مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 25/01/2002

عندما غدا إسلامنا جسداً لا روح فيه

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن مشكلاتنا كبيرة وكثيرة ومتنوعة سواء منها المشكلات الجزئية الداخلية أو المشكلات العالمية التي يعاني منها العالم الإسلامي أجمع. ونحن عندما نحاول أن نعالج هذه المشكلات فإنما نعالجها بطريقة واحدة لا ثاني لها ألا وهي: الفكر والتعاون على وضع الخطط والاستعانة بالوسائل المادية المختلفة، هذا إن حاولنا أن نعالج هذه المشكلات وإن حركتنا الغيرة للسعي إلى معالجتها وحلها والقضاء عليها.

ومعالجة المشكلات بالفكر وبالخطط التي ترسم وبالوسائل المادية أمر لابد منه، لكن ذلك كله إنما هو كالجسد بالنسبة للروح، فالجسد لا يمكن أن يتحقق له وجودٌ ذاتي ولايمكن أن تتحقق له طاقة فعالة إلا مع الروح، كذلكم الروح لا يمكن أن تمارس وظيفتها إلا داخل كيان ألا وهو الجسد، بينهما تفاعل معروف لاداعي للوقوف عنده بأي برهان أو دليل. لابد من أن نعالج مشكلاتنا بالفكر الذي وهبنا الله عز وجل إياه وبالوسائل المادية التي سخرها الله عز وجل لنا، لكن ذلك كله إنما هو جسم وإذا خلا الجسم عن الروح فهو شيء ميت لا حراك به ولا فائدة منه.

ما هي الروح التي ينبغي أن تسري في وسائلنا المادية التي نلجئ إليها وفي أعمالنا الفكرية التي نتعاون للبحث فيها؟ إنه الالتجاء إلى الله .. إنه الخشية والتبتل على أعتاب الله سبحانه وتعالى .. إنه الانكسار والتضرع بين يدي الخالق الأوحد سبحانه وتعالى.

وأنا لا أعني الانكسار أيها الإخوة صورة تتبدى على كيان الإنسان، ولا أعني بالتواضع والتضرع ذبول العينين أو ميول الرأس أو تقوس الظهر .. فذلك كله مظهر من مظاهر الجسد ونحن نتكلم عن الروح ولا نتحدث عن دور الجسد وأعماله، إنني أعني بالتبتل بالتضرع بالانكسار، أعني بذلك كله مشاعر القلب، انكسار الروح تذلل الكيان الإيماني الساري في جسد الإنسان وجسمه، هذا ما أعنيه بالتبتل والتضرع والخشية والخشوع والترامي على أعتاب الله سبحانه وتعالى.

وأنتم أيها الإخوة تعلمون أن الإنسان يتقلب دائماً بين حالين اثنين لا ثالث لهما، فإما أن يكون معانياً لمصائب ومشكلات وابتلاءات، وإما أن يكون متقلباً في نعيم ورغد من العيش، وهو في كلا الحالتين بحاجة ماسة إلى الانكسار على أعتاب الله سبحانه وتعالى، أما في الحالة الأولى فلكي يرفع الله سبحانه وتعالى البأساء ولكي يزيل الغم والهم، وأما في الحالة الثانية، فلكي يبقي نعمته ولكي لا يبدل النعمة التي متعه الله سبحانه وتعالى بها نقمة والله سبحانه وتعالى يقلب العبد بين حالين. إذاً الإنسان في كلا هذين الحالين لا يستغني عن الالتصاق بباب الله عز وجل متذللاً منكسراً متضرعاً باكياً خاشعاً أمام عظمة الله سبحانه وتعالى وسلطانه.

ويا عجباً لمن يقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى ويمر بالآيات التي تذكر بهذا الدواء ثم لا يلتفت إليه.

يقرأ قوله سبحانه )أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ، وَأَنتُمْ سَامِدُونَ[ يمر بهذا الكلام دون أن تتحرك مشاعره بأي خشية أو تأثر أو أن ينتابه شعور من مشاعر الذل أمام هذا الكلام المخيف.

يقرأ قول الله سبحانه وتعالى: )وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا[ وصفٌ للمؤمنين الصادقين وللمسلمين السائرين حقاً على صراط الله سبحانه وتعالى، لا يسأل أحدنا ذاته أهو من هؤلاء الناس؟ أهو ممن يخر للأذقان باكياً خاشعاً متضرعاً ولا نقف عنده بأي تدبر.

يقرأ أحدنا قوله خطاباً من الله سبحانه وتعالى لرسوله: "وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا[ يمر من جنب هذا الكلام الأخّاذ دون أن يسأل نفسه، ألست أولى من رسول الله بالتبتل؟ ألست أولى منه بالخشية ودوام المراقبة وهو معنى من معاني التبتل لله سبحانه وتعالى؟

مصيبتنا أيها الإخوة الكبرى التي تقف على رأس المصائب التي تمر بنا أن إسلامنا آل إلى جسد لا روح فيه كما قد قلت لكم، مصيبتنا في أحسن الأحوال أن إسلامنا عاد حركات وأفكاراً وخططاً والتجاءً إلى الوسائل والسبل المادية المختلفة وقد قلت لكم إنه لابد منها. الجسم لابد أن يكون قفصاً تجوب فيه الروح ولكن ما هي فائدة جسد لا روح فيه؟ هذا ما قد آل إليه إسلامنا، وأنا عندما أنظر إلى شخص رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي هو أول المبشرين بالجنة وهو الذي أثنى الله عز وجل عليه بما تعرفون )وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" "وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا[ )وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ[ عندما أنظر إلى حال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجد أنه أول الباكين خوفاً من الله، وأول المنكسرين على أعتاب الله سبحانه وتعالى، وأول المتذللين بل أول من يذوب تعظيماً لحرمات الله سبحانه وتعالى، ثم أعود إلى نفسي وأنظر إلى الحال التي أنا فيه أكاد أقع بين براثن اليأس أيها الإخوة، عندما أقارن بين هاتين الصورتين وما ينبغي أن يتصوره إنسانٌ مثلي يجب أن يتصوره كل واحد منكم.

روى عبد الله بن عمر بن العاص أن الشمس كسفت ذات يوم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، يقول عبد الله بن عمر بن العاص فسجد حتى لم يكد يرفع رأسه - أي من طول ما سجد - ثم رفع فلم يكد يسجد - أي من طول ما جلس بين السجدتين - ثم سجد فسمعناه ينفخ ويبكي ويقول: )يارب ألم تقل وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم؟ ألم تقل ما كان الله معذبهم وهم يستغفرون، ونحن نستغفرك يا رب، ثم لما انفتل من صلاته قام فاخططب الناس وقال: إن الشمس والقمر آيتين لا يخسفان لموت أحد ولا لولادة أحد، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله[. رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى آية من آيات الله عز وجل خرجت عن سننها خرقاً للعادة كما يفعل الله عز وجل فيتوجس المصطفى صلى الله عليه وسلم من ذلك خيفة ويتصور أن هذا نذير بين يدي عذاب شديد ربما فيفزع إلى التضرع وإلى الصلاة وإلى أي صلاة؟ إلى أي صلاة؟ صلاة ليست بين تلك الصلاة وبين صلاتنا من نسب إلا المظهر، وأسأل الله العفو والعافية. انظروا إلى تضرعه، انظروا إلى بكائه، يجأر إلى الله سبحانه وتعالى بأن يرفع البلاء عنه وعن أمته.

يروي عبد الله بن الشخير يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يصلي وسمعت لجوفه أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء.

أيها الإخوة أقول هذا وفي سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الصورة كثير؛ لأعقد مقارنة بين إسلامنا الذي آل إلى شكل لا موضوع فيه وإلى جسد لا روح فيه - إلا ما ندر إلا ما رحم ربك - وبين إسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه البررة الكرام بذلك التضرع، بذلك الخشوع، بذلك الانكسار رفعت الغماء عنهم، استجاب الله سبحانه وتعالى أدعيتهم، صرف كيد الكائدين عنهم، رد كيد الأعداء إلى نحورهم، بالتبتل بظهور حقائق العبودية لله سبحانه وتعالى في كياناتهم.

ألا تذكرون ألا تتصورون المشهد الأخاذ العجيب الذي ظهر للمصطفى صلى الله عليه وسلم وهو داخلٌ إلى مكة فاتحاً، ولا أعلم أن قائداً في جيشه أو أن حاكماً في قومه وفقه الله سبحانه وتعالى وسما به إلى قمة النصر كالنصر الذي قيضه الله للمصطفى يوم دخل مكة فاتحاً، ولو جاز لقائد أن يسكر منتشياً بنشوة النصر لجاز ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كان يدخل مكة فاتحاً وقد دان له أهلها جميعاً. فكيف كان دخوله؟ تصوروا ما يذكره لنا عبد الله بن المغفل والحديث صحيح، دخل المصطفى صلى الله عليه وسلم معتجراً بعمامة وقد طأطأ رأسه إنكساراً وذلاً لله سبحانه وتعالى حتى إن عثونه ليكاد يمس واسطة الرحل من كثرة ما قوس ظهره لا يلتفت يميناً وشمالاً، نعم كان منتشياً لكنه لم يكن منتشياً بعظمة النصر الذي تحقق له، وإنما كان منتشياً بانكساره لله، بذل عبوديته لله، وكان يرتل آيات من سورة الفتح.

هكذا كان الإسلام بالنسبة لذلك الرعيل الأول، وهكذا طرد المسلمون المشكلات التي طافت بهم وكانت أكثر وأطم وأخطر من المشكلات التي نعاني منها اليوم. ونحن اليوم أيها الإخوة في أحسن الأحوال نعالج مشكلاتنا بالفكر والفكر وحده، نعالج مشكلاتنا بالبحث عن الوسائل المادية والوسائل المادية وحدها، وكل ذلك جيد لكنه كما قلت لكم جسد، والجسد لا يعمل شيئاً إلا إذا كانت الروح سارية فيه من الفرق إلى القدم. أما في حالات أخرى فقد عاد الإسلام أيها الإخوة شعاراً ميتاً تحلى به الصدور مثلاً أو تجمل به الأفواه وربما كان دون ذلك أيضاً بالنسبة لحال كثير من المسلمين، فلا يتوقعنّ أي منا أن ترتفع عنا هذه المصائب طالما كان إسلامنا جسداً لا روح فيه.

نعم أيها الإخوة أنا أجد هنالك خمائر إن جاز التعبير بذوراً من الصلاح، من التبتل، من التذلل والانكسار يعودنا بالذكرى إلى ما كان عليه أصحاب رسول الله، لكنه شيء نذر وقليل، شيء لا يقوى على أن يصلح فسادنا أو أن يقوم اعوجاجنا، نحن ننتظر أن تعود الكثرة الكاثرة من هذه الأمة المسلمة إلى هذا النهج الذي تركنا عليه رسول الله، نحن ننتظر من قادة الأمة وشعوبها أن يتفاعلوا مع قول الله عز وجل: )أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ[ ننتظر أن نصطبغ جميعاً بمعنى قول الله سبحانه: )وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا[.

وقد قلت لكم مرة وأعيد ما قلت، صورتان تأخذ مني بالألباب وتجعلني أسكر تأثراً بجمال هذه الصورة وما فيها من إيحاءات، الصورة الأولى: صورة إنسان قضى حياته تائهاً شارداً فاسقاً مرتكباً للموبقات، يجاهر ربه ومولاه بالمعاصي، انظر إليه ذات يوم وإذا هو بالصف الأول من الراكعين الساجدين متبتلاً متذللاً تهمي الدموع من عينيه خوفاً ووجلاً من الله سبحانه وتعالى، هذه هي الصورة الأولى. الصورة الثانية : صورة قائد ذي سطوة ومهابة في جيشه، أو حاكم ذي قوة في قومه، أتيح له من القوة أكثر مما يريد. وأنظر إليه وإذا هو متذلل متبتل في محراب العبودية لله سبحانه وتعالى، قد تجلبب كيانه لا جسده فقط كيانه الروحي بذل العبودية لله سبحانه وتعالى بالصورة التي تذكر بصورة المصطفى عليه الصلاة والسلام وهو يدخل مكة فاتحاً.

هاتان الصورتان أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بهما هذه الأمة، إذاً تُحل عقدها وتنفرج كربها وتزول مشكلاتها. عندما أجد لا الفئة القليلة من الفقراء والمساكين يجتمعون في مجالس الذكر والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، بل عندما أجد قادة هذه الأمة، حكامها رؤسائها وقد ذلوا ذلاً حقيقياً نابعاً من أفئدتهم لمولاهم الأوحد ودانوا بمعنى العبودية له وظهر فيهم معنى قول الله عز وجل )وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا[ عندما يتحقق في المسلمين هذا المعنى أنا أضمن لكم أن مشكلاتهم كلها تنجلي وتزول عنهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي