مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/07/2002

إخواننا في فلسطين يتضورون جوعاً ومترفوا العرب من حولهم ينعمون بالرقاد

إخواننا في فلسطين يتضورون جوعاً


ومترفوا العرب من حولهم ينعمون بالرقاد


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 26/07/2002


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏‏


آخر الأنباء عن واقع إخواننا الفلسطينيين في أرضهم المحتلة: إن المجاعة تجتاح تلك المناطق بشكل رهيب وخطير، وإن جُلّ الناس هناك إنما يتقوتون بالضروري الذي لابدّ منه من الطعام، وتقول الأنباء: إن أمراضاً كثيرة تجتاح الأطفال هناك، وإن نسبة (45%) خمسة وأربعين بالمئة من الأطفال يجتاحهم أمراض متنوعة من جرّاء سوء التغذية وفي مقدمتها فقر الدم، هذا آخر ما تقوله الأنباء عن واقع إخوانكم المجاورين لكم، ونحن والناس الذين من حولنا في مختلف الأصقاع العربية - ولا أقول الإسلامية البعيدة - يتقلبون في نعيم مقيم، وفي رَغَدٍ من العيش، ويتفننون في أنواع وألوان من الترف بمناسبة وبغير مناسبة.


ولقد كنّا في عهد من العهود نسمع من يقول: إن حل المشكلة الفلسطينية إنما مفتاحها المشاعر القومية، فالقومية العربية هي التي تتكفل بحل هذه المشكلة التي تقادم عهدها.


وكنا نسمع آخرين يقولون، بل إن مردّ هذه المشكلة ومفتاح حلها بيد اليسار الاشتراكي، ونظرنا إلى الذين يرفعون لواء القومية فما وجدناهم حركوا ساكناً، والتفتنا إلى الذين كانوا ولا يزالون يحركون لواء اليسار الاشتراكي واليساري ونحو ذلك، فما رأيناهم حلّوا مشكلة ولا قاوموا معضلة.


وننظر إلى الحل المفقود وإلى المفتاح الذي لم نعثر عليه بعد، لنتبين عن طريق ما يسميه العلماء بالحصر والإسقاط لنعلم أن هذه المشكلة لا يحلها إلا دين الله عز وجل، إلا الإسلام، ولكن الإسلام لا بد فيه من مسلمين، ولا بد أن يتحقق الإسلام بغرس عقائده في العقول وبغرس مشاعره في النفوس وفي القلوب، وبمقدار ما يتكاثر المسلمون الصادقون مع الله في إسلامهم بمقدار ما تدنو هذه المشكلة إلى الحل، وبمقدار ما يتناقص المسلمون؛ ويتحول الإسلام في حياتهم إلى علاقات تقليدية وإلى أماني وإلى كلمات فارغة عن مضامينها؛ تبتعد هذه المشكلة ثم لا تزال تبتعد عن الحل.


هذه المجاعة تجتاح إخواننا، والأطفال هناك يتضورون جوعاً، ثم يقعون في براثن الأمراض، ثم إن الأمراض تزجهم في المهلكة، فما أنتم فاعلون يا عباد الله؟ بل ما هو شعور القادة المسلمين الذين يزعمون أن لهم انتساباً إلى دين الله عز وجل، والذين يعلنون في المناسبات التقليدية عن علاقاتهم بالإسلام وعلاقتهم بالقرآن وعلاقتهم بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ لكأن هؤلاء الناس نسوا البدهيات التي كنّا نحفظها في فجر حياتنا الإسلامية، عندما نفتح أعيننا على البدهيات التي أنبأنا به كتاب الله عز وجل وأوصانا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكأننا لم نعد نعي قول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: 49/10] أين هو مكان هذه الكلمة الربانية بين جوانحنا وفي مشاعرنا؟ ولكأننا نسينا ما كنا نحفظه ونحن صغار من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اتفق عليه الشيخان من رواية النعمان بن بشير: ﴿المؤمنون في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى﴾.


ما أظن أن مسلماً ربّي في ظلال الإسلام ونشأ في مهد الإسلام ولم يحفّظ هذا الحديث، ولم يلقّن هذا المعنى الإنساني الذي أوصانا به ديننا الحنيف. لكأننا جميعاً نسينا قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يرويه الشيخان أيضاً من حديث عبد الله بن عمر: ﴿المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، لا يسلمه، لا يخذله﴾، زاد الإمام مسلم في صحيحه: ﴿بحسب امرئ من الشر أن يحْقِرَ أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه﴾.


إذا كنا قد نفضنا عقولنا ومشاعرنا من هذه الوصايا البدهية التي يذكِّرنا بها كتاب الله ويوصينا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي صلة بقيت بيننا وبين الإسلام؟ قولوها أيها الإخوة للمسلمين المترفين اليوم في بلادنا العربية والإسلامية، وواجهوا بها بادئ ذي بَدْءٍ حكامكم، إذا كانت هذه الوصايا البدهية التي يعقلها الصغار من المسلمين إذا كانت غابت عن أفكارنا ثم غابت عن مشاعرنا ومكمن العواطف في نفوسنا ألا تجيبونني؟ أي بقية بقيت من حقائق الإسلام بيننا وبين الله سبحانه وتعالى؟


أنا أعجب أيها الإخوة من أن نصبح ونمسي على هذه الأنباء التي تتسرب إلى البيوت كلها، ومن ثم لا بد أن تتسرب إلى المشاعر والعواطف الإنسانية كلها، ونحن مسلمون، مؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ثم ننظر فنجد أن المال يراق عن يمين وشمال بكل المناسبات، بل لأدنى المناسبات، حفلات تقام على ألوان من البذخ بمناسبة وبغير مناسبة، ولا أريد أن أتحدث عن المرافق الساهرة التي تراق فيها فضول الأموال، دون فائدة بشكل من الأشكال، وأصحاب هذه الأموال يسمعون هذه الأنباء، بل يرونها، كما ترونها عن طريق الشاشات التلفزيونية ثم إنهم يتصرفون، لا بل إن واقعهم بدون تصرف يشبه الصخور الجامدة التي لا تعي، وما أكثر ما يصدق عليهم قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهارُ﴾ [البقرة: 2/74] يصدق هذا الكلام على كثير من المسلمين الأغنياء المترفين اليوم.


أليس من العجيب أيها الإخوة أن ننظر فنجد كثيراً من الفقهاء يحرمون أنفسهم من لقمة الطعام التي يحتاجون إليها، وننظر فنجد كثيراً من النساء الفقيرات أو ذوات الدرجة الوسطى يجرِّدْن أنفسهم من الحُلي، لتذهب هذه الأموال القليلة إلى هؤلاء الإخوة المحتاجين ليسدوا بذلك عوزاً لهم، ليسدوا بذلك جوعتهم، بل ليحصنوا أنفسهم بذلك من الهلاك الذي يتربص بهم، ثم ننظر إلى الأغنياء المترفين الذين يتلاعبون بفضول الأموال، والذين يصفقون بتجارات لا حَدّ لها، ننظر فنجد أن الشّح قد هيمن عليهم وننظر فنجد أنهم تائهون غافلون محجوبون عن هذا الذي يجري على مقربة منهم، تُرى ما موقف هؤلاء الناس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه﴾ وجوار البلدة مع البلدة كجوار الإنسان مع الإنسان، جوار الدولة مع الدولة لا يختلف قط عن مجاورة شخص مع شخص، الدولة تقوم مقام الإنسان، الدولة إنسان، شخص معنوي، وإذا تجاورت دولتان فهما كتجاور شخصين اثنين.


تأملوا أيها الإخوة في واقع دولنا العربية عن يمين وشمال، تأملوا في واقع أكثر قادتنا المسلمين، وتأملوا في واقع المترفين الأغنياء الذين لا يستطيعون أن يحصوا أموالهم، لو أن هؤلاء الناس وجهوا فقط زكوات أموالهم إلى إخوانهم هؤلاء الذين يقفون على شفا جرف من الهلاك؛ إذن لاستنقذوا هؤلاء الإخوة من براثن الهلاك، مع العلم بأن الإسلام يدعو في هذه الحالة إلى إنفاق المال بالغاً ما بلغ في سبيل إنقاذ هؤلاء الإخوة من المهلكة ﴿إن في المال حقاً سوى الزكاة﴾ هكذا يقول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


نقرأ كتاب الله الذي يتلى على مسامعنا في الإذاعات وعلى شاشات التلفزيون صباح مساء، بل هنالك إذاعات متخصصة في القرآن كما تعلمون ويتلى كلام الله عز وجل: ﴿إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: 49/10] كلام من هذا أيها السادة: ﴿إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، كلام الله عز وجل تقرير لواقع، علاقةٌ بين المؤمن والمؤمن أخوة ترقى على أخوة النسب. ثم إن الجملة الثانية تحملنا المسؤولية التي تترتب على هذا التقرير ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ كيف يكون الإصلاح بين الأخ والأخ؟ كيف السبيل إلى ذلك؟ أن تمتد جسور الألفة والمودة فيما بيننا فلا يتمكن شيطان من شياطين الإنس والجن أن يقطع صلة هذه القربى، أن تكون مشاعر المؤمنين فيما بينهم واحدة، كما فسّر وشرح رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى﴾. هكذا يكون الإصلاح وهذا معنى قول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾.


إذا كان في قادة المسلمين من نال منهم الرعب ومن هيمن عليهم الخوف بعد الذل من أمريكا، التي تلوح بالاتهام صباح مساء بالإرهاب وما إلى ذلك وذيول هذه الكلمة التافهة، إذا كان هنالك في قادة المسلمين من نالهم الذل إلى هذه الدرجة، وهيمن عليهم الخوف وأذاب كل ما لهم من شرف وكرامة وقيمة فما الذي يخيفهم إن هم دعموا إخوانهم بشيء من المال؟ ما الذي يخيفهم إن هم سلكوا المسالك وهي مسالك مفتحة إلى استنقاذ إخوانهم من الهلاك؟


أطفال أيها الإخوة تجتاحهم الأمراض المتنوعة لسوء التغذية ما يقارب نصف أطفال إخواننا الفلسطينيين يعانون من مرض فقر الدم بسبب سوء التغذية، بسبب المجاعة وليست مجاعة بعيدة في مجاهل إفريقيا، حتى لا تكون يد تطول إلى تلك الجهات، إنها هنا على مقربة منّا. ليس الحل إلا بيد الإسلام أيها الإخوة، جربنا كل الوسائل، كل الدعاوي السمجة الباطلة فوجدناها دعاوي كاذبة، لم تفعل شيئاً، وانتهينا إلى قرار لا نرتاب فيه: أن الحل إنما هو بيد الإسلام، لأن الإسلام هو روح الإنسانية، والإنسانية لا تنتعش بدون روح، والدليل على ذلك أن القلة القليلة من المسلمين اليوم يقومون بما لا تقوم به الدول، يقومون بما لا يقوم به الحكام، ولو اتسع المجال لأوضحت ولشرحت ولبينت، نعم، فإن رأيتم أن العالم الإسلامي مع ذلك لا يزال متخاذلاً، وإن رأيتم أن الإذاعات العربية تتقن بلاغة الحديث عن هذه المصائب وعن هذه الأنباء المرعبة دون أن تحرك ساكناً، فذلك لأن علاقة هؤلاء الناس بالإسلام تراجعت، ثم إنها تراجعت، ثم إنها كادت أن تصل إلى حد النفاق، وكما يكون شأننا مع إسلامنا يكون عمل معاملة الباري سبحانه وتعالى لنا.


إِنْ صَدَقْنَا مع الله عز وجل في ارتباطنا بالإسلام وفي تنفيذنا لأوامره فإن الله سبحانه وتعالى لن يتركنا ولن يتخلى عنا، يستجيب دعاءنا، ويحقق آمالنا، ولكن أين هم الصادقون أيها الإخوة؟ ألتفت أنّى نظرت إلى قادة المسلمين وإلى كثير من الأغنياء في بلاد المسلمين فأجد أنهم تائهون، محجوبون، غافلون، عن هذا الذي يجري على مقربة منا، إن تكلموا فإنما هي تسلية يزجون بها الوقت، في الأمسيات يتحدثون عن آخر الأنباء، يطّلعون على ما يجري هناك، ترى أعينهم مظاهر الثكل مظاهر الهدم، ترى أعينهم مظاهر الجوع وهو يجتاح - كما قلت - كل الفئات، بل الطبقات أيضاً ثم إن كلاً منهم يأوي إلى شأنه ويعود إلى ترفه، ربما يعود إلى مجونه وتلك هي قسوة القلب التي حدثتكم عنها، والله هو المسؤول أن يصلح حال المسلمين.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه.

تحميل



تشغيل

صوتي