مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/07/2002

الدعامة المفقودة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

سؤال آخر يتطارحه كثير من المسلمين اليوم، ينبثق سؤالهم هذا عن الحديث المعروف والمشهور الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )ستداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قال قائل: أمن قلة نحن يا رسول الله يومئذٍ؟ قال: بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل وسينزعن الله الرهبة من قلوبكم وسيقذفن في قلوبكم الوهن قالوا ما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت[ يقول قائلون: لماذا وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسلمين؟ وهذا الذي الذي يتوعدهم به إنما يتوعد به المسلمين؟ فلماذا كان أولئك المسلمون في حياتهم التي عاشوها كالبنيان الراسخ وكالأساس المتين؟ ولماذا يكون المسلمون في العهد الذي ذكره رسول الله كهذا العصر ونحوه؟ لماذا يكونون غثاءً كغثاء السيل؟ لماذا جعلهم الإسلام كالبنيان الراسخ وتخلى عنهم الإسلام اليوم حتى أصبحوا غثاءً كغثاء السيل، وقد كان الجامع المشترك بينهما موجوداً ألا وهو الإسلام؟

الجواب على هذا السؤال الذي بتطارحه كثير من الناس اليوم أيها الإخوة، الجواب هو باختصار كالتالي: الإسلام لا يتكامل في كيان الإنسان إلا إذا قام على دعامتين، دعامة الإيمان بالعقل ودعامة الحب بالقلب، فإذا وجد الإيمان مستنداً إلى دعامة العقل وحده فلا يستطيع هذا الإيمان أن يفعل لصاحبه شيئاً. وإذا وجد الإيمان العاطفي وحده فهو الآخر لا يستطيع أن يفعل في كيان صاحبه شيئاً. ذلك الرعيل الأول من المسلمين إنما قام إسلامهم على دعامتين متكاملتين، دعامة اليقين العقلي أولاً ودعامة الحب عن طريق أفئدتهم التي كانت أوعيةً لمحبة الله ورسوله ثانياً. ونحن عندما نقرأ كتاب الله عز وجل يجب أن نتبين هذه الحقيقة ويجب أن نتبين المواقف التي يربط بها بيان الله عز وجل العقل بالقلب.

ألا تقرأون قوله عز وجل: )ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّه[ ألا تقرأون قوله عز وجل: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ[ إلى آخر الآية.

فإذا رأيتم أن المسلمين اليوم قد آلوا إلى ما قد أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبحوا غثاءً كغثاء السيل كهذا الزبد الرابي الذي يتعالى فوق السيل، إذا رأيتم هذه الظاهرة فاعلموا أن سبب ذلك أن أكثر المسلمين اليوم شعوباً وحكاماً هم في أحسن أحوالهم مسلمون بعقولهم، أما قلوبهم فقد استعمرتها الأهواء والشهوات والملذات المختلفة فحجبوا بذلك عن إيمانهم وحجبوا بذلك عن فاعلية الإسلام في حياتهم.

وهنا أحب أن أقول لكم كلاماً ينبهنا إلى عظيم لطف الله وإلى بالغ كرم الله سبحانه وتعالى وإحسانه، لقد اقتضت حكمته بل اقتضت رحمته أن يحقق كل أسباب محبة العبد لله سبحانه وتعالى حتى لا يحتاج إلى عنة وجهادٍ في سبيل غرس محبة الله في قلبه، سبيل الإنسان أياً كان معبد مفتوح وميسر وقصير يتبين هذا الذي أقول لكم في أوجه الإحسان الإلهي الذي يرد من الله سبحانه وتعالى تباعاً دائماً  إلى كل عبد عبد من عباده، مظاهر الإحسان، مظاهر اللطف، مظاهر المنن الكثيرة التي تفد من الله عز وجل إليك لو عدت إليها وتبينتها، كل ذلك أسباب تجذبك إلى محبة الله سبحانه وتعالى، وإنكم لتعلمون الكلمة العربية الصادقة التي يعرفها كل منكم: جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، طبيعة من المحسن الأول والآخر للإنسان بهذه الحياة؟ الله. من المنعم المتفضل؟ الله. من الذي يكشف السوء عنك؟ الله )وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ[ فما أيسر للإنسان الذي ينشد تمام إيمانه بالله ويبحث عن الدعامة الثانية لإسلامه أن يجدها أمامه، سبيل محبة العبد للرب ميسور، بل الغريب أن لا يحب العبد الذي عرف ربه أن لا يحب هذا الإله.

أما سبيل محبة الإنسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك أيضاً ميسر، فذلك أيضا ًسبيله معبد ولله عز وجل حكمة بالغة، بل إنه مظهر من أجل مظاهر رحمة الله عز وجل بنا إذا صاغ حبيبه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أعلى الرتب أخلاقاً، صاغ الله سبحانه وتعالى نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم على أفضل ما يمكن أن يتخيله ويتصوره لطفاً، رقةً، خُلُقاً، ذوقاً، تواضعاً، خدمةً، رعايةً، حباً .. لماذا لماذا صاغ الله عز وجل رسوله على هذه المزايا؟ لكي يكون سبيل حبك له ميسوراً، ولكي يكون طريق حبك له معبداً لا تحتاج إلى أن تتكلف، لا تحتاج إلى أن تجاهد نفسك في سبيل غرس محبة رسول الله، بعد الله عز وجل بين جوانحك. انظروا إلى قوله سبحانه وهو يشير إلى هذه النعمة التي أسداها إلينا من خلال ما ميز به حبيبه المصطفى: )لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[ لماذا؟ من أجل أن يتيسر حب الإنسان المؤمن بالله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. انظروا إلى قوله عز جل )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ[ لماذا؟ من أجل أن يتيسر سبيل محبتي ومحبتك لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ويعلم كل من درس سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان أسمى الناس خُلقاً، وكان أفضلهم طبيعةً، وكان أكثرهم تواضعاً، وكان ألينهم عريكة، كان أبطئ الناس غضباً، وكان أسرع الناس رضا، وكان لا يغضب لنفسه قط بشكل من الأشكال، كان أنفع الناس للناس، هذا هو المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي قال عنه الله عز وجل: )وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[، ما رآه أحد من الأعراب أصحاب القلوب الغليظة فنظر إليه نظرة موضوعية متحررة عن عصبيته إلا وتعشقه، بدءاً من اللقاء الأول، لماذا؟ لأنه صلى الله عليه وسلم صيغ كتلة من الأخلاق السامية، كتلة من الرقة، كتلة من التهذيب، كتلة من التواضع، هذه الكتلة من التيسير بين الناس وكان نموذجاً صاغه الله لنا، لنتعلم من هذا الواقع قبل الكلام كيف يكون واقع الإنسان وكيف يكون واقع الإنسان مع أخيه الإنسان.

والوقت أيها الإخوة لا يتسع لنفتح ملف الحديث عن شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان سمحاً مع أعدائه قبل إخوانه، كيف كان متواضعاً، كيف كان سريعاً إلى قبول المعذرة، كيف كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم شديد التواضع، كيف كان حيياً لا يتسع الوقت لبيان هذا، ولكن المسلم أياً كان ينبغي أن يتضلع من معرفة شمائل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإذا تعرفنا على المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتبينت مزاياه هذه، هل يُعجزك أن تغرس بين جوانحك حبه، لن تتمتع باختيار أصلاً، لابد أن يتجه قلبك إلى محبة المصطفى، ومحبتك للمصطفى إنما هي غصن من جذع محبتك لله سبحانه وتعالى، ذلك لأنك لابد أن تعلم أن الله هو الذي نشأه على هذه الأخلاق الفاضلة رحمةً بك، لكي تعرف من هو محمد عليه الصلاة والسلام ولكي يتيسر لك سبيل محبته بل سبيل تعشقه، فإذا وجدت هذه المحبة التي يسر الله عز وجل سبيلها إلينا محبة العبد للرب أولاً ثم لرسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد وجدت الدعامة الثانية.

إذا وجدت الدعامتان دعامة العقل الذي يصدق والقلب الذي يحب فلن يكون المسلمون الذين يعتمدون في إسلامهم على هاتين الدعامتين غثاءً كغثاء السيل أولاً، لكن لماذا آل بهم الأمر إلى هذا؟ لأن دعامة الحب غائبة أيها الإخوة، ما الذي غيبها؟ غيبها الحب الأدنى؛ الحب الهابط الذي نسف الدعامة الثانية، وقلوبنا أصبحت مغرساً لمحبة الأهواء، لمحبة الشهوات، لمحبة الرغائب، لمحبة المال .. ومن ثم فقد أصبح إسلامنا إسلاماً أعرج يسير إن جاز التعبير على عجلة جانبية واحدة، وإسلامٌ بهذا الشكل لا يحل مشكلة ولا يقود أصحابه إلى نتيجة من النتائج.

هذا هو مرض العالم الإسلامي اليوم أيها الإخوة، ونحن الذين ننشد السبيل إلى معالجة أدواءنا وأمراضنا ينبغي أن نعلم أن السبيل ميسور وأن الدواء موصوف وأنه موجود أمامنا، ألا وهو أن تتجه قلوبنا بالتذكر إلى الله المحسن بعد أن اتجهت عقولنا إلى الله الواحد الأحد الفرد الصمد، ينبغي أن تتجه قلوبنا فتتذكر الإله المحسن اللطيف الودود الذي يرعاك والذي يراك في تقلبك والذي يسهر إن جاز التعبير على رعايتك ولا كسهر الأم على وليدها.

أشبه ذلك لأن الإنسان بحاجة إلى أن يتبين هذه الحقائق عن طريق الأمور المحسوسة والمعروفة في حياتنا التي نعيشها اليوم، الدواء أن نتجه إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فنتبين أن هذه الأخلاق الحميدة فيه، لماذا تعشّقه أصحابه ولم نتعشقه نحن؟ ما الفرق بيننا وبينهم؟ لأن كنا لم نره فإننا لنا ما يغنينا أو قد يعوضنا عن رؤيته، معرفتنا لشمائله، نحن نعلم شمائله فلماذا لا نتعشقه ونحبه كما أحبه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟

ثم إن هذه المحبة لابد أن تثمر نتائج أخرى منها أن المسلم يسير وراء النهج الذي كان عليه رسول الله، يتخلق بالأخلاق التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متخلقاً بها. أنا عندما أحب رسول الله لا يمكن أن أكون متكبراً، لا يمكن أن أكون فظاً غليظاً، لا يمكن أن أكون جعظرياً كما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد وأنا أحب المصطفى أن أسير وراءه أن أقلده كما يقلد العشاق معشوقيهم اليوم. أجل وأنا عندما أسمع كلام رسول الله في الحديث الصحيح وهو يقول: )ألا أنبؤكم بأقربكم مني مجالس يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً الذين يألفون ويؤلفون, ألا أنبؤكم بأبعدكم مني مجالس يوم القيامة؟ كل عتلٍ جعظري جواظ[ أي كل إنسانٍ مجانف عن هذه الطبيعة وهذه الأخلاق التي أحدثكم عنها.

أنا عندما أحب المصطفى صلى الله عليه وسلم لابد أن أتمثل شيئاً من تواضعه فأجعله طبعاً لي، لابد أن أتمثل شيئاً من أخلاقه الإنسانية الراشدة فأتحلى بها، لابد أن أكون كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم ممن يألف ويؤلف، لا بد أن أكون أرضاً سهلة لإخواني المسلمين دائماً، لابد الحب يقودني إلى هذا النهج.

فإن رأيتم أن المسلمين اليوم كثر في انتمائهم إلى الإسلام وأنهم يزيدون على مليار وربع كما يقولون اليوم، وقفز هذا السؤال إلى أذهانكم فتساءلتم لماذا المسلمون اليوم كثر في حين أنهم لا يتأتى منهم شيء؟ ولماذا آلو إلى أن يكونوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غثاءً كغثاء السيل؟ لا تنسوا الجواب الذي حدثتكم عنه، هم مسلمون في أحسن الأحوال، نسقط الملاحدة، نسقط اللبراليين، نسقط عشاق الحداثة، نسقط المتبرمين بالإسلام، هم في أحسن أحوالهم مسلمون بعقولهم، أما الدعامة الثانية للإسلام دعامة الحب لله ولرسول الله فهي غائبة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.    

تحميل



تشغيل

صوتي