مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 14/12/2001

واجب التوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى

واجب التوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى



خطبة الإمام الشهيد البوطي



تاريخ الخطبة: 14/12/2001



 



الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏



أما بعد فيا عباد الله‏



ينبغي أن نعلم جميعاً أن المعصية بحد ذاتها لا تَحْجُب العاصيَ عن ربه سبحانه وتعالى، ولكن الذي يحجب العبدَ عن ربه سبحانه وتعالى أن يعكف على العصيان، وأن ينسى التوبة إلى الله سبحانه وتعالى. الذي يحجب العبدَ عن ربه سبحانه وتعالى أن يرتكب العصيان استخفافاً بمولاه وخالقه، واستكباراً على الله وحُكْمه، فيعكف على ما يَلَذُّ له من الذنوب والآثام دون أن يتذكر الأوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.



وإذا كان هذا الأمر واضحاً، وينبغي أن يكون واضحاً لنا جميعاً، فينبغي أن نضع نُصْب أعيننا دائماً واجب التوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى. مَنْ منا لم يقصّر في جنب الله؟ مَنْ منا لم يَشْرُد عن صراط الله؟ مَنْ منا لم تتغلبْ عليه غرائزه وشهواته وشيطانه، فَتَصَيَّدَه ذلك كله وشَرَدَ به عن أوامر الله، وعن أحكامه عز وجل؟ كلنا ذاك الرجل أيها الإخوة. وانظروا إلى خطاب الله عز وجل كيف يتجه إلينا جميعاً قائلاً: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾ [النور: 24/31]. دعوة إلى الناس جميعاً بما فيهم الرسل والأنبياء وسائر الناس إلى أن يتوبوا إلى الله عز وجل. لماذا يخاطبهم بهذه الدعوة التامة العامة؟ ذلك لأن الناس جميعاً كانوا ولا يزالون خَطَّائين، وخير الخطائين التَّوابين، حاشا الرسل والأنبياء فإن دعوة الله لهم إلى التوبة إنما هي دعوة لهم إلى أن يكونوا أكثر أداء لحقوق الله سبحانه وتعالى وانضباطاً بأمره، وإلى أن يكونوا أكثر عبودية لله سبحانه وتعالى وشكراً له على نِعَمه. ولعلكم تعلمون أن سيد المرسلين كان سيّد التوابين؛ وهو القائل: ﴿إنه ليُغَان على صدري فاستغفر الله في اليوم مائة مرة﴾ ومن أي ذنب كان يستغفر؟ كان يستغفر من شعوره بأنه مقصّر في جنب الله، مقصّر في أداء حقوق الله سبحانه وتعالى. فأين نحن؟! نحن الذين نعصي الله في اليوم والنهار، نَشْرُد عن الكثير والكثير من أنه أوامر. كم وكم من الأوامر التي أمرنا بها عَرَضْنا عنها. وكم وكم من النواهي التي حذَّرنا منها ارتكبناها. وكل ذلك لا يُقْصِي العبد عن الله، لكن الذي يُقْصِيه عن الله عز وجل أن يَسْتَمْرِئ أحدُنا المعصية فيعكف عليها ثم ينسى الإنابة والتوبة إلى الله عز وجل.



أيها الإخوة عندما أُصغي السَّمْع إلى دعوة الله عز وجل لنا إلى أن نتوب ليصفح عنا، إلى أن نستغفره ليغفر لنا؛ وعندما أجد تَفَنُّنَ البيان الإلهي في هذه الدعوة، ثم أنظر فأجد كيف أننا عاكفون على تقصيرنا وعلى معانقة أهوائنا وشهواتنا أشعر بالخجل من الله سبحانه وتعالى. ألا تلاحظون قوله عز وجل في الحديث القدسي، الذي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه: ﴿يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم﴾. نداء من الله سبحانه وتعالى يلاحقنا ونحن راكضون إلى أهوائنا وشهواتنا، لا نلتفت إلى هذا النداء الرباني الرحمن الرحيم لنقول: لبيك يا رب هانحن عائدون إليك. وانظروا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يروي عن ربه في الحديث الصحيح: ﴿إن الله يبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار﴾. دعوة من الله سبحانه وتعالى، لا للطائعين، بل للعاصين من أمثالنا؛ يلاحقهم الرحمن الرحيم باسطاً كف رحمته قائلاً: أن عودوا إلي، عودوا فاصطلحوا معي، أُصْلِح لكم حالكم، أغفر لكم ذنوبكم، أُطَهِّرْكم من رِجْس شيطانكم وأهوائكم. لماذا لا نلتفت؟ لماذا لا يقول قائلنا بلسان حاله ومقاله: لبيك يا ربي لبيك؟ ها نحن نعود صادقين إليك بعد شرود. ألا تعلمون ألا تذكرون ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث صحيح: ﴿إن الله يَطَّلِع على عباده)) وفي رواية ﴿ينزل إلى السماء الدنيا، في كل ليلة في الثلث الأخير منه فينادي: ألا هل من مستغفر فأغفر له؟ ألا هل من سائل فأعطيه؟ ألا هل من داعٍ فأجيبه؟﴾. أهكذا ينبغي أن يكون الباري عز وجل، الرحمن الرحيم بنا دَلاَّلاً على رحمته. ينادينا إلى مائدة إكرامه وجوده، ثم نكون مُتَطَوِّحين في شهواتنا وأهوائنا وتَقَلُّبَاتنا؟ كيف هذا؟.



أيها الإخوة أنا لا أدعو نفسي؛ ولا أدعوكم إلى أن نكون معصومين، فهذا شيء مستحيل بعد أن قضى الله عز وجل أن يكون الإنسان ضعيفاً، وهو القائل: ﴿وَخُلِقَ الإِنْسانُ ضَعِيفاً﴾ [النساء: 4/28]. ولكني أدعو نفسي وأدعوكم إلى أن لا نبتعد عن مُغْتَسَل التوبة. حوض التوبة الفياض أمامكم، فاغتسلوا فيه كلما تَدَنَّسْتُم بمعصية من المعاصي، كلما أراد الشيطان أن يُزِلّ أقدامكم إلى طريق الانحراف. التوبة - أيها الإخوة - هي العلاج، هي الدواء الذي ينبغي أن لا نبتعد عن صَيْدَلِيَّته بحال من الأحوال أبداً. انظروا إلى الآيات التي يتحدث فيها بيان الله عز وجل عن الناس الذين يحبهم. تُرى مَنْ هم الذين يحبهم الله؟ تأملوا في رحمته عز وجل. ليس الذين يحبهم الله - ما قد نتخيّل - المعصومين عن الذنوب والأخطاء، لا، بل اسمعوا بيان الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين﴾ [البقرة: 2/222]. هل وقفتم أمام هذا الكلام الحلو الأخَّاذ؟ يحب التوابين أي: يحب العاصين الذين لا يعكفون على عصيانهم؛ سرعان ما يستيقظون فيتألمون ويندمون ويعود أحدهم إلى الله قائلاً: يارب، يا غفار الذنوب، يا ستار العيوب، وحقك ما عصيتُك حين عصيتك استكباراً على أمرك، ولكن لسابقة سبق بها قضاؤك، فالمغفرة منك والتوبة إليك. هؤلاء هم الذين يحبهم. كم كان صعباً علينا لو كان الذين يحبهم الله المعصومين؟ إذن لما كان لنا نصيب على مائدة هذا الإكرام أبداً. لكن محبة الله تتسع لعباده جميعاً؛ بشرط واحد: أن يلتفت أحدنا إلى الله بعد نسيان. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين﴾ [البقرة: 2/222].



انظروا إلى قوله عز وجل، وهو يتحدث عمن تتفتّح لهم أبواب الجِنان غداً، انظروا إلى قوله: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ، هَذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوّابٍ حَفِيظٍ ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ، ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ، لَهُمْ ما يَشاؤُونَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ﴾ [ق: 50/31-35] انظروا ماذا يقول: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ﴾؛ قُرِّبت الجنة ﴿لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾؛ مَنْ هم المتقون يارب؟ ﴿هَذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوّابٍ﴾ هؤلاء هم المتقون الذين يَعْنِيهْم الله عز وجل. مَنْ هم الأوَّابون - أيها الإخوة-؟ الأَوَّاب: صيغة مبالغة من آيب. والآيب: مَنْ؟ الراجع إلى الله، الراجع إلى الله بعد ماذا؟ بعد شرود، بعد نسيان، بعد عصيان، يقول: ﴿هَذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوّابٍ﴾؛ ولا يكون الإنسان كثير الأوبة والرجوع إلى الله إلا إذا كان كثير الشرود عن بابه.



مائدة الرحمن مفتوحة، وأبوابها مفتَّحة، ونداء الرحمن يَصُكُّ أسماعنا أن أَقْبِلوا إلي؛ توبوا، ارجعوا، اصطلحوا معي أَصْطَلِح معكم، أُصْلح لكم أحوالكم. فلماذا لا نتوب إلى الله؟ لماذا لا نعود إلى الله بِشَرَاشِرِنا(1) وبكل مشاعرنا، وبصدق مع الله سبحانه وتعالى؟ ربنا عز وجل يُطْمِعْنا بكرمه، فلماذا لانَطْمَع بما يُطْمِعُنا به الله سبحانه وتعالى؟.



وَقفْتُ على معنى المحسنين في بيان الله، وسألتُ نفسي: مَنْ هم المحسنون؟ اُنظروا إلى قوله، وهو يُعَرِّفُنا بالمحسنين: ﴿وَسارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 3/133-134]. مَنْ؟ ﴿وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 3/135]. هذا الكلام يأتي بعد الحديث عن المحسنين؛ وإِنْ هو إلا بيان لهم ﴿إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ إذن هم يُتَوَقَّع منهم ذلك.



لكن ما الفرق بين المؤمن وغير المؤمن؟ بين من عرف ربه؟ وتاه عن مولاه وخالقه؟ المؤمن إذا عصى شَعَر بمثل لدغة الثعبان في كيانه، توقظه هذه اللدغة ويؤوب إلى الله قائلاً: يارب ها قد عُدت إليك فاقبلني، يا غفار الذنوب اِقبلني. يقول له الله عز وجل: مرحباً بك ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاّ اللَّهُ﴾؟ يقول الله عز وجل لهذا الذي فَرَّ من لدغة ثعبان نَفْسِه: ﴿وَإِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [20/82]، {وَإِنِّي لَغَفّارٌ} مبالغة من المغفرة ﴿وَإِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}. يارب، يا من يسمع دعاءنا، يا من يرى حالنا، يا غفار الذنوب، يا ستار القبائح والعيوب، ألهمنا عودة صادقة إليك، ألهمنا رجوعاً إلى حمال، يا من يَقْبَل التائبين، ألهمنا واقْبَلنا على ثِقْلِنا وعلى أوزارنا، واجعل من إيماننا بك وحبنا لك وثقتنا برحمتك وصدق عودتنا إليك شفيعاً بين يدي آثامِنا وحالنا.



أقول قولي هذا وأستغفر الله.



تحميل



تشغيل

صوتي