مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 29/03/2002

أبلغوا أصحاب هذه الأعشاش أن يتوبوا إلى الله

أبلغوا أصحاب هذه الأعشاش أن يتوبوا إلى الله


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 29/03/2002


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


لقد التجأتم إلى الله سبحانه وتعالى في أوائل هذا الشتاء بالدعاء الضارع الواجف، أن يكشف عنكم السوء، وأن يزيل الضُّر، وأن يُنهي عهد هذا الجفاف الذي تطاول أَمَده، وأن يُنْزِل عليكم من بركات السماء، وأن يُنْبِت لكم من خير الأرض. دعوتموه والتجأتم إليه وكرَّرتم ذلك غير يائسين ولا منعرجين بعيدين عن عبوديتكم لله عز وجل، فاستجاب الله سبحانه وتعالى دعاءكم، وحقق رجاءكم، ولم يخيّب آمالكم، فأكرمكم بقطر السماء، فاضت الينابيع وسالت الأنهر وعادت تتألق كسابق عهدها، وازدهت الخضرة في الأرض. هذه هي استجابة الله سبحانه وتعالى لكم عندما سألتموه، وعندما ألحفتم في الدعاء الضارع على أعتابه، أفلا تستجيبون إذن لله سبحانه وتعالى لقاء ما استجاب لكم؟ ألم تقفوا أيها الإخوة عند قول الله سبحانه وتعالى وهو يُنَزِّل ذاته العلية من عباده منزلة النِّد من النِّد، منزلة القرين من القرين، يَعِد عباده أن يستجيب لهم ويُذَكِّرُهم بالمقابل بأن يستجيبوا له. وكأن المسألة عبارة عن عمل يقابله أجر، ليس في الأمر مِنَّة لطرف على آخر. ألم تقفوا عند قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 2/186]. ألم تتأملوا في هذا الخطاب الحلو الذي يأخذ بالألباب ويذيب مشاعر الإنسانية عند من يتمتع بهذه المشاعر؟ ألم تتأملوا وتتدبروا في هذا الكلام المتنزل من علياء الربوبية، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يعد عباده بالاستجابة ويذكِّرهم في المقابل بأن يستجيبوا هم أيضاً له ﴿وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ هم الآخَرون أيضاً ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾


أما الله فقد استجاب دعاءنا، بل أكاد أن أقول لبى رجاءنا وإلحافنا وطَلَبَنا. ألم يأنِ لنا أن نستجيب لأمر الله بدورنا؟ ألم يأنِ لنا أن نستجيب لوصايا الله سبحانه وتعالى لنا؟ وانظروا أيها الإخوة إلى فرق ما بين الاستجابتين. استجابة الله سبحانه وتعالى لدعائنا مَرَدُّها إلى صالحنا ومردّها إلى سعادتنا وخيرنا. طَلَبْنا فَلَبَّانا. دَعَوْنا فاستجاب لنا. ولم نَدْعُه إلا بما احتجنا إليه، لم نسأله إلا ما قد وجدنا أنفسنا بحاجة إليه. والمتوقَّع والمنتظر عندما يحين دور استجابتنا لله عز وجل أن تكون فائدةُ استجابتنا لله عائدةً إليه، كما أن استجابته لدعائنا عائدةً بالنفع إلينا. هكذا يُتَوَقَّع .


والله سبحانه وتعالى إذ يُنَزِّل ذاته العلية منا منزلة القرين من القرين كأنه يوحي إلينا بأنه يستفيد من استجابتنا له. فهل الأمر كذلك. عندما يدعونا ويَطْلُب منا أن نستجيب نحن أيضاً لدعائه ويذكِّرُنا بأن نحقق بدورنا نحن أيضاً ما يدعونا إليه، يُخيَّل إلينا أنه كما حقق فائدة لنا إذ استجاب دعاءنا نحن أيضاً نحقق فائدة له عندما نستجيب دعاءه. ولكن هل الأمر كذلك. ما الذي يطلبه الله منا؟ وما الفائدة التي تعود إلى الله عز وجل مما طَلَب؟ إن الله غني عن عباده كما تعملون ﴿يا أَيُّها النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 35/15] لا يحتاج الله عز وجل إلى عباده أن يفيدهم بشيء بل هم الذين يستفيدون منه. فما الذي ينطوي عليه طلب الله منا؟ إنما ينطوي على خير لنا نحن. وإنما ينطوي على إسعادنا فالله عز وجل عندما يُذَكِّرُنا بهذا اللطف أن نستجيب نحن أيضاً بدورنا لدعائه إنما يَتَلَطَّف بنا لنستجيب لما يُسْعِدُنا، لنستجيب لما يفيدنا، لنستجيب لما يحقق لنا سعادة الدنيا ونعيم الآخرة. ألم تلاحظوا هذه الحقيقة أيها الإخوة؟ لو أنكم لاحظتم هذا المعنى اللطيف الأخّاذ في هذه الآية من كتاب الله عز وجل لوقفتم على صراط الله سبحانه وتعالى لا تنحرفون عنه يَمْنَة ولا يَسْرَة، ولعاهدتم الله عز وجل - وقد استجاب لكم وأكرمكم بما سألتم - لعاهدتم الله عز وجل أن لا تخرجوا عن وصاياه وعن نصائحه مثقال ذرة. لاسيما وأنتم تعلمون أن مَرَدَّ نصائحه إليكم، وأن مَرَدَّ وصاياه إلى نفعكم.


