مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 15/02/2002

من كان يريد علاج قلبه ففي هذا العشر ترياق

من كان يريد علاج قلبه ففي هذا العشر ترياق


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 15/02/2002


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


إنكم لتعلمون أن هذه الدنيا دار ابتلاء، وأنه ما مِنّا من أحدٍ إلا وله همومه الكثيرة المتنوعة المتشعبة، لا ينجو من هذا القرار ناس دون ناس، ولا تتميز في ذلك طبقة عن طبقة أخرى، تلك هي سنة الله عز وجل في عباده، فإلى من نتجه بهمومنا هذه لنتحرر منها؟ وما هو الباب الذي نطرقه لكي نتخلص من كُدرات حياتنا هذه، ولننتعش في الأيام التي قضى الله عز وجل علينا أن نعيشها فوق هذه الأرض؟


لنتخلص في هذه الأيام التي كُتبَ لنا أن نعيشها من كُدرات الهموم والمصائب والابتلاءات؛ إنكم لتعلمون أنه ليس أمامنا مهما بحثنا إلا باب واحد هو باب الله عز وجل، وكلكم يقرأ في ذلك بيان الله القائل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات: 51/50] إن أرهقتنا الذنوب فليس أمامنا سبيل لِنَحُطَّ أثقال ذنوبنا به إلا باب الله عز وجل، وإن أرهقتنا المصائب الدنيوية المتنوعة فليس لنا من سبيل للفرار منها إلا الفرار إلى الله سبحانه وتعالى.


وأحبّ أن أوضح لكم أن الفرار من هذه المصائب والابتلاءات إلى الله عز وجل لا يكون بتذكره في حال المصيبة؛ ثم طرق بابه بالدعاء عن طريق ألفاظ نحفظها وكلمات نرددها في أوقات قيل لنا إن الدعاء يستجاب فيها؛ حتى إذا وصلنا إلى مبتغياتنا اجتزنا الباب وعدنا إلى شأننا السابق، هذه حال كثير من الناس، وتلك رعونة معروفة لا داعي إلى أن نتحدث عنها.


كيف يكون الفرار إلى الله عز وجل؟ وكيف يكون طرق باب المولى سبحانه وتعالى لنتخلص من مصائبنا وآلامنا المتنوعة الكثيرة؟ إنما يكون ذلك بالاصطلاح مع الله. ومعنى الاصطلاح مع الله أن نصلح ما أفسدنا في حقه، وأن نُقَوِّم الاعوجاج الذي وقعنا فيه ونحن نسير في الطريق إلى مرضاته، وأن نتذكر ما نسينا من أوامره، وأن نقلع عما عكفنا عليه من النواهي التي حذرنا الله عز وجل منها، هذا هو معنى الاصطلاح مع الله. إذا أردتم أيها الإخوة أن تتحرر حياتكم من المصائب المتنوعة، وأن تنتعش أفئدتكم بالسعادة الحقيقية، فلا سبيل إلى ذلك إلا عن طريق الاصطلاح مع الله بالمعنى الذي ذكرته لكم، أما الدعاء فإنما يأتي في نهاية المطاف، ويأتي تتويجاً للاصطلاح مع الله سبحانه وتعالى. أظن أنه ما من مؤمن بالله عز وجل صادق في يقينه بوجود الله ووحدانيته إلا ويعلم هذا الذي قلت، يعلم المصائب التي وقعنا تحت أثقالها؛ ولا داعي لفيض من الحديث عنها، ويعلم الهموم التي تراكمت على نفوسنا وما أكثرها تنوعاً، ويعلم أن لا سبيل للتخلص منها إلا باب الله عز وجل، وإنما يكون ذلك كما قلت لكم بالاصطلاح معه.


وأمامكم أيها الإخوة فرصة قد لا تعود، إنها فرصة هذه الأيام التي نمر بها، هذه الأيام والليالي التي أقسم الله عز وجل بها في محكم تبيانه، وكلكم يقرأ هذه الآيات والمظنون أننا جميعاً نقف عند مدلولها: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ [الفجر: 89/1-5]


ما هي الليالي العشر التي يقسم بها الله عز وجل؟ هي هذه الليالي وتتبعها أيامها، الليالي الأولى من شهر ذي الحجة هي التي أقسم بها ربنا سبحانه وتعالى، وقسم الله عز وجل بما يقسم به في محكم تبيانه لا معنى له إلا التنويه بأهميته، فهذا القسم إنما يترجم في بيان الله عز وجل بالتنويه بالأهمية الكبرى لهذه الأيام والليالي التي نمر بها، ولذا فقد ورد في الصحيح فيما يرويه البخاري من حديث سيدنا عبد الله بن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: ﴿ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام. قال له أحد الصحابة: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله؛ فلم يعد من ذلك بشيء﴾ ما أظن أننا بحاجة إلى أن نزيد أهمية هذه الأيام بياناً بعد بيان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


لا يقولن قائل في نفسه لسوف أدعو الله عز وجل في هذه الأيام الفاضلة، ولسوف أحفظ الدعاء الفلاني، ولسوف أحفظ هذه الكلمات الأخرى ذات الأهمية، ولسوف أبدؤها بالصلاة النارية مثلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتُحلَّ مشكلاتي، ولِتَزُول معضلاتي. ليس هذا شأن من يريد أن يصطلح مع الله، هذا شأن إنسان دفعته رعونته إلى قضاء حاجاته، قيل له: إنك إن قرأت كذا وكذا وكذا، ودعوت بكذا وكذا في هذه الأيام، استجاب الله لك. يتجه رأساً إلى هذه الوصفة من أجل أن يصل إلى مبتغاه، فإذا وصل إلى مبتغاه مرّ ناسياً هذا الباب الذي وقف عنده.


ليس الاصطلاح مع الله هكذا أيها الإخوة، الاصطلاح مع الله أن يعود أحدكم إلى نفسه فيتبين السخائم والأمراض المتراكمة في قلبه والتي تحجبه عن الله عز وجل، فيقرر بينه وبين ربه مستعيناً بفضيلة هذه الأيام أن يطهر قلبه منها، يعمد إلى المعاصي إلى اللهو - وما أكثر أنواع اللهو - إلى الشرود - وما أكثر أنواع الشرود - عن باب الله سبحانه وتعالى فيفطم نفسه عن ذلك، ثم يتجه إلى ما يحبه الله من الأعمال الصالحة المبرورة وإلى ما قد أمره الله عز وجل به؛ وهو يسمع كلام الله عز وجل في الحديث القدسي: ﴿ما تقرب إليَّ عبد بعمل كالعمل الذي افترضته عليه﴾ يقبل إلى هذه الفرائض فيؤديها على وجهها، ثم يسمع كلامه؛ كلام مولانا وخالقنا في تتمة هذا الحديث: ﴿وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه﴾ فيملأ وقته كله بالنوافل والقربات التي تحببه إلى الله سبحانه وتعالى، ثم يدعو بما يشاء بعد ذلك أو خلال ذلك، هكذا يكون الاصطلاح مع الله، وهكذا يكون التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.


أيها الإخوة إن أمامنا مقياساً واحداً، هو المقياس الأوحد الذي يبين مدى قُربنا من الله أو ابتعادنا عنه، هذا المقياس المقياس الذي يترجم مدى محبة الله عز وجل لك، ولاشك أنكم ستقولون: وكيف السبيل إلى أن أعلم مدى محبة الله عز وجل لي؟ سبيل ذلك أن تنظر إلى ما قد أقامك الله عز وجل فيه، فإن رأيت أن الله سبحانه وتعالى أقامك في أداء القربات والقيام بالفرائض والتقرب إلى الله عز وجل بالنوافل كما قال الله عز وجل في هذا الحديث القدسي، فاعلم أن الله عز وجل يحبك، ورحم الله ابن عطاء الله السكندري إذ يقول: "إذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله، فانظر ما الذي أقامك الله فيه؟" إذا أردت أن تعلم منزلتك عند الله فانظر ما هي الأعمال التي أنت شغوف بها ميّال إليها، تزجي وقتك وتمضيه فيها، إن رأيت أن أحب الأعمال إلى قلبك تلك التي يحبها الله، تلك التي ترضي الله سبحانه وتعالى، فاستبشر واعلم أنك محبوب من الله سبحانه وتعالى، ولولا حبه لك لما جذبك إليه. ولكن إن نظرت فوجدت أن الدنيا هي شغلك الشاغل، وكلمة الدنيا تشمل صوراً كثيرة: تشمل السوق، وأسباب النسيان واللهو التي فيه، تشمل أنواع الأعمال التي يزجي الإنسان بها وقته الثمين، ويُمضي بها ويُطارد بها أيامه ولياليه التي تقف بينه وبين الموت، الدنيا كلمة لها مدلول واسع جداً لا مجال للحديث عنه، إذا وجدت نفسك تتقلب في حمأة الدنيا بأنواعها وأشكالها، وإذا وجدت نفسك متثاقلاً عن القيام بما افترضه الله عليك؛ إن قمت لأدائه تقوم بأدائه وكأنك تحمل ثقلاً تريد أن تضعه عن كاهلك، فما تكاد تتخلص منه حتى تعود إلى شأنك ولهوك، إن رأيت أنك تتثاقل عن النوافل التي تتقرب بها إلى الله، فاعلم أنك محجوب عن الله، واعلم أن حياتك في خطر.


أيها الإخوة ليس المهم أن يكون الإنسان في مظهره ملتزماً بأوامر الله التزاماً تقليدياً كما هو شأن أكثرنا، المهم أن تعود إلى قلبك فتنظر ما الذي يشغلك؟ ما الفكر الذي يهيمن عليك؟ في غدوِّك، في مسائك، في صباحك، في تقلباتك، في سهرك وليلك؟ إن رأيت أن الدنيا بكل أصنافها هي شغلك الشاغل؛ فاعلم أنك من علاقتك مع الله على خطر، واعلم أن الهمّ لن يبارح قلبك، واعلم أن سُحُب الضيق لسوف تظل مهيمنة على كيانك، أما إن رأيت أن أفكارك عندما تكون منفرداً منصرفة إلى ما بينك وبين الله؛ أهو راضٍ عني؟ أهو محب لي؟ ترى ما هو مصيري غداً؟ ما الذي سيختم لي عندما يطرق بابي ملك الموت؟ ثم تجد نفسك مندفعاً بسائق هذه الأفكار إلى الكثير من ذكر الله، إلى الكثير من الطاعات والعبادات والنوافل، توسع آفاق ثقافتك الإسلامية بما تستطيع من الدرايات التي تقربك إلى الله، وتزيديك حباً لله، وتطهر قلبك من السخائم، إن رأيت أن فكرك مشغول بهذا فاستبشر واعلم أن ما بينك وبين الله عامر. وإذا كان ما بين العبد وبين ربه عامراً فعلى الدنيا كلها العفاء، وإذا وجدت نفسك تعاني من مرض - ولا أعني المرض الجسدي - تعاني من مرض قلبي، تعاني من مرض الحجب الكثيفة المتراكمة بينك وبين الله، فها هو ذا العلاج قد وضعه الله عز وجل أمامك: هي هذه الأيام التي تمر بك أقبل فيها الله، داوِ مرضك بعلاج العمل الصالح في هذه الأيام، كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإياك ثم إياك أن تعكف على غَيِّكَ، ولا أعني بالغي المحرمات فقط. لا، من الغي أن تنسى الله ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: 59/19] هكذا يقول الله عز وجل، من الغي - وقد أمرك الله عز وجل أن تعرف شأنك، وأن تتهيأ لما أنت مقبل إليه - من الغي أن تنصرف عن ذلك، وأن تتقلب في حمأة ملهياتك ومنسياتك، لعل الموت يأتي بعد ساعات لعله يكمن لك في الطريق بعد أيام. ما بضاعتك التي هيأتها إلى الله؟ قلب مليء بالسخائم والأمراض، وجسم يحمل أثقالاً من الإعراض عن الله عز وجل، متمثلاً في مُنسيات وملهيات شتى، وإنما خُلقت في هذه الدنيا لتعرف مولاك، ولتجعل من قلبك وعاء لحب الله عز وجل.


أيها الإخوة! أدعو نفسي وأدعوكم جميعاً إلى أن نصلح من شأننا، وأن نصطلح مع ربنا ومولانا وخالقنا تحت مظلة هذه الأيام والليالي التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها، نصطلح معه على الشكل الذي ذكرت، وأنا أجزم وأقطع بأن الله عز وجل يكتب لكلٍّ مِنّا أجْرَ حَجٍّ إلى بيته الحرام إن صدقنا معه في الاصطلاح معه، وإن أقبلنا إلى الله عز وجل وقد غسلنا ما في نفوسنا وما تراكم على كياناتنا بماء الاستغفار بماء التوبة بماء الإنابة إلى الله، ثم دعونا الله عز وجل، دعوناه سبحانه وتعالى أن يجعلنا مِمّن أحبهم فأحبوه.


وأنتم تعلمون أن هذه الأيام تُتوج بيوم عرفة، ويوم عرفة وما أدراك ما يوم عرفة؟ هو اليوم الأغرُّ من عمر الدهر كله، ويوم عرفة فضيلته ليست محصورة بالموقف، فضيلته عامة زماناً ومكاناً، فمن أتيح له أن يقف في عرفة يوم عرفة؛ فذاك الذي كتب له الله الأجر الأوفى إن صلح منه القصد، ومن لم يكتب له ذلك فليكن ممّن يعيش مغرباً أو مشرقاً. يوم عرفة له فضله العظيم الذي يلاحق الناس كلهم أينما كانوا، انتهزوا فرصة ذلك اليوم، واملؤوا بياض تلك الساعات بأقرب ما تستطيعون أن تتقربوا به إلى الله، وتوجوا ذلك بالصيام، سُئِلَ المصطفى صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة فقال: ﴿يُكَّفر السنة الماضية والسنة الباقية﴾ يكفر الأوزار كلها عن السنة الماضية وعن السنة التي أنت فيها، نحن مرضى أيها الإخوة، ونحن بأمس الحاجة إلى من يُطبِّبُنا، فمن هو الطبيب؟ لا طبيب إلا مولانا وخالقنا ليس لنا مولىً سواه، ربنا الأوحد وليس لنا رب سواه وهو ينادينا فيا عجباً لمن يناديه مولاه وهو معرض عنه، يا عجباً للمريض الذي يلاحقه طبيبه وهو معرض عنه، في هذه الليالي بل في كل الليالي، فضلاً عن هذه الليالي المباركة، يطّلع الله فيها على عباده كما ورد في أحاديث كثيرة بطرق شتى، يطّلع الله فيها على عباده في النصف الأخير أو في الثلث الأخير من كل ليلة، لاسيَّما هذه الليالي فيقول: ﴿ألا هل من مستغفر فأغفر له؟ ألا هل من سائل فأعطيه؟ ألا هل من داعٍ فأستجيب له؟﴾ يا عجباً لمن يغط في رقاده ومولاه يناديه، يا عجباً لمريض يئن من أوجاعه ومولاه يقول: تعال لأطببك، تعال لأُداويك، تعال لأشفيك من آلامك. ولكنه معرض عن الله عز وجل، فاستيقظوا - أيها الإخوة - من رقاد غفلتكم وتعالوا نلبِّ مولانا وخالقنا الذي ينادينا إلى مائدته وإكرامه وجوده، ليغفر لنا الذنوب، وليستر لنا العيوب، وليحقق لنا الأماني.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 

تحميل



تشغيل

صوتي