما تألفت جماعات تنتصر لهذا الحزب وجماعات أخرى تنتصر لهذا الرأي وجماعات أخرى تنتصر للرأي الثالث، وقام الصراع بين هذه الجماعات المتنوعة المختلفة ونظرنا إلى الإسلام الواحد المجمع الموحد وإذا هو قد تحول بأيدي هؤلاء الحرفيين إلى سبب للفرقى وإلى إسلامات متناقضة مختلفة، ما السبب أيها الإخوة؟ السبب غياب هذه المرجعية التي حدثتكم عنها، المرجعية التي تتمثل في علماء صادقين مخلصين لوجه الله يتمتعون بصلاحية وسلطة تنفيذية أجل.

ربنا عز وجل يقول: )وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ عهد الله عز وجل بهذه الأمة إلى قادة المسلمين، إلى حكام المسلمين وننظر لنجد المصيبة الأطم، هنالك رقابة في كثير من الأحيان تتفتح لها أعين كثير من قادة المسلمين لكنها رقابة تبتغي شيئاً واحد: أن لا يكون حديث المتكلمين عن الإسلام يضر بهؤلاء القادة، أن لا يكون حديث المتحدثين عن الإسلام يتضمن نقداً لهؤلاء القادة، هذه هي الرقابة التي حلت محل السهر على الإسلام ومصالحه فإذا وجدوا أن فلاناً من الناس يسرح ويمرح كما يشاء ويقطع أوصال الإسلام حسب ما يريد وحسب ما يمليه عليه هواه، ولكنه لا يدلو بأي كلمة سوء إلى القادة والحكام يباركون عمله ويعرضون عنه، تلك هي المصيبة الأطم أيها الإخوة.

أتريدون أن تعلموا إذاً السبب الذي جعل المسلمين كشعوب يتفرقون ثم تتحول فرقتهم إلى شتات فتدابر فخصام في كثير من الأحيان هذا هو السبب، وإذا استمر الأمر على هذه الحالة، إذا تزايدت هذه الفرقة ولم نعثر على دواء يحمينا منها فلتعلموا أن قوة هذه الأمة آيلة إلى زوال وأن واقع المسلمين سينتهي إلى خذلان.

نعم لقد ألزم الله عز وجل ذاته العلية بأن ينصر المؤمنين هو القائل: )كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[ لكن أرني المؤمنين الذين هم مؤمنون حقاً والذين هم يسهرون على دين الله حقاً ويعلمون أن مهمتهم الأولى رعاية هذا الشرف الذي أناطه الله بأعناقهم، أريك كيف ينفذ الله عز وجل الوعد الذي ألزم به ذاته العلية، لكن عندما ننظر إلى المسلمين فنجد هذه الحالة التي وصفت لكم جانباً منها ثم ننظر إلى أعداء الله عز وجل الذين يتربصون بدينه لا بد أن نتساءل لمن ينتصر الله عز وجل عندما يريد أن يهلك هؤلاء الأعداء؟ في سبيل من ولسواد عيون من؟ أين هم القادة المسلمون الذين جعلوا أنفسهم خداماً لدين الله؟ أنظر وأبحث يمينا وشمالاً فلا أجد إلا القادة الذين يجعلون الدين خادماً لهم.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح المسلمون قادة وشعوبا وأن يلهمهم الرشد.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.    

تحميل



تشغيل

صوتي