أعود فأقول هاهو الباري جل جلاله الودود الرحيم قد استجاب لكم وحقق سُؤْلكم، ألم يأنِ لنا أن نستجيب لأمر الله بدورنا؟ ألم يأنِ لنا أن نحقق قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾. ألا ليت أن كلاً منكم أيها الإخوة يُبَلِّغ إخواننا جميعاً في هذه الأرض والبلدة المقدسة المباركة. ألا ليت كل واحد منكم يُذَكِّر هؤلاء الإخوة جميعاً بأن قد حان أن نستجيب نحن بدورنا لأمر الله سبحانه وتعالى، وأكاد أقول لدعائه، لأن الله يعقد مشاكلة بين دعائنا له ودعائه لنا. أبلغوهم أيها الإخوة أن الإله الذي امتن علينا وأكرمنا بعد أن طرقنا سائر الأبواب فلم تتفتح لنا، وبعد أن تأملنا خيراً في جنبات الأرض كلها إتِّباعاً لوساوس شياطين الإنس والجن فلم تأتنا بأي نفع، ها هو ربنا عز وجل الواحد الأحد أكرمنا بنِعَمٍ لم تكونوا تتوقعونها. بلِّغوهم أخبروهم أن قد آن لنا أن نتوب إلى الله، وأن نستجيب لدعوته في مقابل استجابته لدعوتنا، قولوا لمن يَرْعَوْن هذه الأعشاش في هذا الوادي الأغر في مدخل مدينة دمشق هذا الوادي الذي له تاريخه الرائع الذي تُزْهى به مدينة دمشق، أبلغوا أصحاب هذه الأعشاش أن يتوبوا إلى الله، أن يعودوا إلى الله، أن يصطلحوا مع الله سبحانه وتعالى، لا يوسوسَنَّ الشيطان إليهم وهم ينظرون إلى هذه الأنهر وقد فاضت مياهها، وعاد أَلَقُها من جديد، لا يُطْمِعَنَّهم الشيطان بأن يعودوا إلى ما حرَّم الله. لا يُطْمِعَنَّهم الشيطان بأن يعودوا فيبدلوا نعمة الله كفراً. إذن سَيُحِلُّون قومهم دار البوار، هكذا يقول الله سبحانه وتعالى. ألا تذكرون أيها الإخوة؟ قولوها لأهل هذه البلدة جمعاء. ألا تذكرون كيف تحولت هذه الأنهر المعطاءة إلى أرض قاحلة تفوح منها الروائح النَّتِنَة، وتجوب فيها الجرذان؟ ألا تذكرون؟ ألا تذكرون كيف أصبح الناس يَفِرُّون من هذه الأماكن عن يمين هذه الأنهر وعن يسارها؟ ما الذي جعل الأمر ينتهي إلى هذا الوضع السيء في منظره والمنتن في رائحته؟ إنها تذكرة الله لعباده. استمرت واستمرت سنوات. فلما التجأ عباد الله في هذه البلدة إلى مولاهم وخالقهم وساق عباد الله أولادهم، صغارهم، نساءهم، والتجؤوا جميعاً إلى الله وبكى الباكون وتضرع المتضرعون، قال لهم الله: لبيك. وصدق فيهم قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ﴾ [البقرة: 2/186]. وقد استجاب الله عز وجل. هاهي ذي الينابيع قد تفجرت، وهذه هي الأنهر فاضت أو كادت، وها هي ذي وجوه الأرض باسمة تُزْهى بالخضرة وتشكر الله عز وجل على نعمه. أفلا نشكر الله سبحانه وتعالى نحن أيضاً؟ أبلغوهم هذه الرسالة أيها الإخوة، قولوا لهم: مما تخافون؟ من رزق قد لا يأتيكم؟ ألم تعلموا أن الله هو الرزاق؟ فابتغوا عند الله الرزق. ما ترك العبد شيئاً لله سبحانه وتعالى إلا وعَوَّضه الله سبحانه وتعالى خيراً منه، والذين فعلوا رأوا النتائج. مما تخافون إذا أردتم أن تطهروا أعشاشكم هذه، مطاعمكم هذه، أنديتكم هذه؟ لماذا تستنزلون بها غضب الله عز وجل؟ وعلى أي منبر تستنزلون غضب الله؟ على منبر يجاور نِعَم الله، يجاور كرم الله، وكأنه تحدٍّ لله سبحانه وتعالى.


أيها الإخوة لا يمكن للإنسان أن يرقى إلى سُلَّم النعيم في دنياه وآخرته إلا على سُلَّم واحد لا ثاني له، ألا وهو شُكر المُنْعِم، شكر الله سبحانه وتعالى. وإذا أردتم أن تتبينوا أهمية شكر العبد للرب فلاحظوا نقيض الشكر كما سماه الله عز وجل في محكم تبينانه. ما النقيض الذي عبر عنه البيان الإلهي للشكر؟ هو الكفر. هل هنالك أشنع في حياة الإنسان من الكفر؟ إذن فليس هنالك أرقى في حياة الإنسان من الشكر، انظروا إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 2/152]. ومعنى هذا الكلام أن الذي يُعرض عن شكر الله سبحانه وتعالى إنما يقع في مهاوي الكفر، انظروا إلى قوله سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ﴾ [إبراهيم: 14/28]، من أعرض عن نعمة الله ولم يغطها بالشكر الذي أمرنا الله عز وجل به فلا جرم أنه ينحط في أودية الكفر، فإياكم والكفر أيها الإخوة، إياكم والجحود. ولن يكون الإنسان كافراً لنِعم الله إلا وهو لئيم. فمن ذا الذي يرضى لنفسه بهذه الصفة؟ نحن مؤمنون بالله أيها الإخوة، ونحن نعلم أننا عبيد لله، وها هو ربنا يتحبب إلينا بنعمه، فما لنا لا نتحبب إلى الله بشكره؟ لماذا؟ كيف يتحبب الله عز وجل إلينا بنعمه ثم نرضى أن نتبغّض إلى الله سبحانه وتعالى بمعاصيه؟ هذه رسالة أُحَمِّلكم إياها، لتبلِّغوها لسكان هذه البلدة المباركة، شامِنا التي أثنى الله عز وجل عليها أَيَّما ثناء، ينبغي أن نكون على مستوى الثناء الذي أثنى به الله عز وجل على هذه الأرض. أَبْلِغُوهم هذه الرسالة، ألا فليستجيبوا لله كما استجاب الله سبحانه وتعالى لنا، أرجو وآمُل أن يُلْهِم الله عز وجل هؤلاء الناس أن يُطَهِّروا هذا الوادي الأغر من كل الموبقات، من كل الأدناس حتى تعود نُزُهات أهل هذه البلدة كما كانت في سابق عصرها في يوم من الأيام نُزُهاتٍ بريئة. لعلكم تذكرون، ولعل الذين وصولوا إلى مدارج الشيخوخة يَذْكرون هذه الحقيقة؛ يوم كان يفيض ذلك الوادي بالمتنزهين ولكن نُزُهاتهم كانت متوَّجة بالعبودية لله، وكانت نزهاتهم بريئة من أي سوء أو انحراف. والباري سبحانه وتعالى كان يُغدق عليهم نعمه. الأنهر المتجاورة عن يمين الوادي ويساره متألقة فيَّاضة، والناس تتوازعهم متناثرين ذلك الوادي وتلك الأماكن وكأن الله عز وجل يقول لهم: ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ: 34/15]. وأقف عند هذا الحد. أسأل الله أن يُجنِّبَنا التَّتِمة ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ [سبأ: 34/14] قولوا لهؤلاء الإخوة لا تُعرضوا، استجيبوا لله كما استجاب لكم، عاهدوا الله أن تطهروا هذه البلدة من الأدناس، ولسوف يزيدكم الله كرماً، ولسوف يزيدكم الله عز وجل عطاءً.


أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي