مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 27/07/2001

كلمةٌ .. ليت قادتنا يرددونها

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

لقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديثٍ طويل: )إن لله ملائكةً سياحين يبحثون عن حلق الذكر[. لقد توقفت أكثر من مرة وأنا أتأمل في معنى هذا الحديث، لماذا يبحث ملائكة الله عز وجل عن حلق الذكر خاصةً وفي الناس المؤمنين المقربين إلى الله عز وجل من يجلسون في خلواتٍ خاصة لهم ذاكرين مسبحين مهللين؟ هلّا بحث هؤلاء الملائكة عن هؤلاء الأفراد الذين يذكرون الله في خلواتهم؟ ولماذا أعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء الملائكة يبحثون خاصة عن حلق الذكر؛ أي عن الجماعات التي تداعى أفرادها لذكر الله عز وجل، وقد عرفت مما قاله العلماء الربانيون الجواب عن هذا.

عندما يجتمع المسلمون وقد صفت منهم النية، وتخلصت منهم الشوائب، يتداعون إلى مدارسة كتاب الله أو إلى ذكر الله ويتناصحون ويتذاكرون نهايتهم وانتقالهم من هذه الحياة الدنيا إلى رحاب الله، فإن سراً يوجد آنذاك لا يتحقق في الخلوات الفردية، تتلاقح القلوب وتسري آثار الموعظة من قلبٍ إلى قلب ومن نفسٍ إلى نفس وتعجن المشاعر عجناً بذكر الله سبحانه وتعالى، وهذا هو السبب في أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من عادتهم أن يقول الواحد منهم لإخوانه بين الحين والآخر: تعالوا بنا نؤمن ساعة.

فيم يطلب من أصحابه وإخوانه هذا التعاون وفي وسعه أن يجلس في داره فيجدد إيمانه بالله ويجدد بيعته مع الله؟ السر أن هذا التلاقح لا يوجد عندما يكون الإنسان خالياً منفرداً مع نفسه، عندما يتلاقى المؤمنين لابد أن يكون فيهم مقربين، ولابد أن يكون فيهم أناسٌ خشعت بصائرهم لله وزكيت قلوبهم وصفت نفوسهم عن الزغل، يكون لمثل هؤلاء الناس تأثيرٌ كبيرٌ على بقية الجالسين، تعالوا بنا نؤمن ساعة.

هذه المجالس أيها الإخوة التي تغشونها إن في الجمعات أو في الجماعات أو في حلق الذكر أو في حلق الدروس، كل ذلك لها أسرارٌ بالغة جداً يطول الحديث عنها لكني أقول باختصار: إن من أهم أسرار هذه المجالس أنها تجلو القلوب بعد صدئها وأنها ترقق القلوب بعد قسوتها وأنها توقظ النفوس السادرة بعد غفلتها ... كل ذلك لا يتم إلا عن طريق التلاقي، إلا عن طريق التناصح، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد[ وفي رواية )كما يصدأ الحديد إذا مسه الماء قالوا وما جلاه يا رسول الله؟ قال: ذكر الله وتلاوة القرآن[ وذكر الله عز وجل عندما يكون مع التلاقي وعندما يكون متوجاً بالتناصح وبالتذاكر فأعظم بذلك جلاءً للقلوب. وإذا علمنا مدى حاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذه المجالس ندرك من ذلك مدى افتقارنا نحن إلى هذه المجالس أيها الإخوة، ألم تقرأوا قول الله عز وجل وهو يخاطب رسوله: )وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[.

أيها الإخوة أقول لكم حقاً وصراحة: كلما أكرمنا الله سبحانه وتعالى بلقاءٍ نجدد فيه إيماننا - إن في ساعة كهذه الساعة المباركة أو في مناسبات أخرى، أحمد الله وأشكره كثيراً أن قيض لنا هذه اللقاءات التي نجدد من خلالها إيماننا ونجلو بها صدى قلوبنا، لكني آسى وأحزن جداً وأشفق على فئتين من الناس حرموا من هذه المجالس ونشوتها، حرموا من هذه اللقاءات وأنسها وريحانيتها، الفئة الأولى: فئة القادة والحكام، الفئة الثانية: هؤلاء الذين تراكمت فوق ظهورهم أعباء المال وتكاثرت الدنيا في بيوتهم وفي صناديقهم ومن حولهم، فنسوا كل شيء وتقلبوا من الدنيا في ذلك الرغد الموقوت الذي يعيشون فيه. أشعر بالحزن والإشفاق حقاً على الفئتين، هؤلاء القادة الذين يتقلبون من حياتهم في غمار الشؤون السياسية والإدارية وما إلى ذلك، إن واجهوا فإنما يواجهون من يزيدون غفلاتهم غفلة ومن يزيدون أفئدتهم قسوة، محرومون من هذا اللقاء، محرومون من شعار تعالوا بنا نؤمن ساعة، حياتهم تمضي وتمضي في سراديب خانقة ليس فيها نافذة يطل عليهم من خلالها نسيم تعالوا بنا نؤمن ساعة، نسيم تذكر الله النسيم الذي ينير القلب الذي يحرك نبضات الإيمان وكل إنسانٍ بذور الإيمان وبذور محبة الله موجودة في حنايا قلبه، لكن في الناس من اختنقت هذه الفطرة ومن ثم هذه البذور بسبب ابتعادهم عن ري هذه المجاس واللقاءات أيها الإخوة.

هؤلاء الناس كيف السبيل إلى أن يشموا رائحة عبوديتهم لله؟ هؤلاء الناس كيف السبيل إلى أن يعلموا أنهم إنما يتقلبون من دنياهم في يومٍ عما قريبٍ ستغرب شمسه وأنهم راحلون إلى الله فواقفون بين يديه، قست القلوب ثم ازدادت قسوة ثم ازدادت قسوة حتى آل بهم الأمر أن زيداً من الناس لو أراد أن يقول كلمةً لم يفقهوا منها إلا ظاهرها حروفها وكلماتها ونسقها وصيغتها. أجل أيها الإخوة.

إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد كان أول رئيس دولةٍ لهذه الأمة - بأمس الحاجة إلى هذه المجالس ومن ثم يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: )فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى[ إذا كان رسول الله بحاجةٍ إلى هذا العلاج، إلى هذا التلاقي، إلى هذه المجالسة؛ إلى جلسة تعالوا بنا نؤمن ساعة، فكيف بنا نحن اليوم بل كيف بقادتنا قادة هذه الأمة اليوم؟ أيها الإخوة باختصار شديد هذا هو الداء الذي تعاني منه أمتنا بقادتها وفئاتها المختلفة.

فيما مضى كان القادة الذين جاؤوا عبر القرون التي مضت وخلت كانوا يعلمون دائهم ودوائهم، كانوا يعلمون أن تقلبهم فيما هم فيه من الوظائف التي أقامهم الله عز وجل فيها من شأنها أن تقسي قلوبهم، من شأنها أن تنسيهم معادهم، من شأنها أن تحبسهم من الحياة التي يعيشون فيها في يوم واحد هو عمر هذه الدنيا وحده، ولكنهم كانوا يبحثون عن الدواء، كانوا يبحثون عن الدواء ويبحثون فعلاً كما تبحث الملائكة عن هذه المجالس مهما كان حظهم من ذلك قليلاً أو كثيرا، كانوا يستقدمون العلماء إليهم أو يرحلون إليهم فيجلسون إليهم لتجلو قلوبهم وليسمعوا من يذكرهم بالله سبحانه وتعالى.

أجل أيها الإخوة رحل سليمان بن عبد الملك حاجاً إلى بيت الله، ولما انتهى من الحج سأل عن العلماء العاملين في المدينة المنورة، فكان يذهب إليهم أو يأتي الواحد منهم إليه، وسمع عن سلمة بن دينار عالم المدينة وزاهدها العظيم أبو حازم، فاستقدمه إليه فذهب إليه سلمة بن دينار رحمه الله تعالى، قال له سليمان بن عبد الملك: ما هذا الجفاء يا أبا حازم؟ قال له يا أمير المؤمنين: أعيذك بالله أن تقول ما لم يحصل، لا أنت تعرفني ولا أنا رأيتك قبل اليوم. قال له: ليت شعري يا أبا حازم ما الذي لنا عند الله؟ قال له أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله، قال له: فماذا أجد؟ قال تجد قول الله عز وجل: )إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ[ بكى سليمان، قال له: ليت شعري كيف قدومي غداً على الله؟ قال له: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالعبد الآبق الهارب يجر إلى مولاه.

كانوا يبحثون عن هذه المجالس يأخذ الواحد منهم بعد هذه الجلسة زاداً يرقق بها قلبه، يدني بها نفسه من مولاه، ينفض بها الدنيا عن كيانه، فإذا عادت القسوة إليه بحث عن زادٍ آخر مرة أخرى.

يقول سفيان بن عيينة رحمه الله: دعيت وجمعاً من العلماء إلى مجلس هارون الرشيد، فذهبنا إليه وكان آخرنا دخولاً الفضيل بن عياض، دخل مقنعاً رأسه بردائه، فلما جلس واطمئن به المجلس قال لي: يا سفيان أيهم أمير المؤمنين؟ فقلت له هذا وأومأت إليه، فنظر إليه وقال: يا حسن الوجه أنت الذي قلدت هذه الأمة ووضعت أمرها بيدك وفي عنقك، لقد تقلدت أمراً عظيماً، بكى هارون الرشيد وجلس يسمع نصائح العلماء ويرقق قلبه بهذه المجالس، وفي نهاية المجلس أكرم العلماء الذين وفدوا إليه بشيءٍ من المال لكن الفضيل استعفى. قال له هارون الرشيد: ما أزهدك يا أبا علي! قال له: يا أمير المؤمنين أنت أزهد مني، قال: كيف؟ قال: أما أنا فلقد زهدت بالدنيا الفانية، وأما أنت فقد زهدت في الآخرة الباقية.

أيها الإخوة ماذا أقول لكم؟ كل من مر من القادة والحكام والرؤساء والملوك كانوا يبحثون عما ينعش قلوبهم بين الحين والآخر، أجل هكذا شأنهم، وكان في العلماء ما يسمون أهل الحسبة والقائمين بشؤون الحسبة، مهمتهم أن يذكروا بالله وأن ينبهوا إلى اليوم الآخر الذي نحن جميعاً مقبلين إليه، وكان للسلطان محمد الفاتح ثلة من العلماء يكلفهم بأن يذكروه بالله وأن ينبهوه إلى المصير.

هذا هو الداء .. كانوا يعانون من الداء ولكنهم كانوا يأخذون أنفسهم بين الحين والآخر أيضاً بالدواء. أما اليوم فأكثر قادتنا اليوم في عالمنا العربي يعانون من هذا الداء، وأحسب أنهم لم يتأملوا بعد في الدواء ولم يبحثوا بعد عن هذا الدواء، ولأن كان في فئات هذه الأمة فئة هي أحوج ما تكون إلى الانتعاش بهذه المجالس وإلى أن ترقق أفئدتها بذكر الله وبمن يذكرها بالله عز وجل، فإن أول هذه الفئات هي فئات القادة والحكام يليهم هؤلاء الذين يتقلبون في نعيم المال تجارةً وما إلى ذلك وقد نسوا الغد الذي هم مقبلون إليه.

أنا شديد الحزن شديد الشفقة عليهم، لأنني أعلم أن الفطرة الإسلامية موجودة لكنها تعاني من ظمأ، فأين هو الذي يروي ظمأها؟ هؤلاء أشبه ما يكون بالأرض الصالحة جداً جداً، ولكنها تعاني من ظمأً لم يلامس وجهها الماء منذ أمدٍ طويل، وإني لأذكر أكثر من مجلسٍ مع أناس من هذا القبيل ومن هذا المستوى تحرك لساني بكلمات تذكر بالله فاهتاجت المشاعر واستيقظ الفؤاد وتحركت الفطرة، ونظرت فوجدت أنني أمام أرضٍ ظمئى بحاجة إلى الماء الذي يتعهدها ثم يتعهدها ثم يتعهدها.

كنت أتمنى أن تكون لهذه القادة مساجدهم إن لم يستطيعوا أن يدّخلوا مع سائر الفئات في هذه المساجد العامة.

كنت أتمنى أن يسمعوا تذكرةً توقظهم إلى يوم المعاد، توقظهم إلى الموت الذي يأخذ بخناقهم، توقظهم إلى المواقف التي هم على موعد معها، كنت أتمنى أن تتحقق لهم هذه اللقاءات مرة في كل أسبوع على الأقل، كما تبنى القصور أيها الإخوة بكل مرافقها ينبغي أن تبنى فيها مساجد أيضاً لهؤلاء الذين قضى الله عز وجل أن ينغمسوا في شؤون الدولة وفي خدمة الأمة وأعظم ذلك من عمل، ولكن الشأن بالنسبة لهؤلاء كشأن أطباء دخلوا قريةً سرى فيها مرض معدٍ خطير يقومون بخدمة رائعة جُلى عندما يطببون هؤلاء المرضى، لكن لا شك أن العقل يدعوهم وحب المحافظة على النفس، كل ذلك يدعوهم إلى أن يتخذوا لأنفسهم حمايةً ضد هذه العدوى حتى ينتهوا من عملهم إلى خدمة لا تعقبهم اي ضرر ولا تترك فيهم أي مرض مما كانوا يبرأون ويطببون الناس منه.

أتمنى أيها الإخوة وأقول هذا من منطلق حزنٍ وإشفاق، والله يعلم أتمنى أن يتعهد قادتنا وحكامنا أنفسهم بما ينعشهم، يفتحوا نافذة نافذة واحدة خلال حياتهم السياسية والإدارية توصلهم إلى الله، تذكرهم بهوياتهم، تذكرهم بمصيرهم غداً بين يدي الله، والله لو أن هذا الدواء تحقق ولو أن باب هذه الصيدلية فُتح إذاً لرأيت كثيراً من مشكلاتنا التي نعاني منها قد حلت، وربنا سبحانه وتعالى كريم ورؤوف ورحيم، تعالوا بنا نؤمن ساعة، كلمةٌ نرددها ولله الحمد ورثناها من أصحاب رسول الله ،ليت أن قادتنا يرددونها، ليت أن هم الآخرون يتداعون ليقولوا تعالوا بنا نؤمن ساعة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي