مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 11/01/2002

خلاصة قصتنا في هذه البلدة مع ترقب الغيث

خلاصة قصتنا في هذه البلدة مع ترقب الغيث


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 11/01/2002


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد، فيا عباد الله‏


جَلَّ مولانا وربّنا القائل في محكم تبيانه: ﴿وهُوَ الَّذي يُنَزِّلُ الغَيثَ مِنَ بَعْدِ ما قَنَطوا ويَنْشُرُ رَحمَتَهُ وهُوَ الوَلِيُّ الحَميدُ﴾ [الشورى: 42/28] تلك هي خلاصة قصتنا في هذه البلدة مع ترقب الغيث من الله سبحانه وتعالى. فلقد تأمل كثير من الناس في هذه البلدة بالتَّقَنيات الحديثة وبالوسائل المادية خيراً، واعتمدوا عليها في آمالهم وأحلامهم. أُقيم ما يسمى: بمؤسسة أو مديرية الاستمطار، وأُنفقت على ذلك أموال طائلة. واستُقْدِمَت أجهزة كثيرة طال بها العهد حتى صَدِئت. وحاول من حاول أن يستدرَّ بهذه الوسائل قَطْراً من السماء. وطال العهد بالتجربة، ومرت على ذلك سنوات؛ سنوات عجاف كما تعلمون. كانت الغيوم تأتي مُثَّاقَلَة بالقطر والمطر، وكانت أبواب السماء تُسَد بتراكم هذه السحب كلها. وكانت الشروط العلمية للاستمطار مُهَيَّأة؛ بل ربما رأينا قطرات من المطر تهمي، وكان ذلك كله نداء من قيوم السماوات والأرض لهؤلاء الذين اعتمدوا على وسائلهم، وأَلَّهوا علومهم وتَقَنياتهم. كأنه يقول لهم: ها هي ذي السُّحب متراكمة، وها هي ذي الرطوبة النسبية موجودة، وها هي ذي الشروط التي لا بد منها متوفرة، وها هي ذي أجهزتكم عندكم، فما لكم لا تستمطرون؟ وما لكم لا تستنـزلون الغيث بوسائلكم من السماء ومرَّ على ذلك عهد؟ ومرت على ذلك أيام بل شهور وربما أعوام رأينا فيها من يكابر ويتحدث عن وسائل الاستمطار وعمليات الاستمطار؛ إلى أن انتهينا جميعاً إلى القنوط الذي يتحدث عنه الله عز وجل؛ إلى أن انتهينا جميعاً في هذه البلدة إلى أن الأمر بيد الله، وأن الوسائل العلمية إنما هي جند من جنود الله، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يُسَخِّر ما يشاء لمن يشاء عندما يشاء.


فلما قَنِط هؤلاء الذين طال بهم العهد وهم يعتمدون على وسائلهم، لما رأى هؤلاء الناس أنهم قد بذلوا الأموال الطائلة، وجَمَّعوا الأجهزة التي صَدِئت - كما قلتُ لكم - لطول العهد بها؛ اتجهت أنظارهم إلى العلي الأعلى، واتجهنا جميعاً نطرق باب الرحمة الإلهية، نطرق باب الله سبحانه وتعالى، وأُبْنا - وأقولها مُحْسِناً الظن بأنفسنا وبنا جميعاً - أُبْنَا إلى الله، وألقينا التعلق بما بعد الله سبحانه وتعالى وراءنا ظِهْرِيّاً، وعرفنا أن لا باب إلا الباب الواحد الذي لا ثاني له؛ ألا وهو باب الله عز وجل. وانتهينا إلى الحالة التي يقول عنها الله عز وجل: ﴿وهُوَ الَّذي يُنَـزِّلُ الغَيثَ مِنْ بَعْدِما قَنَطُوا﴾؛ من بعد ما قَنَطوا من وسائلهم، ومن مُسْتَحْدَثاتهم، ومن أجهزتهم، ومن كل قوة غير قوة الله، ومن كل رحمة غير رحمة الله سبحانه وتعالى؛ أَنْـزَل علينا الغيث.


وإنها لرحمة ربانية عندما حَبَس عنا الغيث، ثم إنها لرحمة ربانية عندما أنـزل. عندما حَبَس عنا الغيث جَرَّنا إلى التوحيد، جَرَّنا إلى اليقظة، إلى أن نعلم أنه لا نافع ولا ضار في الكون إلا الله سبحانه وتعالى. وهذا يعني أيها الإخوة أن الإنسان لا حرج عليه في أن يستعمل الأجهزة المختلفة التي تزاحم قدرة الله سبحانه وتعالى فيما يتخيله كثير من التائهين لا حرج. لماذا؟ لأن ذلك هو السبيل الذي يُوْصِلنا إلى اليقين الإيماني. لولا هذه الوسائل الخائبة التي خاض فيها من خاض لَمَا عرفوا خَيْبَتَها، ولَمَا عرفوا أنها لا تفيدنا شيئاً. والله سبحانه وتعالى قد دعا الناس في محكم تبيانه إلى أن يأتوا بكتاب كالقرآن، وأن يؤلفوا كلاماً ككلامه المُعْجِز وفتح لهم السبيل إلى ذلك؛ ذلك لأنه سبيل من سُبل الوصول إلى الإيمان بالله عز وجل. في الناس من لا يحتاجون إلى أن يجربوا، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ولكِنْ في الناس من لا يصلون إلى الحقيقة إلا بعد مغامرة؛ فلْيُغامِروا. وهكذا كان شأننا في هذه البلدة. لعلنا البلدة الوحيدة التي كانت تتباهى بما يسمى: مؤسسة الاستمطار، أجل لعلنا البلدة الوحيدة في العالم العربي التي تتباهى بهذا، ولكن لا حرج.


هذا السبيل الذي خضناه أوصلنا إلى هذا اليقين، وأَوْقَفَنا وجهاً لوجه أمام قول الله عز وجل: ﴿وهُوَ الَّذي﴾ هو لا غيره ﴿الَّذي يُنَـزِّلُ الغَيثَ مِن بَعْدِ ما قَنَطوا ويَنْشُرُ رَحْمَتَهُ، وهُوَ﴾ لا غيره ﴿الوَلِيُّ الحَميدُ﴾. لقد عرفنا أن ولينا هو الله، وعرفنا أن راحمنا هو الله، وعرفنا أن النافع والضار في حياتنا كلها إنما هو الله سبحانه وتعالى. وإني لأسأل الله عز وجل أن يوقظ إخواننا السَّادِرِين - أينما كانوا - إلى هذه الحقيقة، وأن يجعلهم ينفضون أيديَهم من هذه الوسائل المختلفة؛ خاضوا وتعاملوا معها ولا بأس، ولكنهم اليوم وصلوا إلى النهاية، فما ينبغي أن يعود أحدهم فيلتفت إلى الوراء. أجل.


وهكذا أيها الإخوة فقد رَحِمَنا الله عز وجل عندما سُدَّت أبواب الرحمة كُلُّها إلا بابه الواحد الأحد، فما الذي بقي علينا بعد ذلك؟ بقي أن نشكره، بقي أن نشكره ونحمده لا بألسنتنا فقط، بل بسلوكنا بعد ألسنتنا. وهكذا ينبغي أن يكون الشكر من المؤمنين الصادقين بالله سبحانه وتعالى؛ نتوب إلى الله من سائر الأوزار ولا نستبدل نعمة الله كفراً. غداً أيها الإخوة - وهذا هو المأمول من رحمة الله عز وجل - ستعود الينابيع فتتفجر، وستعود الأنهر فتمتلئ وتتألق بنعمة الله عز وجل فلا يطمعن طامع بأن يجعل من شُطآن هذه الأنهر ومن مثابة هذه العيون أماكن تُنْـزِل سخط الله سبحانه وتعالى. بَلِّغوا أيها الإخوة إخوانكم جميعاً أن لا يتعاملوا مع الله عز وجل على هذا النحو.


بالأمس التجأنا إلى الله عندما نابنا الضُّر، وغداً إذا أكرمنا الله عز وجل بنعمته ننسى التجاءنا إليه، ننسى اليد المرتجفة التي كنا نطرق بها باب كرمه وجوده. ينبغي أن نبرهن على صدق التجائنا إلى الله. والبرهان الوحيد الذي يُبْرِز صدق التجائنا إلى الله؛ أن لا نبارح بابه لا في السراء ولا في الضراء؛ أن نلازم فاقتنا في كل الأحوال. ورحم الله ابن عطاء الذي يقول في حكمة من حِكَمِه: "خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجود فاقتك، وتعود فيه إلى حقيقة ذِلَّتك". فنحن فقراء أيها الإخوة سواء بسط الله عز وجل أمامنا رزقه أو حَرَمنا من رفده وكرمه. نحن في كل الأحوال نتصف بالفاقة، ونَتَّسِم بالفقر والحاجة إلى الله عز وجل. إياكم أيها الإخوة أن تكونوا ممن قال الله عز وجل عنهم: ﴿وإذا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أو قاعِداً أو قائِماً فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كأنْ لَمْ يَدْعُنا إلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ للمُسْرِفينَ ما كانوا يَعْمَلونَ﴾ [يونس: 10/12]. أسأل الله عز وجل أن لا يجعلنا ولا يجعل أحداً ممن أكرمهم الله عز وجل بهذه النعمة والرحمة في هذه البلدة من هؤلاء المتَقَلِّبين الذين يتعاملون بالمكر مع الله سبحانه وتعالى.


وانظروا كيف يحذِّر ربنا سبحانه من أن نعبده على حرف دون حرف. انظروا إلى قوله: ﴿وإذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ في البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعونَ إلاّ إيّاهُ فَلَمّا نَجَّاكُم إلى البَرِّ كَفَرْتُم وكانَ الإنسانُ كَفوراً. أَفَأَمِنْتُم أنْ يَخْسِفَ بِكُم جانِبَ البَرِّ أو يُرْسِلَ عَلَيْكُم حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدوا لَكُم وَكيلاً﴾ [الإسراء: 17/67 - 68]. ألا تعلمون أن الله عز وجل قادر على أن يعذبكم بدون وسيلة؟ بدون أداة، أهو البحر فقط الذي تخشونه أن يُغْرِقكم؟ ألا تعلمون أن الله يعلم ويستطيع ويقدِر، أن يجعل البر أداة خسف وإغراق لكم؟ ﴿وما يَعْلَمُ جُنودَ رَبِّكَ إلاّ هُوَ﴾ [المدثر: 74/31].


بقي علينا أيها الإخوة أن نَصْدُقَ مع الله عز وجل في شكر نعمه. قولوا لإخوانكم هؤلاء الذين يسيل لعابهم على مزيد من النعمة، ومزيد من الرزق، فيطرقون أبواب المعاصي، ويستنـزلون مزيداً من الرزق بواسطة سخط الله سبحانه وتعالى، قولوا لهم: ﴿إنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتينُ﴾ [الذاريات: 51/58]. قولوا لهم: إن مَعين الرزق بيد الله، وما كان مَعِين الرزق أبداً بهذه الأبنية التي تُقام حيث النُّـزُهات، وحيث المياه، وحيث مظاهر الرحمة الإلهية، ثم تُحْشى هذه الأبنية بكل ما تعرفون من أصناف المحرمات، بكل ما تعرفون من أصناف الموبقات من قِمار وفحشاء وغير ذلك مما لا أريد أن أَصِف. قولوا لهؤلاء الناس - أيها الإخوة -: ألم تجدوا أمامكم البرهان الساطع، والدليل القاطع على أن الأبواب كلها التي جَرَّبتم طَرْقَها من أجل استنـزال رحمة الله عز وجل، أو كما يقول البعض رحمة السماء، ألا تلاحظون كيف أنها بقيت مُوْصَدَة أمامكم؛ عندما شاء الله عز وجل أن تبقى مُوْصَدَة؟ إذن: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْق﴾ [العنكبوت: 29/17]. ابتغوا عند الله الرزق. إياكم أن تَسْلُكوا مسلكاً يودي بكم إلى عَوْدٍ إلى إمساك هذه الرحمة الإلهية التي انتظرنا ثم انتظرنا طويلاً حتى أكرمنا الله بها وجاد علينا بها. أجل. ولستُ أدري كيف يتيه أناس من إخوة لنا عن باب الله عز وجل ثم يتطَوَّحون في أوهامهم وأخيلتهم عند آمال أخرى يبنونها لأنفسهم.


قولوا لهؤلاء الناس: ليس المهم أن تستزيدوا من الأموال في جيوبكم أو في صناديقكم، إنما المهم - أن نتحقق - أو أن تتحقق البركة في هذه الأموال التي تجمعونها، المهم أن لا تتبخر هذه الأموال التي تجمعونها بالوسائل التي تستنزل غضب الله سبحانه وتعالى، المهم ألا تذهب بوسائل تشقيكم بدلاً من أن تُسْعِدَكم. وأنا أتحدى الذين يجمعون المال من الوسائل التي تُغْضِب الله أن يكون شيء من هذه الأموال قد أسعدهم. أجل إنهم يجمعون، ولكنَّ هذه الأموال تتحول إلى مظاهر للشقاء تتسرب إلى جسومهم أو تتسرب إلى بيوتهم أو تتسرب إلى مكمن الأمن من حياتهم. ولو شِئت لَعَرَضْتُ لكم أمثلة ونماذج لا حصر لها. نعم قد يدخل المال في الجيب لكن فرق بين أن يأتيك هذا المال وهو غذاء ودواء وبين أن يدخل المال إلى دارك وهو عقارب وحيّات. ينبغي لكل عاقل أن يعلم هذه الحقيقة. وأنا أعلم كثيرين ذاقوا هذا الوباء وذاقوا هذا البلاء ونظرتُ إلى واقعهم فرأيتُ شأنهم كشأن المقامر؛ عندما يخسر يعود فيعالج خسرانه بمزيد من المقامرة، ثم يخسر ثم يعود فيعالج خسرانه بمزيد من المقامرة حتى يخنقه الخسران. وهذه هي حال هؤلاء الناس؛ يجدون أن الأموال التي قد اجتمعت عن طريق هذه الأبنية التي أصبحت عُشَشاً للمحرمات يجدون أن الأموال التي تدخل جيوبهم من وراء ذلك كثيرة لكنها لا تلبَث أن تذهب بعد أن تؤدي عملها فتكاً وإشقاءً لجسومهم ولبيوتهم ولأوضاعهم كلها. بماذا يعالجون هذه الحال؟ يعالجونها بمزيد من هذا السُّم الناقع. وهذا مرض من الأمراض الوبيلة التي أسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يبتلينا بها، وأسأل الله عز وجل أن يُكرِمَ من قد ابْتُلُوا بها بخلاص سريع منها.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.


 


تحميل



تشغيل

صوتي