مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 02/08/2002

كيف نعظم كتاب الله تعالى؟

كيف نعظم كتاب الله تعالى؟


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 02/08/2002


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


إن سرّ الإيمان في كيان الإنسان الذي متعه الله بنعمة الإيمان؛ إنما هو الخطاب الساري من الله عز وجل إليه، هذا الخطاب المتمثل في الوحي الذي أنزله الله عز وجل على عباده جميعاً عن طريق خاتم الرسل والأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمن حُرم من هذا السر الذي هو روح الإسلام، والذي هو معين الإيمان فقد حرم في الحقيقة من نعمة الإيمان ذاتها، ولئن لم يتجلَّ له ذلك اليوم فلسوف يفاجئه هذا الأمر الحقيقي عندما يرحل من الدنيا إلى الله عز وجل، سرُّ الإيمان بالله والروح السارية في هذا الإيمان والغذاء الذي به يقوى وبه يدوم؛ إنما هو كتاب الله الذي هو عبارة عن خطاب الله عز وجل لنا، الخطاب الذي شرّف الله عز وجل به عباده، فكيف السبيل إلى أن يمارس الإنسان هذا السر الساري بينه وبين ربه؟ كيف السبيل إلى يغذّي إيمانه بهذا الغذاء الذي لا بديل عنه؟ كيف السبيل إلى أن يحصِّن إيمانه بالله عز وجل عن طريق هذا الكتاب؟


السبيل الأول - والذي لا بديل عنه - هو الإكثار من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، لا بديل عن هذا الأساس أبداً، ولو عدنا إلى كتاب الله عز وجل لرأيناه يوصي المؤمنين جميعاً بالإكثار من تلاوته بأساليب شتى، وبفنون متنوعة مختلفة كما هو الشأن في كتاب الله عز وجل أعرض معكم طائفة، طائفة فقط من الآيات التي يأمرنا الله عز وجل فيها بالإكثار من تلاوة خطابه إلينا: ﴿وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾ [الكهف: 18/27].


ويقول: ﴿اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 29/45].


ثم يخبرنا بهذا الأمر بطريقة أخرى وبأسلوب مغاير يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ [فاطر: 35/29].


وانظروا إلى قوله سبحانه وتعالى في أوائل خطابه لرسوله، وفي أوائل الأمر التي يوجهها إليه من حيث يوجهها إلينا أيضاً: ﴿يا أَيُّها الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾ [المزمل: 73/1-4] هيّئ نفسك من الآن لترتيل الآيات التي ستتنزل عليك خطاباً من الله عز وجل للصفوة المختارة من خليقته.


ثم انظروا كيف يأمرنا الله عز وجل من حيث يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أيضاً بالقيام من الليل، بممارسة ورد دائم من التهجد في أعقاب كل ليلة، ولكنه سبحانه وتعالى يرخّص لمن شغلتهم مشاغلهم، وعاقتهم ظروفهم الجسمية أو الوظيفية أو الأعمال المرهقة، يرخّص الله عز وجل لهم ألاّ يقوموا من الليل على أن يتخذوا بديلاً عن ذلك، وما البديل؟ الإكثار من تلاوة كتاب الله عز وجل، أي فمن لم يُتَحْ له أن يقوم من الليل شيئاً ولكنه ثابر على ورد دائم من قراءة كتاب الله عز وجل، كتبه الله عز وجل من المتهجدين . نعم، هكذا يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ [المزمل: 73/20] ثم إنه يؤكد هذا الأمر في آخر الآية ويقول: ﴿فَاقْرَؤُوا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ﴾ [المزمل: 73/20].


وعندما شكا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه إعراض المعرضين عنه، وإدبارهم عن المهمة التي كلفه الله عز وجل بإبلاغ الناس إياها؛ ما الجريمة الكبرى التي شكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه؟ كانت الجريمة أن هؤلاء الذين أعرضوا عنه اتخذوا القرآن مهجوراً، تلك هي الجريمة الكبرى ﴿وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾ [الفرقان: 25/30] ما قيمة أي عمل مما يمكن أن يعمله الإنسان متظاهراً بأنه يصغي السمع أو أنه يتقرب إلى الله بعد أن يهجر القرآن، أو بعد أن يتخذه مهجوراً على حد تعبير البيان الإلهي؟


أيها الإخوة لا أريد أن أستعرض كل ما في القرآن من أوامر وحضّ على الإكثار من تلاوة كتاب الله عز وجل، وحسبي أن أعود فأقول لكم: إن السر الساري بين الرب عز وجل وعباده إنما يتمثّل في خطابه الموجه إلينا، وخطاب الله إنما يتجسد في هذا القرآن الذي شرفنا الله سبحانه وتعالى به، هو غذاء إيمانكم، وبه يحيى إسلامكم، وبه تحافظون عليه إذا رحلتم من هذه الدنيا إلى الله سبحانه، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وغيره: ﴿من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته خير ما أعطي السائلين﴾


أعود بعد هذا إلى واقعنا اليوم، نحن مسلمون، ونحن مؤمنون بالله عز وجل، مساجدنا - ولله الحمد - عامرة، ونحن في كل يوم نزعم صدق انتمائنا إلى الإسلام، وصدق امتلاء أفئدتنا بحقائق الإيمان.


أين هو الدليل الأول على هذا؟ وما هو الدليل الأول؟


الدليل الأول هو الارتباط اللساني قبل أي شيء بكتاب الله سبحانه وتعالى، أين هم الذين لهم ورد في كل يوم من قراءة القرآن؟ لا تحدّثوني عن الفئات القليلة التي تلتقي هنا وهنا وهناك، لتَحْفَظَ القرآن، أو لتُحَفِّظَهُ، أو لتُحَفَّظ القرآن، دعوني من هذه القِلة التي تتجمع هنا وهنا وهناك، ولكني أسألكم عن السواد الأعظم الذي يمثّله الموظفون، ويمثله التجار على اختلاف رتبهم ومستوياتهم، ويمثّله العاملون، ويمثله أساتذة المعاهد والمدارس والجامعات، ويمثله المسؤولون، هذا السواد الأعظم الذي هو أساس مجتمعنا، والذي هو سدى ولحمة الإيمان والمؤمنين في بلداننا وأمتنا، كم هم الذين لهم صلة بكتاب الله عز وجل؟ دعوني أقل لكم وإني لأرجو أن أكون مخطئاً، وما أظن أنني مخطئ، وأرجو أن أكون مبالغاً وما أظن أنني مبالغ: أكثر - إن لم أقل: كل- هذا السواد الأعظم تقطعت مما بينهم وبين القرآن أوهى الصِلات، لا يعلمون من هذا الكتاب إلا أنه قرآن، وليس بينهم وبينه من صلة إلا نسخ من المصاحف ربما توجد في زوايا بيوتهم، ولعل أكثر هذه النسخ تسربت إلى بيوتهم بمناسبة دعوات وجهت إليهم لحضور عقود قران ونحوها، أجل.


كل الفئات التي حدثتكم عنها، وربما كان في مقدمتها بعض الذين يتحدثون في الإسلام، وبعض الذين يدعون إلى الله سبحانه وتعالى، ليس بينهم وبين كتاب الله أي ارتباط يتمثّل في ورد يتخذونه لأنفسهم من الرجوع إليه ومن تلاوته، صلة ما بينهم وبين القرآن كالصلة الثقافية التي بينهم وبين التوراة أو الإنجيل، ما يسمى بالعهد القديم، هذه هي الصلة وحدها، وأنا لم أقل هذا، ولا أقول هذا إلا بعد أن فوجئت مراراً وتكراراً بأمور مرعبة مذهلة:


أناس يتباهون بصلتهم بهذا الدين، وربما انتقدوا أقدار الله عز وجل أنها لا تنتصر لهم، وأنها لا تنتشلهم من وهدة التخلف، أنظر وأتساءل إلى أوهى الخيوط الممتدة بينهم وبين كتاب الله فلا أجد، لا أجد قط، ولو أن أحدهم أحرج على أن يتلو آيات من كتاب الله سبحانه وتعالى لما أقام لسانه على تلاوة سليمة لها، حتى ولو كانت من قصار السور.


فلان وفلان وفلان وفلان من التجار من الحجاج الذين ينعتون بالحاج والحاج والحاج، ما هي صلاتهم بكتاب الله عز وجل التي يمكن أن تتجدّد في كل شهر؟ ولا صلة.


فلان وفلان وفلان من الناس الذين عُرفوا بالثقافة، وعُرفوا بالدراية، وعُرفوا بما لا أريد أن أتحدث عنه: الأفكار والتآليف، ما هي صلتهم بكتاب الله عز وجل؟ إطلاقاً.


عاد كتاب الله عز وجل في مجتمعاتنا إلى شعار، موجود فيما بيننا، إلى طقس من الطقوس، مظهر من المظاهر، ربما وجد في بعض البيوت لأسباب مما قد حدثتكم عن بعضها، أما التفاعل مع كتاب الله، أما أن يغدو الواحد منهم في كل صباح فيتخذ لنفسه ورداً من عشر دقائق فقط، يعود فيها إلى كتاب الله، فليس ثمة من يفعل هذا إلا النزر القليل القليل، ولو أن أحدهم أراد أن يعود لما استطاع إلى ذلك سبيلاً لأنه يخوض في مخاضة هو غريب عنها، لا يستطيع أن يقيم لسانه على تلاوة صحيحة من كتاب الله عز وجل لأنه لم يتلقَّ بشكل من الأشكال، فإذا ضاق ذرعاً بقراءته تخلّص منه وألقى المصحف مكاناً ثم عاد إلى شأنه.


ولكن - أيها الإخوة - ليست هي قمة المصيبة، قمة المصيبة شيء آخر، نختلف نحن عن أولئك الذين شكا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربهم أنهم هجروا القرآن، أولئك هجروا القرآن شكلاً ومضموناً وموضوعاً، أما مجتمعاتنا اليوم فهي تتعامل مع القرآن: تتعامل مع القرآن تجارة، تتعامل كمصدر من أعظم مصادر الربح المالي، يتسابقون إلى طباعة القرآن طباعات متميزة مترفة، ولو سألت هؤلاء الذين يسهرون الليالي لإخراج أحدث طبعة مترفة من كتاب الله عز وجل عن آية في كتاب الله سبحانه وتعالى لم يستطع أن يقرأها، هذه هي قمة المصيبة، قمة المصيبة أننا أعرضنا عن الخطاب الرباني الموجه إلينا من مولانا وخالقنا عز وجل، آمراً، ناهياً، موصياً، محذراً، منبهاً، مخبراً، أعرضنا عن ذلك ثم نظرنا فوجدنا أن هذا القرآن مصدر لربح كبير تسابقنا إليه من أجل الوصول إلى هذا الربح المالي، أي اتخذناه مطية من أجل إكثار المال في جيوبنا أو في صناديقنا.


ومن هذا القبيل - أيها الإخوة - أجل، من هذا القبيل، تلك العقود التي ندعى إليها بين الحين والآخر، فينشر وينثر في بيوت المدعوين نسخ مجددة متلاحقة من كتاب الله سبحانه وتعالى.


يا هؤلاء الناس ما الذي يحملكم على ذلك؟ أهو تعظيم حرمات الله؟ لا والله، لا والله، لو أنكم كنتم تشعرون بعظمة لحرمات الله وبغيرة عليها لحجزتم أنفسكم عن هذا العمل، ولعلمتم أن القرآن ينبغي أن يكون عزيزاً، وينبغي ألا يدفع به آلياً هكذا إلى كل بيت ومنزل، دون أن أعلم من الذي سيتلقفه؟ من الذي سيأخذه؟ وفي أي مكان سيضعه؟ ومن هو هذا الذي أجبر على أن يأخذ القرآن الذي جاءه عن طريق دعوة؟ أهو ملحد؟ أم هو مؤمن؟ أم هو جاحد؟ أم هو ماذا؟ كم وكم تكاثرت هذه النسخ في بيوت أناس، وكم أهملت هذه النسخ. ما الدافع إلى هذا؟ مظاهر، وأطر، ولياقات، وعادات هي التي تتحكم بنا وهي التي تحولت إلى دين نخضع له، وندين لسلطانه بعد أن كان سلطان الباري عز وجل هو الأداة المهيمنة علينا.


كم قلت وحذّرت: يا أيها الناس! لماذا تستهينون بكتاب الله على هذا النحو؟ ولماذا تنزلون مكانته من عليائه إلى حيث تنثرونه وتنشرونه بين أناس لا تعلمون من هم؟ وأنتم تعلمون أن فيهم من لا يقيم له وزناً، أجل لو كنتم تبحثون عن الفائدة، ولو كنتم تبحثون فعلاً عمّا يترجم غيرة منكم على دين الله عز وجل لاتخذتم كتاباً من الكتب التي ينبعث المثقفون أياً كانوا إلى قراءتها.


أجل، هذا هو مآلنا الذي انتهينا إليه بالنسبة لعلاقتنا بكتاب الله عز وجل، ولئن كان أولئك المشركون قد شكا رسول الله إلى ربه أنهم هجروا القرآن فقال: ﴿وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾ [الفرقان: 25/30] فمصيبتنا أدهى وأفدح، اتخذنا القرآن مهجوراً ثم استخدمناه ثروة لجيوبنا، ثم استخدمناه ثروة لما يسيل عليه لعابنا، هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن نتبينها، وهي من الحقائق المؤلمة في حياتنا الاجتماعية اليوم، فلا يقولن قائل: لماذا حجب النصر عنا؟ لا يقولن قائل متبجحاً: ألسنا مسلمين مؤمنين من عباد الله؟ ألسنا الذين تفيض بهم مساجد الله سبحانه وتعالى؟


لا يتدللنّ على الله من ليست له صلة مع الله عز وجل، بعد أن قطع أوهى الخيوط بينه وبين كتاب الله، ولا تحتجّوا أيها الإخوة بالقلة التي تسعى هنا وهناك لتُحفَّظَ القرآن أو لتحفظ القرآن إلى آخر ما هنالك، أنا أتحدث عن السواد الأعظم، ومع ذلك فتعالوا ذكروني بهؤلاء الصغار الذين يحفظون اليوم القرآن بعد عشرين سنة، بعد خمسة عشر عاماً، لأسألكم: إلامَ آلت علاقتهم بالقرآن.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 

تحميل



تشغيل

صوتي