مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 15/03/2002

من عبر ذكرى الهجرة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.




أمّا بعدُ فيا عباد الله..



لقد طوينا بالأمس عاماً هجرياً أدبر وانقضى من حياتنا وها نحن نستقبل اليوم عاماً هجرياً جديداً من حياتنا، فيا مرحباً بالعام الجديد الذي يزيدنا قرباً من لقاء الله ويبعدنا عن متاع هذه الدنيا الفانية، ووداعاً للعام الذي تصرّم بما فيه من خير وشر سائلين الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا ما وفقنا فيه من طاعات وأن يصفح عنا ما ارتكبنا فيه من معاصٍ وزلات. وأحمده عز وجل باسمي واسمكم جميعاً أنه يجعل في انقضاء العمر عاماً إثر عام ما يزيدنا أنساً بالقرب من لقاء الله، وما يزيدنا استبشاراً بالارتحال إلى تلك الدار الآخرة الباقية ولم يجعلنا من أولئك الذين اتخذوا من الحياة الدنيا سجناً لهم، كلما مرت بحياتهم سنة إثر سنة ازدادت أقطار هذا السجن عليهم ضيقاً ثم ازدادت عليهم ضيقاً إلى أن يصل الواحد منهم إلى درجة الاختناق.



كم هو شقاءٌ مريرٌ أيها الإخوة أن يتوهم الإنسان أن حظه محصورٌ في هذه الحياة الدنيا التي يعيشها، فإذا انقضت سنوات عمره ارتحل إلى حيث لا شيء، شمعةٌ كانت تتقد ثم انطفأت، هؤلاء الناس شأنهم كما قلت مرة كشأن من قُضي عليه أن يمشي في نفق ذي اتجاه واحد مظلم، يُخيل إليه أن هذا النفق ينتهي بسد كلما أوغل فيه سيراً كلما شعر بالضيق والاختناق.



الحمد لله لك الحمد يا مولانا أنك أورثتنا اليقين بأننا إنما نسير في هذه الحياة الدنيا في نفقٍ ينتهي بنا إلى واحة ظليلةٍ وارفةٍ حيث لقاء الله، حيث النعيم المقيم، حيث الرغد من العيش، وأجل ذلك كله أن يلقانا الله عز وجل راضياً عنا.



أيها الإخوة كم هي نعمة غالية أن يكرمنا الله عز وجل بهذا اليقين وأن يجعلنا كلما استقبلنا من عمرنا عاماً جديداً وودعنا عاماً مدبرا نزداد استبشارا ونزداد أنساً بأن مسافة ما بيننا وبين الله عز وجل قد ضؤلت، وأن لقاءنا بالله عز وجل قد أزف أو كاد، وإنه ليحضرني في هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي يرويه الشيخان عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء كره الله لقاءه. قالت: يا نبي الله أكراهية الموت، إنا لنكره الموت قال: ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه كره لقاء الله وكره الله لقاءه[.



اللهم لك الحمد أن أورثتنا اليقين الذي يجعلنا نحب لقاءك، ونستبشر بدنو ميقاته ولم تجعلنا من هؤلاء الذين أشقيتهم وأنسيتهم أنفسهم، لم تجعلنا ممن حذرت منهم في كتابك قائلاً: )ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه[، كم هي منة كبيرة لله علينا أن لم يجعلنا أيها الإخوة ممن أنسانا ذكره، اللهم ثبتنا على هذا النهج.



نعم أيها الإخوة مرحباً بالعام الجديد الذي يزيدنا قرباً إلى لقاء الله وبعداً عن متاع هذه الدنيا الفانية. ووداعاً للعام الذي انقضى بكل ما انطوى عليه من طاعات وفقنا الله إليها ومعاصٍ اجترحناها ولكني أسأل الله عز وجل أن يبارك لنا في تلك الطاعات وأن يصرف عنا تلك السيئات والأوزار.



أيها الإخوة أريد نفسي وأريدكم أن تقطفوا من عبر هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثيرة هذه العبرة الواحدة: خطط المشركون ولم يقصروا في وضع تلك الخطط تفكيراً وتدبيراً واعتصاراً لما هدته إليه عقولهم ورعوناتهم، خططوا لقتل رسول الله، خططوا للقضاء على دينه وإسلامه، خططوا للوقوف في وجه قضاء الله سبحانه وتعالى. فماذا كانت عاقبة خططهم التي لم ينقصها تدبير مدبرٍ من البشر ولم تنقصها أداة من أدوات المكر، ولم تنقصها حيلة من حيل العقل؟ ماذا كانت عاقبة مكرهم؟



انظروا إلى قول الله عز وجل: )وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[. انظروا إلى قوله سبحانه وتعالى في المعنى ذاته وهو يقول: )أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ[ أم أبرموا أمراً أم أحكموا خطتهم وأحكموا مكرهم فإنا مبرمون، نحن أيضا أبرمنا وأحكمنا خطتنا فأي الحكمين المبرمين ينفذ؟ ما الإنسان أيها الإخوة )قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ[ كما يقول مولانا وخالقنا جل جلاله. ماذا كانت قيمة مكر المشركين وخططهم التي وضعوها للقضاء على الإسلام من حيث القضاء عليه للقضاء على رحمة الله المهداة إلى هذه الإنسانية عامة، باءت خططه بالفشل، باءت خططهم بالانمحاق والزوال، وأنفذ الله عز وجل حكمه ولا داعي إلى التفصيل .. وأنتم تعلمون نبأ الهجرة، وأنتم تعلمون كيف كانت الهجرة بوابة الفتح الإسلامي إلى مشارق الأرض ومغاربها شمالها وجنوبها. إلام انتهت خطط الماكرين وكيف أثمرت خطة رب العالمين؟ خذوا هذه العبرة يا عباد الله وانظروا كم يؤكد ويكرر بيان الله سبحانه وتعالى هذه الحقيقة وهذا المعنى لكي لا ننسى، تلك سنةٌ قضى الله عز وجل بها، ومن ثم فإن خططهم مستمرة لا تنقطع لكن أي الخطتين تنفذ وأيهما تبوء بالانمحاق والزوال والمحو أيها الإخوة؟



وما تحقق بالأمس لابد أن يتحقق اليوم، هذا قانون الله من ذا الذي يرتاب في ذلك هذه الحقيقة لا تبدل فيها، سنة الله عز وجل ماضية في خلائقه لا تتبدل، ولكن الله عز وجل دائماً يجند عباده الصالحين لتحقيق خططه، لتحقيق قضاءه الأعلى، لتحقيق إراداته السامية يجند عباده الصالحين، فأين هم عباد الله الصالحين؟



أروني أيها الإخوة من صدقوا مع الله فيما وعدوه وفيما عاهدوه عليه أريكم سلسلة المعجزات التي تبين نصر الله عز وجل الدائم لعباده والتي تجدد معنى قوله سبحانه وتعالى: )أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ[ والذي يجدد قرار الله القائل: )وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[ لا يمكن لما تسمعون من مكرٍ يحاك وخطط تُرسم في دنيا الغرب أينما كانت ضد الإسلام الذي أنزله الله عز وجل رحمة لعباده، لا تتصوروا أن تلك الخطط وأن تلك الأنواع من المكر تستطيع أن تفوز فتتغلب على دين الله من ذا الذي يتصور هذا؟ دين الله هو الغلاب دائماً )يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[ هذا قرار الله سبحانه وتعالى، هذا هو قرار الله سبحانه وتعالى لست أنا الذي أتنبؤ به وإنما رسولنا  الحبيب هو الذي أخبر عنه: )ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها فأراني ما زوي لي منها ألا وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها[ وليس ملك رسول الله درهم ولا دينار وإنما ملكه هذا الدين الذي ابتعثه الله سبحانه وتعالى به. ومن ارتاب في قرارات الله وحكمه فليعد إلى سيرة الهجرة النبوية فليعد إلى ظاهرة الهجرة في مقدماتها ثم لينظر إلى نتائجها.



انظروا إلى مقدمات الهجرة كيف نفض المسلمون أيديهم عن الدنيا وزخارفها ومتاعها ومتاع الغرور كما وصف الله سبحانه وتعالى، واتجه كلٌ منهم إلى ربه وكأنه يقول: )وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ[ هذه المقدمة، فماذا كانت النتائج؟ كانت النتائج أن أعادهم الله الوطن الذي سُلب ومعه أوطان كثيرة أخرى، أعاد الله لهم الأموال التي استلبت منهم بل التي تركوها وراءهم ومعها كنوز من الأموال والمدخرات الأخرى وجعل لهم من هذا الدين شعاع كشعاع الشمس يمتد يميناً وشمالا شرقاً غرباً جنوبا في كل أنحاء العالم، تلك هي شجرة الهجرة في جزعها الراسخ وتلك هي ثمراتها في نتائجها المثمرة العظيمة ألا فليعتبر المعتبرون، آه لو أن حكام المسلمين اعتبروا، آه لو أن حبهم لله عز وجل استيقظ بين جوانحهم فأعادهم إلى تضامن، أعادهم إلى اتحاد، أعادهم إلى تلاق القلوب لا إلى مصافحة الأيدي، وعاهدوا الله من جديد أن يكونوا كذلك الرعيل الأول الذي هجر الدنيا تكتيكاً فأعادهم الله إلى الدنيا وأعادها إليهم استراتيجية حقيقية، إذاً لصلح أمرهم ونسأل الله عز وجل لنا ولهم الهداية والرشد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.    

تحميل



تشغيل

صوتي