
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


الرئيس الأمريكي يعلنها حرباً صليبية في مواجهة الإرهاب!! ومنظمة المؤتمر الإسلامي تنعم بالرقاد!..
الرئيس الأمريكي يعلنها حرباً صليبية...في مواجهة ((الإرهاب))!!
ومنظمة المؤتمر الإسلامي تنعم بالرقاد!..
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 21/09/2001
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد فيا عباد الله
ليس من شأني أن أُسخِّر منابر الجمعة هذه لأحاديث سياسية، ولكن عندما تُسَخَّر السياسة لتكون سلاحاً لضرب الإسلام وخنقه أينما وُجِد، فالتحذير من هذه السياسة يصبح جزءاً لايتجزأ من الإسلام. ومن ثَم فلا بد أن نُغَذِّي وعينا الإسلامي، وأن نتبين ما وراء هذه الحوادث التي تجري من قريب أو بعيد.
بالأمس عندما فوجئنا بهذه الكارثة التي يشمئز منها دين الله عز وجل؛ تحدثنا عن موقفنا الإسلامي من هذه الجريمة، وعبَّرنا وعبَّر العالَم الإسلامي أجمع عن شعوره منبثقاً من أحكام الله عز وجل وشرعته ومنهاجه. وانتظر العالم الإسلامي أن تتجه فِرَق وفصائل التحقيق وأصحاب الاختصاص في هذا الأمر إلى البحث عن المجرمين، وإلى الوصول إلى المتهمين، ثم الكشفِ عن دلائل الإثبات ليتخذ العالم الإسلامي واجبه في الخطوة الثانية؛ وهي دعم العقاب الذي يجب إنزاله في حق هؤلاء المجرمين؛ المجرمين في حق الله عز وجل وشرعته أولاً، ثم في حق الإنسانية ثانياً. كل العالم الإسلامي اتجه بمشاعره إلى لجان التحقيق وأصحاب الاختصاص في هذا الشأن؛ ليبحثوا ويُنَقِّبوا ويصلوا من بحثهم إلى نتيجة، ثم لتتجه أصابع الاتهام ثم أصابع التجريم اعتماداً على أدلة قانونية، وانطلاقاً من دلائل ثابتة، وعندئذ لابد أن ينهض العالم الإسلامي بدعم العقاب الذي يجب إنزاله في حق هؤلاء المجرمين.
ولكن العالم الإسلامي بل العالم كله فوجئ بأمر مذهل، لا الحضارات تُقِرّه، ولا القوانين الدولية أو الإقليمية تقرّه، ولا مقاييس الإنسانية تعرفه. فوجئنا بالإدارة الأمريكية تقفز فوق هذا الذي ينتظره العالم الإسلامي كله، وتضع وسائل التحقيق وعناصر البحث وراءها ظهرياً، إن لم أقل تضعها تحت قدميها. ونظرنا فوجدنا هذه الإدارة تتذرع بهذه الكارثة التي وقعت لتلملم الحديث عن خصومها التقليديين في العالم الإسلامي، ولتُجَمِّع أسماء هؤلاء الخصوم على قائمة سوداء بدءاً من الفصائل الفلسطينية إلى الذين يدعمون الحق الفلسطيني في لبنان، إلى العراق الذي أُتْخِم جراحاً وما تزال دماؤه تنزف، إلى ما وراء ذلك شرقاً وغرباً. ولكن دون أن تخرج هذه القائمة عن دائرة العالم الإسلامي، وعن الفئات الإسلامية. ونظرنا فوجدنا أن الحكم صَدَر قبل قرار الاتهام، وقبل دلائل الإثبات، وقبل أن يحقق ويحاكِم القضاةُ، وقبل أن ينطقوا بالحكم. رأينا أن الحكم صدر، لا، بل إن الإعلان عن التنفيذ ومواقيته أيضاً قد صدر. وتساءل العالم كله ولا يزال يتساءل: أين هو السير في فجاج التحقيق؟ أين هو الرجوع إلى القوانين الدولية؟ أين هو تحكيم الفئات المختصة بهذا الشأن؟ كل ذلك طوي أيها الإخوة عن البحث، وعادت أمريكا تبحث عن خصومها التقليديين، تُجَمِّع أسماءهم على قائمة سوداء وتعلن عن الحرب الضروس عليهم. هذا الذي وقع أيها الإخوة ما موقف العالم الإسلامي منه؟ أما الإرهاب: فلقد ظل العالم الإسلامي ومن ورائه دول كثيرة شتى تسأل: ما المراد بالإرهاب؟ ما هو التعريف الذي ينبغي أن يوضع للإرهاب حتى نجتمع جميعاً لمحاربته؟ ولـمّا نجد إلى هذه الساعة أي تعريف للإرهاب إطلاقاً.
المعنى في قلب الشاعر؛ والشاعر إنما هو الصهيونية العالمية. ولن تجد أملاً في أن يوضع تعريف دقيق للإرهاب الإجرامي الذي يفرِّق هذا الإرهابَ عن الدفاع عن الحقوق، الدفاعِ عن الحياة، الدفاعِ عن الأوطان. أيها الإخوة: نحن باسم الإسلام نتكلم، والعالم الإسلامي لا يزال بحمد الله خاضعاً خاشعاً لدين الله سبحانه وتعالى، لم يتغير موقفنا من هذه الجريمة قط. ولكنا كنا ولا نزال ننتظر أن يُكْشَف النقاب عن المجرمين الحقيقيين. ويبدو أن أمريكا ليست مَعْنِيَّة بالكشف عن المجرمين الحقيقيين، وإنما هي معنِيَّة بأن تتخذ من هذه الكارثة التي وقعت جسراً للانقضاض على خصومها.
هذه هي الحقيقة. أما نحن، فلا بد أن نتساءل - ونحن جزء من هذا العالم المتحضّر - لا بد أن نتساءل: إلامَ وصلت بحوث المحققين؟ وإلى أي نتيجة انتهت؟ هؤلاء الآلاف من اليهود الذين غُيِّبُوا عن البناءين العملاقين يوم الكارثة لماذا غُيِّبوا؟ ومن هم الذين غَيَّبوهم؟ هؤلاء (الذين) الأربعة الذين التقطوهم، ثم حققوا معهم لساعات، ثم تدخلت سفارة ما، فتُركوا وشأنهم، ما خبرهم؟ وماذا كانت النتيجة من خلال هذا التحقيق الذي لم يَدُم طويلاً؟ وفيمَ تركوا ليخرجوا سراعاً من دائرة الولايات المتحدة الأمريكية؟ أجل. هؤلاء الذين لعبوا بالأسهم، وتسابقوا قبل الكارثة بأيام، في سبيل أن يَبْتَعدوا عن الخسارة المتوقعة، وفي سبيل أن يُحْرِزوا لأنفسهم تَخَلُّصاً في الساعة المناسبة وعلى الشكل المناسب، مَنْ هم؟ ومن الذين حَدَّثُوهم أن كارثة ستقع، ومن ثَم فإن بورصة الأسهم سيصيبها زلزال، حتى دفعهم الداعي -وقد علموا الغيب من دون الله سبحانه وتعالى- إلى هذا الأمر؟
وليت شِعري أين هو العالم العربي في حكامه وقادته؟ لماذا يصمتون صَمْت الموت؟ وأين هو العالم الإسلامي في قادته؟ أين هي منظمة المؤتمر الإسلامي؟ لماذا لا تطرح هذا السؤال؟ هذا السؤال الذي يأتي نتيجة ما بَثَّته وكالات الأنباء. أين هي الجامعة العربية؟ هل سمعتم أنها التقت في ظل هذه المأساة مرة واحدة، فأعلنت عن صوت العالم العربي مُمَثَّلاً في هذه الجامعة؟ هل طرحت هذا السؤال المحرج على الدائرة الأمريكية، التي سَرعان ما رسمت القائمة السوداء، وحدّدت أبطال الإرهاب، وأعلنت عن الحرب العالمية ضدهم، باستثناء مَلَك واحد هابط من السماء: ألا وهي الصهيونية العالمية وإسرائيل، فهؤلاء لا شأن لهم بالإرهاب؟. نعم هؤلاء يُقَتِّلون، يُهَدِّمون البيوت على رؤوس أصحابها، يُرَمِّلون، يُيَتِّمون، يُذَبِّحون، يستولون على الحقوق، يتسعون في المستوطنات وبنائها أمام أعين أصحاب الدُّور؛ وقلوبهم تتفطّر. نعم إنهم يفعلون ذلك كلَّه لكن ليحاربوا الإرهاب. أسمعتم بهذا المنطق أيها الإخوة؟ هذه هي الفئة الوحيدة التي لم تُشِر إليها الإدارة الأمريكية بأصابع الاتهام.
ولكن السؤال الوارد - أيها الإخوة - أين هي الأمة الإسلامية. تسأل هذا السؤال الـمُحْرِج عن طريق منظمة المؤتمر الإسلامي، الراقدة رقدة الموت؟ أين هي الأمة العربية التي تطرح هذا السؤال عن طريق الجامعة العربية؟ أين هي الأقنية الفضائية. تلاحق هؤلاء الذين قفزوا قفزة بهلوانية فوق التحقيق. وفوق البحث عن الـجُنَاة، وسعياً مباشراً إلى التجريم دون اتهام ودون قضاء؟ لو أن الأمة العربية التي هي جزء من الأمة الإسلامية. كانت تتمتع بنوع من الوَحْدَة صادقة، إذن لقُطِّعَت الإصبع الذي تتجه إليها بالاتهام. ولكن الأمر كما تعلمون أيها الإخوة، تفرقنا ثم تدابرنا ثم تخاصمنا، فكانت النتيجة أن داستنا الأقدام. هذه هي الحقيقة. وبالأمس قبل ثلاثة أيام أعلنها الرئيس الأمريكي حرباً صليبية جديدة، ولست أدري بأي عقلانية أعلن ذلك؟ ولست أدري بأي تدبير مُفَكِّر نطق لسانه بهذه الكلمة؟ أَعْلَنها حرباً صليبية. ثم جاء بالأمس يتحدث عن الإسلام، وعظمة الإسلام، وأن الإسلام دين السلام، وأن أمريكا لا تنوي أي إساءة إلى الإسلام، وأنها معجبة بالإسلام، وإنما تتجه إلى الذين لا شأن لهم بالإسلام في العالم العربي والإسلامي. تُرَى أفاستحال أمر هذه الأمة الإسلامية إلى درجة من الغباء ينطلي عليها هذا الكلام؟
ما الإسلام أيها الإخوة؟ هل الإسلام شبح مُعَلَّق بفراغ ما بين السماء والأرض؟ هل الإسلام أيها الإخوة أسطر مرسومة في كتاب؟ هل الإسلام فكرة لا يمكن أن تتلمسها يد أو أن تشير إليها بإصبع؟ الإسلام يتمثل في أهله. الإسلام يتجسد في المسلمين. والذين يريدون أن يتجهوا إلى خنق الإسلام؛ إنما يتجهون إلى خنق الذين يرفعون لواء الإسلام، الذين يريدون أن يكيدوا للإسلام لن يعثروا على الإسلام في اللوح المحفوظ، لن يعثروا على الإسلام وهماً فيما بين السماء والأرض. إنما يعثرون عليه في المسلمين المستمسكين بحبل الله سبحانه وتعالى؛ والمنادين بشرع الله سبحانه وتعالى. إن الذي يُعْجَب بالإسلام لا يعلنها حرباً صليبية ضد المسلمين.
هذا الذي أقوله أيها الإخوة كان لا بد أن أُوْضِحه؛ وهو جزء لا يتجزأ من الإسلام، عندما تُمْتَشَق السياسة من غمدها لتكون أسرع سلاح للقضاء على الإسلام، وهذا ما نشاهده في هذا العصر أيها الإخوة. غداً ستُثْبت الأيام، والحقائق قد تخفى يوماً أو يومين أو شهر أو شهرين، ولكنها لا تخفى ولا تذوب إلى الأبد، ستتجلى الحقيقة؛ ولسوف يتجلى أن المسلمين - شرَّقوا أو غرَّبوا - لا شأن لهم بهذا الأمر الذي طُبِخ داخل أمريكا؛ والذي اسْتُعِيْنَت تطبيقاته بتقنية أمريكية. سيعلم العالم كله أن هذا الأمر إنما طُبِخ في داخل أمريكا؛ وأن العالم الإسلامي بعيد كل البعد عن هذا الأمر الذي وقع. ونحن نعلم أن في العالم الإسلامي عملاء - كما قد قلت لكم في الأسبوع الماضي - لا شأن لهم بالإسلام؛ ولكنهم يَلْبَسون أقنعة الإسلام كما طُلِب منهم، ثم إنهم يرتكبون الجرائم باسم الإسلام كما طُلِب منهم؛ وباسم الإسلام الذي يضعون قناعاً له على وجوههم كما طُلِب منهم؛ هؤلاء ليسوا من الإسلام في شيء، ولأمريكا وغير أمريكا أن تأخذهم وتتصرف بهم كما تشاء، نعم. أما العالم الإسلامي المشغول بالدفاع عن ذاته؛ بتضميد جراحاته فهو أبعد ما يكون عن هذا الأمر أيها الإخوة.
وكم وكم تساءل العالم كله: لماذا لا تبحث أمريكا عن السبب الذي أثار الإرهاب ضدها؟ لماذا لا تَشَمُّ رائحة كفها؟ أهي أنصفت الإنسانية في العالم؟ أم إنها حطمت الإنسانية كلها من أجل عيون عصابة صهيونية؟ لماذا لا تسأل هذا السؤال نفسه؟ ولماذا تسعى سعيها لتدمر أمة بكاملها؟ من أجل أن تشفي غليلها من خصومها التقليديين لماذا؟ متى كانت شرعة الغاب تعالج الأمور على هذا النحو؟ أقول: شرعة الغاب، ولا أقول الحضارة. إنسان اعتدى في ظلام ليل دامس على أهل دار؛ فسرق المال وقَتَّلّ الرجال والنساء، ثم غاب. كيف السبيل إلى العثور على هذا الإنسان، ثم وضعه في كف المحاكمة، ثم إنزال العقاب الذي ينبغي إنزاله فيه؟ السبيل إلى ذلك: الشرائع الإنسانية التي جاءت شريعة الله فدعمتها؛ نبحث عن هؤلاء الجُناة بكل الوسائل الممكنة، ونستعين بالخبراء، ونستعين بأصحاب الدِّراية إلى أن نعثر عليهم -ولسوف نعثر، طال الزمن أو قَصُر - ثم إننا نضعهم بين أيدي ميزان العدالة، تنطق العدالة حكمها في حقهم، وعندئذ يتم إنزال العقاب الصارم فيهم. هل سمعتم أن شِرْعَة غاب، أو أن أمة عاشت على هامش التاريخ، أو أن فئة عاشت مع الوحوش في الأدغال؛ جاءت فوجَّهت العقاب إلى أهل هذه القرية أو المدينة كلها انتقاماً من الذين دخلوا هذه الدار فسرقوا المال وقتَّلوا الرجال والنساء؟ من الذي يفعل هذا؟ من الذي يفعل هذا؟ هذه جريمة أشنع أضعافاً مضاعفة من جريمة هؤلاء السُّرَّاق اللصوص الذين لم تستطع العثور عليهم. وصدق الله القائل: ﴿يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ﴾ قوماً ﴿فَتُصْبِحُوا عَلَى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].
على الذي يُمَجِّد الإسلام، وعلى الذي يتحدث عن إعجابه بالإسلام أن يطأطأ الرأس لهذا الكلام. هكذا يقول الإسلام، إن كنت يا هذا صادقاً ولست منافقاً في إعجابك بدين الله عز وجل فانظر ما يقوله رب هذا الدين: ﴿يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾، هل لك إن كنت صادقاً أن تُحَكِّم هذا الميزان في هذه الكارثة، ونحن من ورائك؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.