مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 03/08/2001

من أحوج الناس إلى حِلَق الذِّكر؟

من أحوج الناس إلى حِلَق الذِّكر؟


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 03/08/2001


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


تعالوا بنا نَعُد إلى حديثنا عن مجالس الإيمان، وعن حاجة المؤمن إلى أن يلقى بين الحين والحين إخواناً له، يجلس إليهم ليجددوا إيمانهم بالله عز وجل، ولينعشوا أرواحهم وليزكوا أنفسهم وليوقظوا كوامن مراقبة الله عز وجل بين جوانحهم‏.‏ مهما كان الإنسان موقناً بوحدانية الله سبحانه وتعالى وباهرِ صفاتِه وآلائه فإن يقينه هذا لن يزدهر ولن يتنامى إلا بلقاءات من هذا القبيل‏.‏ وقد حدثتكم عن تداعي أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم إلى هذه اللقاءات التي كان شعارها‏:‏ ‏(‏تعالوا بنا نؤمن ساعة‏)‏‏.‏ إذا تلاقى جمع من المؤمنين تلاقحت مشاعر الإيمان، وسرى التأثير من الواحد منهم إلى الآخَر فالآخَر‏.‏ والمؤمن دائماً بحاجة إلى أن يصغي إلى نصائح إخوانه له، بحاجة دائماً إلى من يذكره بالله سبحانه وتعالى، وصدق الله القائل في محكم تبيانه‏:‏ ﴿‏سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأخيكَ‏﴾‏ ‏[‏القصص‏:‏ 28‏/‏35‏]‏‏.‏


وأعود فأتساءل‏:‏ مَنْ مِنَ الناس هم أشد حاجة إلى هذه اللقاءات، وإلى هذه الجَلَسات، وإلى أن يصغوا إلى نصائح الناصحين‏؛‏ أولئك الذين يوقظون بين جوانحهم كوامنَ مراقبة الله، وينعشون أرواحهم بذكر الله، ويجددون الإيمان في أفئدتهم‏؟‏ ما هي الفئة التي هي أحوج ما تكون إلى هذا الدواء أو العلاج‏؟‏ إنها تلك الفئة التي وَكَلَ الله عز وجل إليها شؤون هذه الأمة، إنها تلك التي أقامها الله سبحانه وتعالى حارسة لحقوق هذه الأمة، حارسة لمبادئها وقيمها ودينها‏.‏ هذه الفئة هي أحوج الفئات كلها إلى هذا الغذاء أو الدواء الذي حدثتكم عنه في الأسبوع الماضي، وها أنا أعود إلى التذكرة به والحديث عنه في هذا اليوم‏.‏ هذه الفئة التي وَكَلَ الله عز وجل إليها هذه المهمة لا بد أن تقودها مهمتها إلى عراك، وإلى التقلُّب بين أمواج عاتية من السياسات المتنوعة المختلفة مدّاً وجزراً، ولا بد أن تقودها مستوياتها الباسقة التي شاء الله عز وجل أن تتبوأها إلى كثير من الغَفَلات، وإلى كثير من اللهو ومن ثم فإن ذلك كله يشكل نسيج حجاب، يحجبها عن الله عز وجل ويُنْسيها هويتها، وينسيها عِظَم الأمانة التي وُكِلَت إليها وأُنِيْطَت بأعناقها‏.‏ هذه الفئة هي أحوج الناس جميعاً إلى أن تنتعش بين الحين والآخر بذكر الله، هي أحوج ما تكون إلى أن تصغي إلى نصائح الناصحين المخلصين لله سبحانه وتعالى، هي أحوج ما تكون إلى مجالس‏:‏ ‏(‏تعالوا بنا نؤمن ساعة‏)‏‏.‏


أيها الإخوة‏ لو أن قادتنا وحكامنا في بلادنا العربية المترامية الأطراف كانوا على صلة بهذا الدواء، وكانوا يتعهدون أنفسهم بهذه المُنْعِشات، وهذه المُذَكِّرات‏؛‏ إذن لما وجدناهم يتعلقون بكراسيهم وعروشهم يغازلونها ويرمقونها بطَرْف إنسان لا يصدِّق أن عروشه ستبقى له وأن كرسيه سيبقى في كنفه، هذا والقتل يَسْتَحِرُّ بإخوانهم في فلسطين‏.‏


لو كان حكام هذه الأمة العربية على صلة بالله عن طريق هذا الغذاء الذي أحدثكم عنه، لما أعرضوا عن القتلى الذين يتكاثرون كل يوم اغتيالاً وظلماً وعدواناً وهم أصحاب حق، لما أعرضوا عنهم ونسوا البلاء الذي يحيط بهم وانصرفوا إلى الغزل المنحط مع عروشهم وكراسيهم‏.‏ لو كانت لهم مجالس تذكرهم بالله، وتذكرهم بالأمانة التي عُلِّقت بأعناقهم وأُنِيْطَت بكواهلهم‏؛‏ إذن لتذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏﴿‏المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ولا يُسْلمه﴾‏‏، عندما يتذكر أحدهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا تلتهب الدماء في عروقه وكيانه، وينسى العرش الذي يتبوؤه والكرسي الذي يتربع عليه، ويَنْقَضّ بأمر من الله لحماية إخوانه، للدفاع عن المظلومين من إخوته، ولكان هذا شأن سائر القادة والحكام أيضاً‏.‏


لو أن هؤلاء القادة والحكام كان لهم نصيب بين الحين والآخر من الرجوع إلى الله ومراقبة عبوديتهم لله، ومعرفة أن الله سبحانه وتعالى يراهم، ويحاسبهم غداً على تضييع الأمانة إذن لعلموا أن الناصر هو الله، ولما وضعوا في حسابهم الخوف من أي قوة عاتية، ولما وضعوا في حسابهم الخوف من أي دولة طاغية بشكل من الأشكال، ولوقفوا أمام قول الله عز وجل‏:‏ ﴿‏إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏﴾‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 3‏/‏160‏]‏ إذن لوقفوا ذائبين متبتلين أمام قول الله عز وجل‏:‏ ﴿‏أَمْ مَنْ هَذا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاّ فِي غُرُورٍ‏﴾‏‏ ‏[‏الملك‏:‏ 67‏/‏20‏]‏‏.‏ لو كان لهؤلاء الحكام غذاء من هذا الذي أقوله لكم، نافذة يطلُّون من خلالها على مراقبة الله لهم، وعلى سلطان الله عليهم، وعلى صلة ما بينهم وبين الله عز وجل‏؛‏ إذن لما اهتموا إطلاقاً بالعُهْر السياسي الذي يتبدى في المجتمعات الدولية، هذه التي تطوف حول وثن أمريكا لكي لا تخرج عن سلطانها ولا تخرج عن طغيانها، إذن لما حَسَبُوا لهذا كله أي حساب، ولذابت الدنيا كلها أمام أعينهم، ولظهر من وراء ذلك قيوم السماوات والأرض‏.‏


لو كان لهؤلاء الحكام غذاء يتعهدون به أنفسهم بين الحين والآخر، غذاء‏:‏ ‏(‏تعالوا بنا نؤمن ساعة‏)‏‏،‏ غذاء‏:‏ الرجوع إلى الذات، الرجوع إلى الهوية، الرجوع إلى المصير، لو أنهم كانوا يتعهدون أنفسهم بشيء من هذا إذن لما قامت حواجز البغضاء والفُرْقَة والشتات فيما بينهم، ولَشَدَّهُم التلاحم الإيماني إلى وحدة ما مثلها وحدة، ولهيمن عليهم قول الله سبحانه وتعالى‏:‏ ﴿‏وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا‏﴾‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 3‏/‏103‏]‏ أجل‏.‏


لكن ما الذي غاب حتى ظهر هذا البلاء، لا، بل ظهرت هذه الحِطَّة، ظهرت هذه المهانة، ظهرت هذه الذِّلة لهذه الأمة متمثلة في قادتها قبل كل شيء، ما الذي حصل‏؟‏


الذي حصل‏:‏ أن الإسلام بالنسبة لهؤلاء القادة غدا عبارة عن شارة تُجَمَّل بها صدورهم في أحسن الأحوال، أما القلوب ففارغة، فارغة عن الارتباط بالله، فارغة عن الاستيقاظ إلى عبودية هؤلاء القادة لله سبحانه وتعالى، فارغة عن الثقة بالله، فارغة عن اليقين بأن النصر إنما هو من عند الله سبحانه وتعالى‏.‏ لمّا فرغت أفئدتهم من هذا كله بسبب غياب هذا الغذاء الذي أحدثكم عنه رأينا هذه الظاهرة التي تجعل كل فردٍ فردٍ من هذه الأمة يذوب مهانة وذلاًّ وخجلاً‏.‏ القتل يستحرّ بهؤلاء المظلومين، مِنْجَل العدوان والاغتيالات يحصدهم حصداً كل يوم، ما الذي تسمعونه من أفواه هؤلاء الذين يقبعون على كرسيهم وعروشهم‏؟‏ أي زفرة سمعتموها تصاعدت من صدورهم‏؟‏ أي كلمة فعالة - لا كاذبة - خرجت من أفواههم‏؟‏ المسرح يَعُجُّ بالمجرمين والظالمين يحصدون المظلومين المقهورين، إخواننا، منجل القهر والاغتيالات تحصدهم حصداً دون أي مبرر، ودون أي موجب، ودون أي حق، والنظَّارة الذين ينظرون ويستمتعون جُلُّهم من قادة هذه الأمة‏.‏ إنهم مشغولون عن ذلك بالغزل كما قلت لكم مع كراسيهم، مع عروشهم أيها الإخوة، والسبب‏:‏ فراغ أفئدتهم من هذا المعنى الذي أقوله لكم‏.‏


أيها الإخوة بالأمس القريب وضع أصغرهم سناً وأقربهم عهداً بالحكم بعض الحروف على بعض الكلمات في تجريم هؤلاء الأعداء، واهتاجت كلاب البغي في العالم وثارت ثائرتهم لهذه الكلمات التي وُضِعَ فيها بعض الحروف على بعض الكلمات لإحقاق الحق وإبطال الباطل‏.‏ أين هم الإخوة الذين ينتصرون للحق‏؟‏ أين هم الذين يعظمون رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال تنفيذ وصاياه‏:‏ ﴿‏المسلم أخو المسلم لا يظلمه، لا يخذله، لا يُسْلِمه‏﴾‏‏‏؟‏ نَظَرَتْ هذه الأمة التي ابتليت بذلٍّ ما ابتليت بمثله قبل اليوم قط، نظرنا إلى هؤلاء القادة فما تحرك فم أحد منهم بكلمة انتصار، بل لعل فيهم من عاتب، بل لعل فيهم من عاتب عتاب الأخ الكبير للشاب الصغير المهتاج الذي ينبغي أن يستعمل الكوابح‏.‏


هذا الواقع أيها الإخوة ما أدري إلى أي مدى سيستمر، هذه الأرض المحتلة يُقَتَّل أصحابها وأربابها ومساحة الاغتصاب تمتدُّ ثم تمتدُّ، والمجتمعات الدولية كما قلت لكم تمارس عُهْراً سياسياً أمام هذا الأمر كله، وحكام العالم العربي ماذا يصنعون أيها الإخوة‏؟‏ صدق المثل العربي القائل‏:‏ المرء حيث يضع نفسه‏.‏ مَن وضع نفسه في موضع المهانة والذُّل رمقه الناس جميعاً بهذه النظرة‏.‏ ومَن وضع نفسه في موضع الاعتزاز والقوة رمقه الناس كما يضع نفسه في المكانة التي يتبوؤها حقيقة‏.‏ أجل‏.‏ هذه حقيقة أيها الإخوة ينبغي أن نعلمها‏.‏


غداً أو بعد غد سيزداد الظلم ولسوف تزداد الفئات التي تُقَتَّل من بقايا المنتصرين للحق، من بقايا المدافعين عن الأرض والعِرض والمبادئ والقيم، وعندئذ ستخلو الأرض للمعتدين والغاصبين‏.‏ لعلهم في تلك الساعة يتحركون‏.‏ لعلهم في تلك الساعة ينهضون‏.‏


اللهم إني أسألك أن تعافينا من هذا الذُّل الذي حاق بنا‏.‏ اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أجبت أن تُصلح قادة هذه الأمة وحكامها عاجلاً غير آجل‏.‏ ألا بئس الكراسيّ، بئس العروش التي تكون عالة على الشعوب‏.‏ ألا ما أقدس الكراسيَّ والعروش التي تُسْتَخْدَم لحقوق الأمة، والتي تتحول بمن عليها إلى محاريب لذكر الله، إلى محاريب للارتباط بالله، إلى محاريب للثقة بالله، إلى محاريب لمبايعة الله سبحانه وتعالى على كلامه القائل‏:‏ ‏﴿‏إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏﴾‏ ‏[‏آل‏عمران‏:‏3‏/‏160‏]‏‏.‏


ليت أن حكامنا يعلمون أن أي واحد منهم إذا ارتبط بالله هذا الارتباط، وجعل لنفسه غذاء من صلته بالله، يستنصح الناصحين لينصحوه، يبحث عن مجالس ذكر الله لينعش نفسه بذكر الله، لو أن واحداً منهم فعل هذا لأعاد الله منه سيرة صلاح الدين مرة أخرى‏.‏


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم‏.‏


تحميل



تشغيل

صوتي