مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 20/07/2001

واصبر وما صبرك إلا بالله

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن السبيل الموصل إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى محصورٌ في أمرين اثنين لا ثالث لهما ألا وهما الصبر والشكر، وكلما خاطب الله عز وجل عباده من التكاليف المختلفة والتشريعات المتنوعة والأوامر والنواهي مرد ذلك كله إلى أن يصطبغ الإنسان منها جميعاً بالصبر أو الشكر.

بالصبر والشكر تتجلى عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى، وإنما أقامنا الله عز وجل في هذه الحياة الدنيا، إنما أقامنا منها في دار تكليف، والتكليف لا يتحقق إلا بأن ينقاد الإنسان لأوامر الله عز وجل، فيقدم بين يدي ذلك قرباناً إما من الصبر عند الابتلاءات المختلفة أو الشكر عند النعم المتنوعة.

ولأمرٍ ما كان حض البيان الإلهي في القرآن العظيم على الصبر أكثر من الشكر، وكان الأجر الذي يعلنه في مقابل الصبر أجراً كبيراً لم أجد نظيراً له في أي عملٍ آخر يقدم عليه المؤمن قط، انظروا إلى قول الله عز وجل: )إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[ انظروا إلى قول الله سبحانه وتعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[. والآيات التي ندب البيان الإلهي فيها عباده إلى الصبر كثيرة، وحسبكم من الأجر الذي ادخره للصابرين أن الله عز وجل أعفى الصابرين عن الحساب؛ في الوقت الذي يخاطب الله عز وجل سائر عباده قائلاً لكل فردٍ فردٍ منهم: )اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[، ولكن الصابرين يكونون في منجاة عن الحساب.

وقد أمر الله عز وجل بالشكر فقال سبحانه وتعالى: ) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ[. وقال عز من قائل: ) لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[ وقال: )وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[.

لكنه لفت نظر عباده إلى أهمية الصبر وأن الصابرين ينالون أجراً لا يناله غيرهم قط، ما السبب ترى في هذا؟ السبب أنه لا يمكن أن يوجد شكرٌ دون صبر ولكن يمكن أن يوجد صبر بدون حاجة إلى الشكر، فالنعم التي يكرم الله عز وجل بها عباده تتطلب منهم الشكر عليها ونعم الله كثيرة كما تعلمون، العافية نعمة، والأمن والطمأنينة نعمة، والرزق الوفير نعمة، والدار الفارهة نعمة، نعم الله كثيرة .. فكيف يكون الإنسان شاكراً لهذه النعم؟ ليس الشكر كما يتصوره بعض السذج والسطحيين من المسلمين أن يقول أحدنا بلسانه: الحمد لله أو الشكر لله، إنما الشكر أن يوظف الإنسان النعمة التي أسداها الله عز وجل إليه لما قد خُلق من أجله، بأن يوظف المال الذي رزقه إياه للمهمة التي خلقه الله من أجلها بأن يوظف العافية والقوة التي متعه الله بهما للوظيفة التي خُلق لأدائها، بأن يوظف نعمة العين، نعمة السمع، نعمة الدار، نعمة الأسرة للوظيفة التي خلق من أجلها، وهذا الشكر لابد فيه من الصبر، ذلك لأن الله عز وجل إذا متعك بالعافية فلسوف تجنح بك العافية لتسخرها في كثيرٍ من الرغائب والأهواء والشهوات الغريزية، ويأتي واجب الشكر ليقول لك لا، بل احجز نفسك عن ذلك كله ووجه عافيتك للمهمة التي خلقت من أجلها.

عندما يكرمك الله عز وجل بالمال الوفير تتفتح أمامك من وجود هذا المال وسائل كثيرة للتمتع بهذا المال معظمها وسائل محرمة، فكيف يكون الشكر؟ يكون الشكر بأن تغلق على نفسك هذه الأبواب كلها وإن كان مفاتيحها بيدك بسبب المال الوفير الذي معك، ثم تحصر نفسك من ذلك كله في باب واحد ألا وهو الباب الذي شرعه الله عز وجل لك، هكذا تكون شاكراً. إذاً لا يكون الشكر إلا على دعامة من الصبر. كذلكم سائر النعم، أما الصبر فالصبر إنما يكون على الابتلاء على الشدائد والابتلاءات المختلفة مهما تنوعت إنما تتطلب من الإنسان الصبر، فكل شكرٍ لا يمكن أن يتحقق إلا بدعامة من الصبر ولكن يمكن للصبر أن يتحقق بدون المعنى الذي أوضحه الله عز وجل لنا عن الشكر.

وما هو الصبر أيها الإخوة؟ الصبر هو أن يلجم الإنسان رغائبه وأهواءه وغرائزه النفسية بانتظار ما هو أبقى، وفي انتظار ما يحقق له سعادة أفضل وأتم، هذا هو الصبر. فإذا رأى الإنسان نفسه مريضاً وقد كلف من قبل الطبيب بالحمية فاحتماؤه عن الأطعمة التي يشتهيها صبر، لأنه إنما يمنع نفسه من رغائبه انتظاراً لرغيبة أفضل وانتظاراً لمتعة أتم وأكمل، هذا هو الصبر، والإنسان في هذه الحياة الدنيا ابتلاه الله عز وجل بغرائز بشهوات بأهواء تجمح به وتتطلب منه أن ينال رغائبه العاجلة دون نظرٍ إلى المآل، فيأتي الصبر الذي أمر الله عز وجل به ليقول لهذا العاقل ليخاطب عقله قائلاً: احجز نفسك الآن عن رغائبك هذه وإن جنحت بك، احمي نفسك عن متطلبات غرائزك وإن اهتاجت بك، وذلك لأنك إن فعلت ذلك فلسوف يأتيك يومٌ تتمتع به بهذه المتع التي تتطلبها شهواتك مضروبةً بأضعافٍ وأضعاف وأضعاف، وتكون متعة لا غصة ولا نهاية لها. فإذا وعى العاقل هذا المعنى صبر كصبر المريض على الحمية في انتظار الشفاء الذي يجعله يتمتع بهذه الأطعمة كلها.

والفرق بين الصبر وبين الإقامة على الضيم - وهو أمر مذموم - هو أن الإقامة على الضيم تكون بدون أمل، إنسانٌ سيم الذل والهوان من قبل ظالم، وخضوعه لهذا الذل والهوان لن يثمر عاقبة حسنة في المستقبل بالنسبة له، لا يسمى هذا صبراً، وإنما هو إقامة على الضيم، والإنسان لا ينبغي أن يقيم على الضيم، إلا أن ربنا عندما ابتلانا بالمحن المختلفة إنما زجنا من ذلك في طريق الصبر ووعدنا على ذلك الأجر الوفير والكبير، ولا مثَلَ أقرب إلى هذا من المريض عندما يحميه طبيبه من كثيرٍ من المآكل، إنه يتأمل من وراء ذلك عافية، ويتأمل من وراء هذه العافية أن يعود إلى أطعمته فيتناولها بمتعة أعظم وشهوة أتم وأكمل.

من أجل أن السير إلى الله لا يتم إلا بصبرٍ وشكر، ومن أجل أن الأوامر الإلهية كلها تدفعك إما إلى الصبر وإما إلى الشكر أقامنا الله عز وجل من هذه الحياة في دارٍ امتزج بؤسها بنعيمها، امتزج خيرها بشرها، فيها نعم ومتع كثيرة من أجل أن تحملك على شكره، وفيها ألوان من الضر والبأساء كثيرة من أجل أن تحملك على الصبر، وانظروا إلى بيان الله عز وجل إذ يقول: )وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[ ويقول: )وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا[.

هذه الحياة الدنيا أيها الإخوة لا يمكن أن تصفو للنعيم فقط، ولا يمكن أن تصفو للآلام والمصائب فقط، إنما هي مزيجٌ من هذا وذاك، لأن الله عز وجل جعل من ذلك المناخ الذي يتفق مع واجبات التكليف، جعل من هذه البيئة التي أقامنا الله عز وجل فيها شيئاً يتناسب مع واجب العبودية التي ينبغي أن نعلن عنها في أنفسنا لمولانا وخالقنا سبحانه وتعالى، وعبوديتك لله لا تتحقق بالقال والقيل وإنما تتحقق بالصبر عندما يصفعك الله عز وجل بشدائده وتتحقق بالشكر عندما يتجلى الله عز وجل عليك بمنحه ونعمه، الصبر آناً والشكر آناً إذا تلاقيا تحققت عبودية الإنسان من خلال ذلك، فهل عسينا أن ندرك هذه الحقيقة فنصطبغ بها؟

إن كلاً منا فيما أعتقد يطوف به سؤالٌ أمام بيان هذه الحقيقة التي قلتها مختصرةً جداً، هذا السؤال أطرحه أنا على نفسي كما أطرحه على كل منكم. فمن أين آتي بالصبر ووسائله وسبل الثبات عليه؟ الصبر كما قالوا أيها الإخوة دواءٌ مر شديد المرار، ومن العسير أن يعتمد الإنسان على نفسه ثم يجد سبيلاً إلى تجرع هذا العلاج المر، فكيف السبيل إلى أن يستجيب أحدنا لقول الله القائل: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[؟

في القرآن آية يخاطبنا الله عز وجل قائلاً: )وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ[، قد يظن أحدنا أن في هذا البيان الإلهي شيئاً من التناقض. يقول: اصبر ثم يقول: وما صبرك إلا بالله، لا ليس في كلام الله عز وجل وبيانه أي تناقض إطلاقاً لكن ما المعنى؟ اصبر يا ابن آدم حتى تتجلى عبوديتك وحتى يظهر صدقك في قولك مولاك إذ تقف بين يديه في الصلاة قائلاً: )إِيَّاكَ نَعْبُدُ[. اصبر. فإن صبرت فذلك شاهدٌ على صدقك إذ تقول: إياك نعبد ويأتي العبد ليقول: ولكني عاجز لا أملك إلى الصبر سبيلاً وأنا ضعيف وأنت القائل: )وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا[.

علّمنا الله عز وجل في الصلاة أن نقول: )إِيَّاكَ نَعْبُدُ[ ثم أن نقول له مباشرة: )وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[، أعبدك لكني في الوقت ذاته لا أملك من أمر نفسي شيئاً أنا أستعين بالسير إليك عبداً برحمتك بتوفيقك بقدرتك. هذا معنى كلام الله هنا أيضا: واصبر. فإن قلت: يا ابن آدم إنني عاجز. حاولت فلم أستطع سرت فتقطعت بي السبل، دواء الصبر مرٌ علقم. يقول لك الله عز وجل: وما صبرك إلا بالله.

هل التجأت إلى الله ثم لم يصبرك؟ هذا معنى قوله )وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ[ عندما يقول لي الله: اصبر إنما يقول لي التجئ إلى الله ليصبرك، عندما يقول لي الله سبحانه وتعالى: اعبد ربك وحده لا شريك له مخلصاً له الدين يقول لك في الوقت ذاته: التجئ إلى الله سبحانه وتعالى ليكرمك بالقدرة على هذه العبادة والعبودية وعلى الصبر الذي يبرز حقيقة العبودية في كيانك، إذاً مآل الإنسان عند الشكر وعند الصبر أن يطرق باب الله عز وجل إن دعيت إلى الصبر، فاعلم أنك ضعيف لن تستطيع إلى ذلك سبيلاً إلا بصدق الالتجاء إلى الله عز وجل، تطرق بابه وتقول: اللهم إنك قد أمرتني بما لا قبل لي به أنا ضعيف نفسي، تهتاج بي كياني كله يقف دون سيري في هذا الطريق الذي أمرتني به فلا غنى لي عن سؤالك، لا غنى لي عن التذلل على بالك، لا غنى لي عن الاستعانة بك صبرني لأصبر، أعني لأكون صابراً وإلا فلن أستطيع أن أنفذ خطوة مما قد أمرتني بالسير فيه .

كذلكم الشكر الذي لا ينهض إلا عل دعامة من الصبر، بل كذلكم سائر التكاليف الفرعية التي تتفرع عن واجب الصبر أو تتفرع عن واجب الشكر، كل ذلك لا يتحقق إلا بأن يأتي الإنسان ذليلا مهيناً منكسراً فيطرق باب عبوديته لله عز وجل متجرداً عن كل قدرة يقول: يا رب أنا لا شيء لا حول لي ولا قوة إلا بك، فأعني على ما قد طلبته مني أعني على تنفيذ أمرك أعني على الابتعاد عن نهيك أعني على الحمية التي كلفتني بها، هذا معنى قول الله: )وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ[ عندما أقرأ هذه الكلمة )وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ[ أشعر بعزاء ٍبتعزيةٍ وسلوى يخاطب البيان الإلهي بهما من يقول بلسان حاله: يا رب إنني أحب أن أصبر لكنني ضعيف. يقول الله له: أنا أعلم .. أنت ضعيف ولن تستطيع أن تصبر إلا بمعونة مني لكن هل استعنت بي؟

ها هنا الخطوة الوحيدة التي ينبغي أن يخطوها الإنسان إلى الله، اخطو الخطوة الأولى ولسوف تجد الإله الكريم الرؤوف الرحيم يخطو إليك الخطوات الأخرى كلها. ما هي الخطوة الأولى؟ أن تطرق باب الله بيد الذل والمسكنة، بيد الضراعة تطرق باب الله وأنت تشعر نفسك بأنك لا شيء، تقول له: يا رب أمرتني وأنا عاجز ونهيتني وأنا عاجز وسلكتني في طريق الوصول إليك وأنا لا أستطيع أن أخطو خطوة واحدة إليك فوق هذا الطريق، فاحملني بقدرتك بكرمك وجودك، أوصلني إلى المبتغى الذي تريد توصلني إليه ولك مني ذل هذه العبودية، وأنا أنتظر منك البقية، مني الفقر والضعف ومنك العطاء ومنك المنن ومنك المحن ومنك التوفيق ومنك الهداية ومنك كل ما تطلبه مني.

روى بعض الصالحين أنه رأى في الرؤية رجلاً من الصالحين ومن عباد الله المقربين بعد وفاته فسأله الرائي: ماذا صنع الله بك؟ قال أوقفني بين يديه وقال لي بما جئتني؟ قلت له: يا رب أنا عبد والعبد لا يملك شيئاً، العبد ضعيف لا قدرة له، فقير لا ملك له، جئتك فقيراً، جئتك بوعاءٍ فارغ، جئتك لأطلب أنا منك، ليت أن الله سبحانه وتعالى يلهمنا حجتنا هذه إذا وقفنا غداً بين يديه، ليت أن الله سبحانه وتعالى يقدرنا على أن نقول هذا الكلام لكننا لا نستطيع آنذاك أن نقوله إلا إذا تجلببنا اليوم برداء هذه العبودية، نستعين بالله في كل ما قد أمر مما نعجز عن القيام به، نستعين بالله في كل ما قد نهى مما تجمح نفسنا إلى ارتكابه، نستعين بالله في الصبر والمصابرة. أقول قولي هذا واسأل الله العظيم أن يجعلنا من عباده الراضين المرضيين الصابرين المنعمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي