مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 31/05/2002

الخلافات الاجتهادية لا يجوز أن تكون سبباً للنزاع

الخلافات الاجتهادية لا يجوز أن تكون سبباً للنزاع


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 31/05/2002


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


إنكم تعلمون أن الإسلام يحارب اليوم حرباً شديدة لا هوادة فيها، لعل التاريخ البعيد والقريب لم يشهد عدواناً متجهاً إلى الإسلام والمسلمين كما هي الحال في هذا العصر اليوم.


بقي أن تعلموا السلاح الأول الذي يحارب به الإسلام ينبغي أن نعلم جميعاً أيها الإخوة أن السلاح الأمضى والأشد فتكاً الذي يحارب به الإسلام والمسلمون في هذا العصر إنما هو سلاح التفريق، سلاح التمزيق، تمزيق الأمة الإسلامية، وتحويلها إلى مِزَقٍ وشتات.


أما القادة فسبيل التفريق فيما بينهم هو الأمور السياسية التي تبعث فيما بينهم أسباب التفرق والخصام، وأما الأمة الإسلامية فإن سبيل التفريق فيما بينها هي استثارة أسباب التفرق والتنازع عن طريق الخلافات الدينية، قادة المسلمين تُبعث فيما بينهم أسباب التفرق والتخاصم بالوسائل السياسية المتنوعة، أما القاعدة الشعبية التي تمثل الأمة الإسلامية فإن الأداة التي يُسخر لها هذا السلاح الأمضى هي استثارة التفرق والتنازع عن طريق الخلافات الدينية المختلفة.


ينبغي على كل مسلم مخلص لله عز وجل صادق في إسلامه أن يعلم هذه الحقيقة، ولننظر - أيها الإخوة - إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، لَمْ يحذر القرآنُ الناسَ ولا في آية من آي الكتاب الإلهي المبين من الاختلاف في المسائل الدينية الاجتهادية قط، ولكنه يحذر من النتائج السيئة التي قد يفرزها الاختلاف، يحذر من التفرق الذي قد يفرزه الاختلاف الديني، يحذر من التنازع الذي قد يفرزه الاختلاف الديني، انظروا إلى قوله سبحانه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103] لم يقل ولا تختلفوا. وانظروا إلى قوله سبحانه: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46] أرأيتم كيف يركز كتاب الله عز وجل على كل من التفرق والتنازع؟ يحذر منهما، ويكرر على أسماعنا بيان خطورتهما دون أن ينهانا عن الاختلاف في الأمور الاجتهادية الدينية.


ولقد وعى الرعيل الأول من المسلمين وسلفنا الصالح رضوان الله عليهم وعى هذه الحقيقة التي أنَبِّهُ عليها، اختلفوا فيما بينهم في المسائل الاجتهادية الدينية، لكنهم كانوا حراساً على قلوبهم وعلى صلة القربى والأخوة الإسلامية القائمة فيما بينهم، فلم يفسد الاختلاف الاجتهادي في المسائل الدينية للوُدِّ قضية قط، ولم يكن يوماً ما سبباً لتنازعٍ أو لتفرق بشكل من الأشكال، ولا يتسع الوقت في هذا المقام لاستعراض نماذج كثيرة للاختلافات الاجتهادية التي سارت في عصر الصحابة بل في عصر الرسول صلى الله عليه وسلّم ثم في عصر التابعين ومن تبعهم، خلافات اجتهادية كثيرة ظهرت، كل عكف على ما فهمه من مصادر دين الله سبحانه وتعالى القرآن والسنة، فاتخذ من الاجتهاد الذي تمسك به ونحا إليه وسيلة تعبدَّ بها ربه، واتخذ صاحبه السبيل ذاته، ولئن تفرقت الاجتهادات فيما بينهم في مسائل جزئية كثيرة فإن جذع التعبد لله سبحانه وتعالى جمع بينهم، كل يطرق باب استرضاء الله سبحانه وتعالى فيما فهم، اختلفوا في الجزئيات لكنهم اتحدوا في الهدف والهدف هو الوصول إلى رضى الله سبحانه وتعالى، الهدف الوصول إلى أجرٍ ادخره الله عز وجل للمجتهدين في الدين، فإما أن يكون أجراً مضاعفاً، أو أن لا يكون مضاعفاً، كل وضع نصب عينيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ﴿إذا اجتهد الحاكم أو المجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ أجر واحد))، ولكنهم كانوا رقباء على قلوبهم، كانوا رقباء على صلة الأخوة الإسلامية التي عقد الله جل جلال رباطها فيما بينهم، فلم تتقطع هذه الصلة قط بسبب تلك الاختلافات الاجتهادية، واستمر الأمر على هذا المنوال، ولعلكم تعلمون - أيها الإخوة - أن النبي صلى الله عليه وسلّم يوم نادى في أصحابه ألا لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، واتجه الصحابة جميعاً لينفذوا أمر رسول الله، اتجهوا إلى بني قريظة، تخلف منهم فئة عن الوصول إلى بني قريظة في الوقت الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فتذاكروا فيما بينهم أيصلون العصر في الطريق كي لا تفوتهم صلاة العصر، أم يأخرون الصلاة وإن فاتت كي لا يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؟ تذاكروا فاختلفوا فمنهم من أصر على أن يصليها في الطريق، ومنهم من أصر على أن لا يصليها تنفيذاً لحرفية الأمر الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ولما وصلوا إلى بني قريظة وعرف المصطفى صلى الله عليه وسلّم خلافهم هذا لم يعنف بشكل من الأشكال لأنه اختلاف اجتهادي مشروع يتقرب به المختلفون كلهم إلى الله سبحانه وتعالى، لكن المصطفى صلى الله عليه وسلّم ظل حريصاً على ألا يكون الاختلاف في الأمور الدينية سبباً لتنازع، سبباً لتفرق، سبباً لخصام أو تدابر.


ذلك الرعيل الأول وعى وصية كتاب الله عز وجل، ووصية المصطفى صلى الله عليه وسلّم ، وساروا على هذا المنوال، أما اليوم ونحن نرى هذه الحرب الضروس، التي يتجه بها الكائدون للإسلام والحاقدون عليه إلى المسلمين في كل صقع من أصقاعهم، ننظر فنجد أن أعداء هذا الدين يرون نقطة ضعف عظيمة في حياتنا نحن اليوم، ما هي؟ هي أن كثيراً من المسلمين يقتاتون على هذه الخلافات الاجتهادية، يجعلون من هذه الاختلافات الاجتهادية غذاءً لأنانياتهم، غذاءً لمقارعة آرائهم المذهبية لكي يتباهى كلٌّ بما انتهى إليه من علم لم يبلغه الطرف الآخر، وهكذا نظر العدو فرأى أن الاختلافات الاجتهادية بين المسلمين قد تحولت إلى سبب من أخطر أسباب الخصام، تحولت إلى سبب من أخطر أسباب الشقاق، فتمسك العدو بهذه النقطة، وركز على هذا الضعف الذي وقع فيه المسلمون، وأخذ ينفخ في هذه الظاهرة المرضية التي مُني بها المسلمون اليوم، والتي ابتلي بها المسلمون كما لم يبتلَ إسلامهم بشيءٍ من هذا من قبل إطلاقاً، خلافات موسمية وغير موسمية، تمر في كل عام بالمسلمين، السلف الصالح وقف عند بعض منها ولم يقف عند كثير منها، ولكنها في كلا الحالين لم تقطع صلة القربى بينهم، لم تمزقهم، لم تُثر أسباب خصام أو تنازع أو فرقة فيما بينهم بشكل من الأشكال، ظلوا نزَّاعين إلى الهدف ألا وهو بلوغ مرضاة الله، ظل كل فريق منهم يُعذر الفريق الآخر لأنه لا يبتغي بذلك تفوقاً على صاحبه، وإنما يبتغي أن يصل إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، ولكن هذه الاختلافات اليوم تحولت إلى بؤرة في حياة كثير من المسلمين، تفور بنتائج كم وكم حذر الله عز وجل منها، تفور بنتائج الخصام، بنتائج التفرق الذي نهى الله عز وجل عنه، تفور بنتائج التنازع الذي نهى الله سبحانه وتعالى عنه.


عندما تمر بالمسلمين مناسبة هذه الذكرى ذكرى مولد المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم تهب رياح الاختلاف في مشروعية الاحتفاء والاحتفال بذكرى مولد حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلّم ، والخلاف في هذا ليس مشكلاً أيها الإخوة، اجتهد وانتهِ إلى الرأي الذي يسكن إليه قرارك العلمي ولا حرج، ولا حرج. ولكن المصيبة الكبرى أن تجعل من هذا الاجتهاد مطية ذلولاً لإرواء أنانيتك، للتعالي برأيك على الآخرين، ولتسفيه رأي الآخرين، وستمر هذه المناسبة لتأتي مناسبة موسمية أخرى، الاحتفاء بليلة النصف من شعبان، أهو مشروع أو غير مشروع؟ هل قيام تلك الليلة أمرٌ بدْعي أم أمر غير بدْعِي؟ لا حرج في الخلاف في هذا، خلاف يمكن أن يتفرع عن رؤية علمية لا أتفق معك ولا تتفق معي فيها، لكن عندما يكون هدفك استرضاء الله، ويكون هدفي الوصول أيضاً إلى رضا الله، لا إشكال في هذا لأننا جميعاً ننزع من هدف واحد، وننتهي إلى هدف واحد، ولكن ننظر فنجد أن هذا الاختلاف قد تحول إلى سبب من أسباب تغذية الذات، سبب من أسباب التعالي على الآخرين، إلى سبب من أسباب التسفيه، التبديع، التشريك، ونحو ذلك. ويأتي بعد ذلك الموسم الآخر يأتي شهر رمضان، وتهب الاختلافات الموسمية التي تنطوي في آخر الشهر، ثم تعود لتنشر مرة أخرى في أول هذا الشهر المبارك، كم هي ركعات التراويح المشروعة؟ أهي ثمان؟ أم أكثر؟ أم عشرون؟ أم أكثر؟ الخلافات العلمية المرتبطة بالمأثور من رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا إشكال فيها، قد يختلف المحدثون والرواة في هذا ولا ضير في هذا الاختلاف قط، لكننا ننظر فنجد أن هذا الاختلاف تحول فجأة وبدون موجب إلى سبب من أسباب التبديع، إلى سبب من أخطر أسباب الخصام، إلى سبب من أخطر أسباب التنازع والشقاق، وهكذا. هنالك خلافات تهب رياحها في مواسم وهناك خلافات مستمرة مستمرة دائماً.


ما الذي ينبغي أن نعلمه ونحن مسلمون والمفروض أننا مخلصون لوجه الله، لا نبتغي بما ندرسه من أسباب معرفة الأمور الاجتهادية إلا الوصول إلى مرضاة الله عز وجل، مفروض بنا نحن المسلمين أن نكون على هذا المستوى، يجب علينا أولاً أن نعلم أن عدونا الشرس يستعمل هذا السلاح، سلاح التفريق، يفرق بين قادة المسلمين بالوسائل السياسية التي لا شأن لنا بالحديث عنها الآن، ويفرق بين المسلمين والأمة الإسلامية عن طريق تحويل مسائل الخلافات الاجتهادية إلى سلاح فتاك يُقَطِّع صلة القربى بين المسلمين، اعتماداً على نقطة الضعف هذه، اعتماداً على هذا المرض الذي يعاني منه المسلمون اليوم.


الوعي الإسلامي الذي يكون نتيجة هدف واحد لا ثاني له ألا وهو الوصول إلى مرضاة الله عز وجل والتحقق بقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46] يقتضينا لاسيما في هذا المنعطف الأخير الذي نمر به ألا نجعل من هذه المسائل الاجتهادية رياحاً تهب بأعاصير الاختلافات والشقاق بين المسلمين.


سُئلتم عن أمر من هذه الأمور قولوا: إنه أمر اجتهادي، إلى أي نتيجة وصل المسلم إليها فهو مأجور عند الله عز وجل، فإن أراد هذا السائل أن يركز ثم يركز فاعلموا أنه إنسان أرسل بمهمة من أجل أن يقطع صلة القربى والأخوة الإسلامية بين المسلمين، إياكم وإياكم إذا سُئلتم عن مشروعية الاحتفال بالمولد، إذا سئلتم عن التراويح وعدد ركعاتها؛ إذا سئلتم عن الصلاة على رسول الله بعد الأذان، إذا سئلتم عن التوسل بالمصطفى صلى الله عليه وسلّم ، قولوا: إنها مسائل خلافية إلى أي نتيجة وصل إليها الباحث الذي يبتغي رضا الله فهو مأجور، ولا نريد أن نتجاوز هذه النقطة التي لا خلاف فيها. وإني لأسأل الله عز وجل أن يلهم هؤلاء الذين يرفعون ألوية الخلافات المذهبية المختلفة المتنوعة ثم يأبون إلا أن يجعلوا منها سبباً لنزاع، سبباً لشقاق، سبباً لخصام، سبباً لاتهامات أسأل الله عز وجل أن يكرمهم بشحنة من الإخلاص لوجهه، وأسأل الله عز وجل أن يوقظهم إلى أن المسلم ما ينبغي أن يقتات على الاجتهادات الدينية ليجعل منها غذاء لأنانيته، أعظم جريمة أن أجعل من اجتهاداتي الدينية سبباً للاستكبار على الآخرين، سبباً لمباهاتي عليهم، سبباً لتفوقي المذهبي عليهم، نحن اليوم - أيها الإخوة - في عصر نحارَب من هذه النقطة، فأين هم المسلمون المخلصون لدين الله عز وجل، لا المذاهب الاعتقادية المختلفة اليوم فيما بيننا ينبغي أن تكون سبباً لاستثارة نزاع، ولا المسائل الفقهية الاختلافية ينبغي أن تكون سبباً لخلاف، والذين يعكفون على شد هذا إلى مذاهبهم، أو شد ذاك إلى المذهب الآخر والنار التي ترونها تلتهم، والعدو الشرس يقضي على البقية الباقية من وحدتنا، هؤلاء ليسوا من دين الله عز وجل في شيء، هؤلاء يعبدون أنفسهم من خلال الإسلام الذي يتظاهرون بالتمسك به، فالمأمول من لطف الله عز وجل ورحمته أن يلهم كلاً منا أن يقضي على أسباب التفرق الذي نهى الله عز وجل عنه، أن يقضي على أسباب النزاع الذي نهى الله عز وجل عنه، أما الاختلافات الاجتهادية فلقد اختلف الأئمة فيما بينهم، وكانوا منال الحب، وكانوا منال التضامن والتآلف، والوقت لا يتسع لعرض صور ومشاهد تثير الإعجاب في هذا الصدد، فما لنا لا نكون كسلفنا الصالح.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 

تحميل



تشغيل

صوتي