مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 06/07/2001

ألا تحبون أن يفرح الله بكم

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى .

أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

إن التوبة من الذنب واجبٌ خاطب الله عز وجل به عباده المسلمين جميعاً دون أي استثناء فقال في محكم تبيانه: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلمٌ في صحيحه: "إنه ليغان على صدري فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة".

وبمقدار ما أن التوبة واجبةٌ على الناس جميعاً على اختلاف فئاتهم، فإنها من أشد ما يحبه الله سبحانه وتعالى في العبد، ولذلك قال عز من قائل: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ".

ولعلكم عرفتم أو سمعتم الحديث المتفق عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجلٍ نزل في أرض دوية مهلكة" أي صحراء منقطعة "ومعه راحلته عليها فوضع رأسه فنام نومةً ثم استيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى اشتد به الحر والعطش فقال في نفسه أعود إلى المكان الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده لينام ويموت فاستيقظ وإن راحلته عند رأسه عليها طعامه وشرابه" يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فالله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من هذا براحلته" زاد مسلم في صحيحه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال هذا الإنسان لما رأى راحلته عند رأسه: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح".

ولعلكم تتسائلون ففيم يخاطب الله عباده جميعاً بالتوبة؟ ونحن نعلم أن في الناس من عصمهم الله عز وجل من المعاصي والآثام - ومنهم الرسل والأنبياء - ومع ذلك فالخطاب الآمر بالتوبة موجهٌ إليهم جميعاً "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".

فالجواب أيها الإخوة عن هذا السؤال هو التالي: عندما يولد الإنسان ويبدأ يدرج من المهد إلى هذه الدنيا طفلاً لا يعي من أمور الدنيا شيئاً، وليس بين جوانحه غريزة متفتحة ولا شهوة مهتاجة، ثم إنه يشب عن الطوق ويتجاوز طفولته الأولى إلى مرحلة الشباب، فأول ما يتفتح بين جوانحه إنما هو الغرائز والشهوات والأهواء، وتتكامل هذه الغرائز هياجاً وقوةً وحرارةً بين جوانح هذا الإنسان عندما يكتمل شبابه، في حين أن المدارك العقلية تكون متخلفة ولا تزال ولا تتكامل إلا عندما يصل هذا الإنسان إلى الأربعين من عمره. إذاً فالشهوات والأهواء تسبق المدارك العقلية في حياة الإنسان تسبقه إلى مشاعره وإلى مكان وجدانه وعواطفه، فتكون لها - لهذه الغرائز - الأسبقية فيما يتعلق بسوق هذا الإنسان إلى ما تتطلبه تلك الغرائز والشهوات، ثم إن دور العقل يتكامل فيما بعد.. ومن هنا فكل إنسان يتعرض في شبابه وقبل أن ينضج عقله ويتكامل وعيه وإداركه يتعرض للموبقات، يتعرض للانزلاق، يتعرض في الوقوع في أودية الشهوات والأهواء، يتعرض للأمراض الباطنة التي حذر الله عز وجل منها عندما قال: "وذروا ظاهر الإثم وباطنه"، ثم إن العقل يأتي ويتكامل ويتفتح فيكون دوره أن يكنس هذه الأمراض التي سبقت الغرائز والشهوات إلى العقل في غرسها في كيان هذا الإنسان، ومن هنا ولأن كل إنسانٍ معرض بأسبقية شهواته وأهوائه للوقوع في الذلات والحديث عنها أو للتعرض لها، فلقد كان الناس جميعا ًإذاً مدعوين إلى التوبة، من هنا خاطب الله سبحانه وتعالى عباده جميعاً يقول لهم: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"، ومن هنا فقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يكثر ثم يكثر من الإستغفار وينبؤ بذلك أصحابه قائلاً: "إنه ليغان على صدري وأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة".

هذا إلى جانب أن الله عز وجل جعل الإنسان معرضاً لهذه الزلات ولهذه الانحرافات بدافعٍ من أسبقية شهواته وأهوائه على العقل، من أجل أن تكون عبودية الإنسان لله ناميةً دائماً، ومن أجل أن يشعر الإنسان دائماً بأنه مقصر، وبأنه لم ينفذ حق العبودية لله عز وجل في عنقه يعود إلى نفسه فيرى ما قد رُكب فيها من الشهوات والأهواء والغرائز، ويرى مشاعر الأنانية والعجب تهتاج بين جوانحه، يرى هذا كله وينظر إلى حق الله عز وجل عليه فيشعر بفرق ما بين هذا الواقع الذي يعاني منه وحقوق الله سبحانه وتعالى عليه، فتنقدح مما بين هاتين الحالتين مشاعر تذلله لله، مشاعر عبوديته لله سبحانه وتعالى، ومن ثم فما ساعة يمر بها العبد الذي امتدت بينه وبين مولاه وخالقه خيوط الإيمان، خيوط الإسلام إلا ويشعر بحاجة ماسة إلى أن يتوب إلى الله عز وجل بل أن يجدد توبته بين يدي الله سبحانه وتعالى.

ولكن ما هي التوبة أيها الإخوة التي دعانا الله جميعاً إليها؟ لا يوماً ويومين فقط .. بل دعانا إلى أن نتوب ونتوب دائماً إلى الله من سائر الزلات والمعاصي. ما هي التوبة؟

التوبة تتكون من علمٍ ثم ندم ثم عزم، هذه هي التوبة.

أما العلم: فليعلم العاصي أنه عندما يؤول إلى الله سبحانه وتعالى لن يجد سعادته إطلاقاً إلا بلقاء الله عز وجل. كل مؤمن صدق مع الله في إيمانه يعلم هذه الحقيقة، لا سعادة للإنسان إذا رحل إلى الله إلا بلقاء الله، فإن حجب عن الله فتلك هي الشقوة التي لا نهاية لها ولا محيص عنها.

ما الذي يحجب الإنسان عن لقاء الله ما الذي يحجبني إذا رحلت غداً إلى الديان ما الذي يحجبني عن لقائه؟ المعاصي التي أرتكبها اليوم معصية إثر معصية إثر معصية، ثم تتراكم وتتكاثر هذه المعاصي دون أن أتوب عنها ودون أن أتطهر من لغوها ورجسها، هذه المعاصي إذا تكاثفت وتكاثرت دون التوبة ثم رحلت وأنا أحمل على عاتقي وفي قلبي من أوزارها ما أحمل، فإن هذه المعاصي تشكل الحجاب الحاجز الذي يمنعني من لقاء الله عز وجل، في الوقت الذي يسعد فيه من يسعد بلقاء الله سبحانه وتعالى.

هذا العلم إذا وقر في نفسي وفي نفسك وتأملت في هذه الحقيقة يدفعنا إلى الندم، يدفعنا إلى الندم اتجاه المعاصي التي اقترفناها وقد علمتم أن الإنسان غير معصوم وكل بني آدم خطاء ولكن خير الخطائين التوابون. لا بد أن يسوقني هذا العلم إلى الندم فتشتعل نيران الندم بين جوانحي لماذا عصيت الله؟ لماذا سبقت شهواتي عقلي فارتكبت الموبقات وابتعدت عن الله بالزلات وركنت إلى الأمراض الباطنية من أنانية وعجب وكبر ونحو ذلك مما تعرفون لماذا، لماذا لم أتبصر بحق الله عز وجل علي؟

هذه الندامة هي الركن الثاني من أركان التوبة والندامة بدورها إلام تحملني؟ تحملني على العزم، علمٌ ثم ندمٌ ثم عزم على أن لا أعود، ذلك العلم إلى جانب الندم كلاهما يحملني على أن أعزم بيني وبين الله عزوجل أن لا أعود، على أن لا أعود إلى هذه المعاصي - ولا أقول المعصية - التي اقترفتها، فإذا عرفت هذه الحقيقة ثم انقدحت من معرفتك لهذه الحقيقة نيران الندامة بين جوانحك وساقك ذلك إلى العزم على أن لا تعود إلى هذه المعصية، فاعلم أنك قد تبت إذاً إلى الله سبحانه وتعالى، واعلم أن الله عز وجل قد قبلك وفرح فرحاً كبيراً كبيراً كبيراً بتوبتك كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه.

وما معنى فرح الله بتوبة عبده؟ إن الله عز وجل ليس له الأجهزة الجسمية التي تشبه أجهزتنا حتى يفرح لا ولله المثل الأعلى، ليس كمثله شيء ولكنها كناية عن شدة رحمة الله عز وجل بعبده، شدة محبة الله عز وجل لعبده الذي تشده إليه آصرة الإيمان وتبعد عنه حالة المعاصي والأوزار التي يندلق فيها، والله عز وجل رحيمٌ رحمان بعبده، ومن ثم فالله عز وجل يدعوه يدعوه ليل نهار إلى أن يتوب. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه مسلم: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار وإن الله يبسط يديه بالنهار ليتوب مسيء الليل".

هكذا ينتظر الله عز وجل من عبده إذا شرد أن يؤوب، ينتظر الله عز وجل من عبده إذا أخطأ أن يصلح حاله، ينتظر الله عز وجل من عبده إذا نسي أن يتذكر المعاد أن يتذكر الموت والبقاء لله سبحانه وتعالى، هكذا ينتظر الله من عبده ... فإذا رجع العبد إلى الله وقال يارب ها أنا ذا عائدٌ إليك قبله الله قبولاً يعبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث الذي سمعتموه وتبينتموه.

والخطر كل الخطر أيها الإخوة أن يتقاعد الإنسان عن التوبة وأن يزجي توبته إلى الأيام القادمة ثم الأيام القادمة ،كلما ذكر بالتوبة قال: سأتوب .. عما قريب؛ يعطي نفسه من العمر ما لا يدري، والعمر طوله وقصره مخبوءٌ عند الله عز وجل في غيبه المكنون، لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

الخطر كل الخطر أن يطرق الموت باب هذا الإنسان الذي أخر توبته وأرجئها إلى ميعاد لا يعلمه، يأتيه ملك الموت يعلن على سمعه وبصره وكيانه أن قد حانت ساعة الرحيل، لا أن قد حانت لحظة الرحيل عن هذه الدنيا إلى الله، ويتمنى هذا الإنسان لو أنه دفع كنوز الدنيا كلها لملك الموت على أن يتمتع بدقائق بالإضافة إلى العمر الذي قطعه ليعود فيصلح ما فسد، وليقوم ما اعوج، ولكن لا مناص من الرحلة إلى الله في اللحظة التي علم الله أنه ينبغي أن يرحل فيها نعم. يقول قائلهم: "رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا"، لا مرجع بشكلٍ من الأشكال.

والعاصي أيها الإخوة إذا رحل إلى الله وإشراقة الإيمان لا تزال في طوايا قلبه، فإن معاصيه لا تضره إن شاء الله، لكن ما الضمانة أن يرجل إلى الله وإشراقة الإيمان موجودة في طوايا فؤاده، الأمر سيكون على العكس من ذلك. إذا تراكمت المعاصي في كيانك ثم تراكمت ثم تراكمت دون التوبة ودون أن تغسل نفسك منها بماء التوبة ثم جاءك الموت، فإن قبس الإيمان ينطفئ بسبب وقع هذه المعاصي الكثيرة، سينسى العاصي إيمانه آنذاك ولسوف ينسى تلك الكلمات التقليدية التي كان يرددها بلسانه، ولسوف تحجزه معاصيه عن أن يحرك لسانه بكلمةٍ يرحل بها إلى الله سبحانه وتعالى مؤمنا، ولذلك قالوا: المعاصي بريد الكفر.

أجل أيها الإخوة ما ساعة قرأت فيها هذه الآية " وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " إلا ورأيت أن هذا الخطاب يوجه إلي، وأعتقد أن كل مسلم ينبغي أن يعلم أن هذا الخطاب أيضا موجه إليه لكل واحد واحد فرداً فرداً، ولا يستطيع أحدٌ أن يقول: أما أنا فلم أعصي الله قط، فلا داعي إلى أن أتوب لأني لم أعصي، لم يُخلق بعد هذا الذي يملك أن يقول هذا الكلام بحق وصدق، لو كان هنالك من يملك أن يقول هذا لكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومع ذلك عرفتم ما كان يقول: "إنه ليغان على صدري فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة" والله عز وجل ماذا قال له: "لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ" هذا كلام الله عز وجل.

عبودية الإنسان لا يمكن أن تدع واحداً منا أنه بعيداً عن المعاصي والأوزار، كلنا عبيد أذلاء لله والعبد لا يكون عبداً إلا عندما يكون معرضاً لرشاش المعاصي والأوزار، شأن العبد أن يشرد ثم يعود، شأن العبد - لا التائه - الذي عرف ربه أنه يشرد بين الحين والآخر، ولكنه سرعان ما يعود إلى مولاه، تماماً كالطفل الصغير ولله المثل الأعلى قد يشرد هنا وهناك ولكن كلما ادلهم حوله الخطر وكلما رأى نفسه ابتعد عن أمه عاد يصيح إلى أمه في خطوات سريعة، هكذا شأن العبد اتجاه ربه ومولاه سبحانه وتعالى، أما العبد الذي يرى نفسه أنه بعيد بعيد عن المعاصي والأوزار فهذا إنسان مزق عبوديته تحت قدميه، ولسوف يعود غداً إلى الله عز وجل بعبوديةٍ جاثمة في كيانه دون أن تكون مغطاة بسلوكه وسيره إلى الله سبحانه "إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا(94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا".

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي