مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 18/01/2002

كارثة العالم الإسلامي بانهيار الخلافة الإسلامية

كارثة العالم الإسلامي بانهيار الخلافة الإسلامية


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 18/01/2002


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


كلما امتد الزمن وازدادت مصائب المسلمين واستشرى العدوان عليهم، وكلما ازداد قادة العالم العربي والإسلامي تفرقاً، وكلما ازدادوا صَغاراً وذلاًّ في عين العالَم المعمور اليوم؛ ازداد الإنسان المسلم يقيناً بأهمية الخلافة الإسلامية. وازداد معرفة بعِظَم ذلك الكنز الذي فقدناه؛ بل بأهمية ذلك الحصن الذي تهاوى.


وما هي الخلافة الإسلامية أيها الإخوة؟


إنها حِزام الوَحْدَة الإسلامية التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بها، وارتضاها لنا في مثل قوله عز وجل: ﴿واعْتَصِموا بِحَبْلِ اللهِ جَميعاً ولا تَفَرَّقوا﴾ [آل عمران: 3/103]؛ وفي مثل قوله عز وجل: ﴿ولا تَنازَعوا فَتَفْشَلوا وتَذْهَبَ ريحُكُمْ﴾ [الأنفال: 8/46]. أمر صادر من مولانا الواحد الأحد جل جلاله، يدعونا إلى الوحدة والتضامن. وهذا أمر يدل على الوجوب بالاتفاق وبالإجماع. فكيف يكون السبيل إلى ذلك؟ سبيل ذلك هذا الحزام الذي لا بديل عنه؛ ألا وهو الخلافة الإسلامية. كلمة غابت ذكرياتها حتى عن أذهاننا، وأصبح جُلُّ المسلمين اليوم ربما يتحاشون الحديث عنها - هذا إن ذكروها - ولكن على المسلمين اليوم أن يعودوا إلى ذكرى هذه النعمة التي سحقوها تحت أقدامهم. فلم يستطيعوا أن يستعيضوا عنها أي بديل قط.


عندما كان درع الخلافة الإسلامية قائماً ماثلاً يَنْعَم به المسلمون، لم تكن فئة ما تستطيع داخل العالم الإسلامي أن تتسرب إليه بأي عملية تخريبية؛ كما يجري اليوم باسم الإسلام، باسم التطوير، باسم التحديث، باسم التجديد، باسم السَّلَف، إلى آخر ما هنالك. ذلك لأن عين الخلافة الإسلامية الساهرة كانت تَتَتَبَّع هؤلاء الذين يصطادون بالماء العَكِر، أو يحاولون أن يصطادوا بالماء العكر. كانت عين الخلافة الإسلامية تحرس دين الله عز وجل وتَتَعَقَّب الذين يريدون أن يفرقوا بين المسلمين باستثارة القضايا الخلافية الفرعية وجَعْلِها سبباً لتمزيق وَحْدَة المسلمين. كانت عين الخلافة الإسلامية تَتَتَبَّعُهم وتعاقب وتُنْزِل النَّكال بكل من يريد أن يفعل ذلك؛ ولذلك فقد كان خطر هؤلاء بعيداً عن بُنيان الأمة الإسلامية. كانت عين الخلافة الإسلامية تَرْقُب وتسهر على كيان المسلمين أن يتسرب إلى هذا الكيان عدوٌّ من خارجه. فما من عدوٍّ يحدِّث نفسه بأن يخطط لكيد يُوْقِعه بالمسلمين إلا انْقَضَّت وحدة الأمة الإسلامية متمثلة في تلك الخلافة لتمزق ذلك الكيد، ولتقضي على ذلك التخطيط. ولو فتحتم ملف التاريخ لوجدتم كثيراً من المحاولات التي قامت والخطط التي نُظِّمَت خارج العالم الإسلامي للإيقاع بالمسلمين، ولمحاولة الكيد - بطريقة ما - للمسلمين، ولرأيتم كيف أن حزام الوحدة الإسلامية كان يَنْقَضُّ على ذلك الكيد وتلك الخطط فتقضي على ذلك كله في المهد.


وحتى في الفترة التي آلت الخلافة الإسلامية فيها إلى أضعف أحوالها، وإلى ما كان يسمى: بالرجل المريض، حتى في تلك الفترة كانت الخلافة الإسلامية التي كانت تُنْعَتُ بالرجل المريض كانت عِزّاً، وأي عِزٍّ، للمسلمين. وكانت تَرُدُّ وتَصُدُّ كل الخطط الصهيونية المتآمرة على العالم الإسلامي. وإنكم لتعلمون مواقف عبد الحميد الذي جاء في أُخريات سلسلة الخلافة الإسلامية؛ ذلك الرجل الذي كان - فعلاً - يُمَثِّل الخلافة الإسلامية إبّان مرضها. كم وكم حاولت الصهيونية العالمية أن تجد لنفسها موقع قَدَمٍ في فلسطين؛ فلم يَتَسَنَّ لها ذلك. كم وكم حاول الغرب ليُعين الصهيونية العالمية، وفي مُقَدِّمته بريطانيا صاحبة الكيد الأول للإسلام، والخبيرة الأولى لطريقة القضاء على الإسلام فيما يتصورون، كلهم حاولوا أن يخترقوا سبيلاً إلى فلسطين؛ ليُعَشِّشَ في ذلك المكان الكيد الصهيوني، فلم يتأتَّ لهم ذلك. الخلافة المريضة في أُخريات أيامها - والتي يتحدث بعض القوميين الذين لا أريد أن أنعتهم بالذل الذي أصابهم الله به، لا أريد أن أتحدث عن كلامهم عن تلك الخلافة - رفعت رأس العالم الإسلامي اليوم إلى الثريا، بمقدار ما هبطت قيمة المسلمين اليوم إلى الثرى. لم تستطع الصهيونية وهي تطوف حول ذلك الحصن المهيب الذي آل إلى منتهى الضعف، لم تستطع الصهيونية أن تخترق أي مكان من ذلك الحصن لتصل إلى مآربها. ولذلك أيقن الغرب وأيقن كل المحترفين للكيد ضد إسلام المسلمين أن لا سبيل إلى انتقاص حق من حقوق المسلمين ولا إلى انتقاص أرض من أراضيهم أو وطن من أوطانهم إلا بعد القضاء على هذا الحصن، إلا بعد القضاء على هذا الحزام. ولقد قرأتُ فيما قرأت كلمات في مذكرة حاييم وايزمن يقول فيها: (حاولنا كثيراً بمعونة بريطانيا وأصدقاء لنا، ولكنا علمنا أخيراً أن لا سبيل لوصولنا إلى ما نبتغي ما دام طوق الخلافة الإسلامية قائماً، لا بد من القضاء على هذا الطوق أولاً). وهكذا سعى الغرب سعيه للقضاء على الخلافة. وكم يحلو لي أن أكرر كلمة الخلافة؛ إنها كلمة تبعث ذكريات العِزّ في نفسي، إنها كلمة تبعث نشوة الماضي في كياني. وإذا لم نكن نملك اليوم المسميات فلا أقَلَّ من أن نردد الأسماء. لا بد من القضاء على طوق الخلافة أولاً؛ قُضِيَ على الخلافة، وتناثر العالم الإسلامي، وتفكك، وقامت الحواجز بكل سهولة بين قادة العالم العربي والإسلامي، ونال الغرب مبتغاه، ونالت الصهيونية مبتغاها. وجاء الذين يزعمون أن في القومية بديلاً، وأن في الحوافز التي تحفِزُ العرب إلى استعادة حقوقهم بديلاً وأيَّ بديل. ونظرنا إلى البديل الموهوم، ونظرنا إلى الأحلام الكاذبة المُجَنَّحَة، فرأينا العالم العربي ينتقل من هُوَّة ذُلٍّ إلى هُوة ذلٍّ أَحَطّ، ثم إلى هوة ذلٍّ أحطّ.


أيها الإخوة! هذه المصيبة التي نعاني منها اليوم - والتي تمزق أكباد بقايا المسلمين الصادقين في إسلامهم - لا علاج لها إلا عَوْدٌ إلى وحدة العالم الإسلامي بالطريقة التي ارتضاها لنا الله سبحانه وتعالى. بالأمس هُدِّم سبعون منزلاً لأصحابه في فلسطين دون أي جريمة ودون أي مُوْبِقة بل دون أي اتهام، وشُرِّد أصحاب هذه المنازل أَيَّما تشريد. وعَيْن قادة العالم العربي ثم الإسلامي تنظر. ماذا فعلوا؟ أين هي المشاعر التي جعلتهم يتحركون أو يتنحنحون؟ التفتنا وأصَخْنَا السمع ونظرنا فلم نجد إلا ذلاًّ ومهانة. والموضوع - أيها الإخوة - يسير قُدُماً لمزيد من البلاء ولمزيد من الإذلال ولمزيد من التقتيل والتنكيل. والعدو يعلم أن العرب متمثلين في قادتهم ليسوا شيئاً، إنهم حتى لم يعودوا فقاقيع صابون. فُقّاعَة الصابون يخيف منظرها ربما إلى أمد، أما هؤلاء فحتى المظهر الذي كان في يوم من الأيام يخيف المغفلين لم يعد موجوداً. ولذلك فواقع هؤلاء الأعداء يقول كما يقول الشاعر:


خَلا لكِ الجَوُّ فَبِيْضِي واصْفِرِي         ونَقِّرِيْ ما شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي


قلتُ، وينبغي أن أقولها أيها الإخوة، قلتُ لدبلوماسي أجنبي أوربي كبير: ما لكم تجاملون أمريكا بهذا الشكل؟ وأنتم تعلمون أنها تمارس إرهاباً لا يعرف التاريخ له نظيراً، ولعلكم هدف من الأهداف التي يُسْتَخْدَم الإرهاب من أجلها. لماذا تجاملون أمريكا هذه المجاملة الزائدة؟ ولماذا لا تنتصرون للحق الذي ترون؟ قال لي: نحن ننتصر للحق الفلسطيني أكثر مما ينتصر له قادة العرب. الدرع الصاروخي الذي تعكِف أمريكا على إنشائه مَنْ الذي يتسابق للإنفاق عليه؟ إنها دول الخليج، إنها الدول العربية تتسابق ولا تُجَرُّ جَرّاً - وكم من فرق بين الكلمتين أيها الإخوة - وأنتم تعلمون أن هذا الدرع إنما يَصُبُّ في مصلحة الصهيونية وفي مصلحة إسرائيل. هل فيكم من لا يحتقر القادة العرب احتقاراً نموذجياً لا يمكن أن يتجاوزه أحدنا إلى مزيد؟! ما السبب أيها الإخوة؟ الكلمات الإسلامية تتألق، والشعارات الإسلامية ترتفع، والحديث عن الانتماء الإسلامي موجود، ومنظمة المؤتمر الإسلامي دِيْكور من أخطر وأعظم الديكورات في هذا الصدد. ومع ذلك فها أنتم ترون الذل والمهانة التي رانت على قادة العالم العربي والإسلامي.


السبب: هذا الذي ذكرته لكم. ارتضى الله عز وجل لنا الإسلام عندما قال: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُم دينَكُم وأتْمَمْتُ عَليكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ ديناً} [المائدة: 5/3]. ثم إن الله عز وجل تَوَّج لنا نعمته هذه بالوَحْدَة، اسْتَأْمَنَنا عليها، واستودعها بيننا، وأمرنا بالمحافظة عليها، وحَذَّرَنا من التَّفَرُّق، حَذَّرَنا من التنازع والشقاق. فما الذي آل الأمر إليه؟ آل الأمر إلى أننا ألقينا وصية ربنا وراءنا ظِهْرِيّاً. بل لعلنا دُسْنا عليها إلى آمالنا الدنيوية المختلفة. وهذا يعني أن انتماءنا إلى الإسلام ليس انتماءً حقيقياً - وأنا أتحدث عن القادة - ليس انتماءً حقيقياً. عندما يكون انتماء الإنسان إلى دينه الإسلامي حقيقياً فأول شارة تتجلى في هذا الانتساب حُبُّ الله عز وجل. يتغلب حبُّ الله في قلب هذا المسلم على حُبِّ سائر الأغيار. ومن ثَمَّ فإن كل المصالح تتهاوى أمام محبة الله، أمام تعظيم الله، أمام مهابة الله سبحانه وتعالى. وإذا تهاوت هذه المصالح كُلُّها وبقي حب الله عز وجل فما الذي يُفَرِّق هؤلاء القادة؟ ما الذي يُفَرِّقُهم؟ بل ما الذي لا يجمعهم على كلمة واحدة سواء؟ لكن فرق كبير بين التَّجَمُّل بألفاظ الإسلام وكلمات الإسلام ومن ثَم مخادعة الله عز وجل بهذه الكلمات وبين من جعل قلبه وعاءً للإسلام، وعاء لمحبة الله عز وجل.


وانظروا إلى قوله سبحانه: ﴿ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دونِ اللهِ أنْداداً يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللهِ والَّذينَ آمَنوا أشَدُّ حُبّاً للهِ﴾ [البقرة: 2/165] يا عجباً! ليت أننا كنا كما قال الله تعالى: {ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دونِ اللهِ أنْداداً يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللهِ} ليت أن قادة العالم العربي والإسلامي كانوا يجعلون محبة الله مساوية لمحبة أندادهم التي يعشقونها. لا. إن محبة الله تقف في مستوى الدُّوْن، ومحبة الأغيار هي الأعلى. فانظروا إلى المآل ﴿والَّذينَ آمَنوا أشَدُّ حُبّاً للهِ، ولو يَرى الَّذينَ ظَلَموا إذْ يَرَوْنَ العَذابَ أنَّ القُوَّةَ للهِ جَميعاً﴾ [البقرة: 2/165]. أجل القوة لله؛ لكن هل تَحَصَّنَّا بقوة الله؟ هل تَحَصَّنَّا بإرادة الله وسلطان الله وقدرة الله؟ القوة قوة الله. يا من ترهبون وتخافون هؤلاء الذين يحتقرونكم ويحتقرون دينكم، أنسيتم انتماءكم إلى الله؟ أنسيتم أن مصدر قوتكم بالأمس كانت من عند الله؟ لماذا تخليتم عن هذا المصدر؟ لماذا تنكَّرتم عن الجادَّة؟ لماذا تجاهلتم المَعِين؟ ما النتيجة التي سنؤول إليها أيها الإخوة؟ أما دين الله فعزيز لا يمكن أن يُضام ولا يمكن أن يُنال، وأما حُرَّاس دين الله... فقد كان حُرَّاس دين الله بالأمس: الأمة العربية، ولعل الله سبحانه وتعالى يشاء أن يستبدل بهذه الأمة غيرها لأنها خلعت رداء العز وارتضت لنفسها رداء الذل والمهانة في الدنيا قبل الآخرة، إذن لعل الذي سيحيق بنا هو قول الله عز وجل: ﴿يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا مَن يَرْتَدَّ مِنْكُم عَنْ دينِهِ فَسَوفَ يَأْتي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَهُ، أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلى الكافِرينَ﴾ [المائدة: 5/54].


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 


تحميل



تشغيل

صوتي