مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 20/04/2001

حتى تعود الأمة لسابق عهدها

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله وتعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

أخبرني بعضهم أن واحداً من حاخامات اليهود قال في حديث له: (إن العرب وجدوا في العالم خطأً وإن من الواجب تصحيح هذا الخطأ بإبادتهم واجتثاث جذورهم والقضاء عليهم).

قلت له: ما الذي يزعجك من هذا الكلام؟ هذه المشاعر وهذه المعاني وهذا العدوان موجود منذ عصورٍ قديمة في صدور هؤلاء الناس، ولقد أخبرنا الله عز وجل عن ذلك قائلاً: )قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ[. إلا أن هؤلاء الناس كانوا ينظرون إلى هذه الأمة العربية وقد تحصنت بحصن الإسلام واعتزت بمبادئه وقيمه، وارتبطت بقدرة الله وتوفيقه، فكان الجبن يمنعهم من أن يفوهوا بهذا الذي انطوت عليه أفئدتهم وصدورهم، كانوا يجترون عدوانهم في نفوسهم ويمنعهم الخوف والخور والجبن من أن ينطقوا بذلك أو أن يفوهوا به. ثم نظروا اليوم فوجدوا أن العرب قد شردوا من هذا الحصن الذي أعزهم الله به، ونظروا فوجدوا أنهم تحولوا إلى نثارٍ من الأمم، وتأملوا في وحدتهم التي أعزهم الله بها وإذا هي اليوم حطام فلم يعودوا يخافون مما كانوا يخافون منه بالأمس، وغاب عنهم الجبن والخور الذين كانا مضرب المثل في حياتهم من قبل ففاهت ألسنتهم بما انطوت عليه نفوسهم. لا جديد في الأمر أبداً.

وقلت: إذا كنت تريد أن تأسى وأن تشعر بالألم والحزن فليكن ألمك وحزنك متجهاً إلى ما قد حل بهذه الأمة، وجه حزنك وأساك إلى هذا المصير الذي آل إليه حال قياداتنا العربية الكثيرة، هذا الذي ينبغي أن نتألم منه وهذا هو مصدر الحزن الذي ينبغي أن يخيم على نفوسنا، أما هذا الحديث والمعنى الذي استكن منه في النفوس فهو ليس شيئاً جديداً، هو أمرٌ قديم قديم، والجديد هو إنما هو النطق به وسبب النطق به هذه الحالة المهينة التي لا أقول آلت إليها الأمة العربية بل أقول آلت إليها القيادات العربية.

نحن نعلم أيها الإخوة علم اليقين أن العرب كانوا قبل الإسلام مضرب المثل في المهانة إذ كانوا مضرب المثل في التفرق والشتات، ونحن نعلم علم اليقين أنهم كانوا يعيشون على هامش التاريخ فلما أقبلوا إلى الإسلام ولما صدقوا الله عز وجل فيما بايعوه عليه أدخلهم الله عز وجل بعد ذلك الشرود في حصن الإسلام، فاجتمعت كلمتهم بعد تفرق، واتحدت أفئدتهم بعد تخالفٍ وشقاق وأصبحوا مصدر تطبيقٍ إيجابيٍ لقول الله عز وجل: )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا[ أعزهم الله بعد ذل، وجمع كلمتهم بعد نثار، ومكنهم من الأرض، وكشف طاقات وألق الحضارات التي من حولهم، وورثهم الله سبحانه وتعالى الأرض، وورثهم القوى والقدر التي كانت الأمم الأخرى تتمتع بها، كلنا يقرأ هذه الحقيقة التي خطها لنا التاريخ فما الذي حصل بعد ذلك؟

الذي حصل أن الإسلام في حياة هذه الأمة تحول إلى إسلام تقليدي محنط، الذي آل إليه أمر هذه الأمة أن ولائها قد تحول عن الارتباط بالله عز وجل إلى أممٍ وقوى أخرى نأمل من ورائها الخير ونأمل من ورائها الدعم، في حين أن الله عز وجل حذرنا قديماً ونبهنا مراراً وتكراراً وقال: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ[.

حذرنا الله سبحانه وتعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَر[ ومع ذلك فأعرضنا عن هذا البيان المحذر.

قال لنا الله عز وجل: )وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[ أعرضنا عن هذا البيان وأمعنا في التنازع.

قال لنا: )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[ ولكنا أعرضنا عن حبل الله وأمعنا في التشتت والتفرق.

أحب الله عز وجل لنا - وهو اللطيف بهذه الأمة والحفي بها - أحب الله سبحانه وتعالى لها هذا الحصن الذي به عزها وإليه مردها وبواسطته اجتماع كلمتها، قال: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[ أعرضنا عن هذا الإسلام الجامع واكتفينا منه بما يشبه الشعارات التي توضع على الصدور وتمسكنا من الإسلام بمظاهر تقليدية - كما أقول - محنطة نعم، فماذا كانت النتيجة؟

كانت النتيجة أن تسربت أسباب الشقاق والبغضاء والتفرق بين هذه الأمة التي كانت مضرب المثل للالتحام والتضامن والوفاق، وعندما يتداعى أفرادها إلى أن يعالجوا مشكلاتهم بشيءٍ من الوفاق والتضامن وسد الثغرات - في أحسن الأحوال - إنما يشيع فيما بينهم نسيج المجاملة، نسيج المصافحات بالأيدي، فإن زاد الأمر على ذلك فهو عناق ،كل ذلك مظهر كل ذلك شكل وتكتيك كما يقولون، فإذا تفرق المجتمعون وذهب كلٌ إلى شأنه عادت الثغرات تتفتح، وعادت مهيجات الخلاف تتنامى وتتزايد، وعاد التدابر إلى شأنه، ذلك لأن هنالك قوى تنفخ في نيران هذا التفرق، هنالك قوى تعلم أن الشرط الوحيد الذي لابد منع لتهافت هذه الأمة ولضعفها ولتغلب قوى الشر عليها، الشرط الوحيد الذي لابد منه أن تبقى متناثرة، أن تعود وحدتها التاريخية إلى حطام، وأن لا تتمكن من أن تعود إلى سابق عهدها تآلفاً ووحدة وتضامنا. هنالك من يعلم أن هذا هو الشرط الوحيد الذي لابد منه كي تبقى هذه الأمة بعيدةً عن سدة القوة بعيدةً عن معين النصر والتوفيق، ومن ثم فإنها تنفخ ولا تزال تنفخ في أسباب مزيدٍ من التفرق ومزيد من الشقاق والخلافات.

ولكني أقول أيها الإخوة جواباً عن سؤال طرحه كثير من الناس:

أحقاً أن هذه الأمة شلت فاعليتها فلم تعد تستطيع أن تسد ثغرات الخلافات المصطنعة فيما بينها؟!

أحقاً أن بين الأعداء من حولها استطاعوا أن يمزقوها شر ممزق وأن يجعلوا منها أشبه ما تكون بفريسةٍ تحولت إلى أشلاء مبعثرة؟

أحقاً أنها لا تستطيع لو شاءت أن تعود إلى سابق تضامنها الحقيقي ووحدتها النابعة من نبضات قلب متحد؟

لا أيها الإخوة إنها تستطيع السبل مفتحة والأبواب إلى الرجوع إلى وحدتها العزيزة المعزة لا تزال مفتحة أجل، ولكن المسألة تحتاج إلى شرط واحد، هي أن تعود فتصطلح مع الله سبحانه وتعالى، هي أن تعود القيادات العربية فتصطلح مرة أخرى مع الله عز وجل، أن تتجاوز هذا الإسلام التقليدي الانتمائي الذي تجتره في كلامها ولسانها في المناسبات وأن تنتقل إلى الإسلام الفعال، إلى الإسلام المهيمن، إلى الإسلام الذي يتجلى عبودية لله عز وجل في أعماق القلب، ثم يتحول من ذلك إلى سلوك يتحول، من ذلك إلى تجنيد للدنيا في سبيل الآخرة ومرضاة الله، لا إلى إعراض عن الآخرة واستغراق في حمأة هذه الدنيا لأنها الدنيا. هذا هو الشرط الوحيد فما الذي يمنعها من أن تعود فتتمسك بهذا الشرط وتنفذه؟ ما الذي يمنعها أيها الإخوة؟

الإله الواحد الأحد موجود وهو الذي وعد بالنصر عندما تتحقق شروطه وتوعد بالخذلان عندما تتحقق شروطه )إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[، ونحن نعلم بإسلامنا التقليدي أن هذا كلام الله سبحانه وتعالى: )إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ[ استفهام إنكاري يتضمن معنى التحدي، فإذا مدت القيادات العربية اليوم أيديها إلى الله بصدق تصطلح معه بصدق وتجدد ميثاقها أمامه بعد ابتعادٍ وشرود وبعد تيه وضلال، فإن الله سبحانه وتعالى ينصرها، وإن الله سبحانه وتعالى يبعد عنها سائر الآفات ويبعد عنها أمواج العدوان المدلهمة يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً.

إذا فهذه الأمة لا تزال قادرة على أن تعود إلى سابق عهدها وأن تتحصن مرة أخرى بحصن قوتها، وهذا الشرط لا يكلفها اقتصاداً لا تستطيع تنفيذه، لا تكلفها اختراعات قوى لم تبلغ إلى درجة اختراعها وابداعها، لا يكلفها ما لا تطيق ... إنما يكلفها هذا الشرط أن تصدق مع الله مرة أخرى، يكلفها هذا الشرط أن ينطلق إسلامها يقيناً من القلب إقراراً إلى اللسان تنفيذاً عن طريق السلوك، فمن ذا الذي يزعم أنه عاجز عن تنفيذ هذا الشرط؟

نعم الذي يصد والذي يقف عقبة عن تنفيذ هذا الشرط شيء واحد عدم الرغبة، الذي يصد عن تنفيذ هذا الشرط شيء واحد الدنيا التي استعمرت أفئدتنا، الشهوات التي هيمنت على قلوبنا، المصالح العاجلة التي جعلتنا محجوبين عن خالقنا وبارئنا سبحانه وتعالى، بل التي جعلتنا نستمرء الذل، والتي جعلتنا نتعود على مثل هذه الكلمات التي سمعناها، هذا هو البلاء.

عندما تتحقق الرغبة الصادقة في أن نعود فنصطلح مع الله عز وجل، وعندما يعود كلٌ من قادة هذه الأمة إلى ساعة من النقد الذاتي، إلى ساعة من التبتل بين يدي الله، من الانكسار على أعتاب الله، من الرجوع إلى حمى الله سبحانه وتعالى، ثم تنهج الألسن توبة واستغفاراً ورجوعاً إلى الله عز وجل، فإن الله عز وجل هو خالق القوى والقدر يشل فاعلية الأعداء الذين يحيطون بنا ويتربصون بنا، ويفجر مرة أخرى القوة مما بيننا ومن صفوفنا، ويملؤ أفئدة أعدائنا مرة أخرى رهبة منا وخوفاً ومهابة كما كان الأمر على هذا النحو بالأمس. هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن نعلمها أيها الإخوة.

ولقد قلت مراراً لأناسٍ يقولون بأخيلتهم دون أن يدركوا الحقائق بعقولهم: إن هذه الأمة لا تستطيع أن تعود إلى سابق وحدتها، إن هنالك قوى تصدهم عن ذلك، إنها لا تملك ... كلام كثير من هذا القبيل أسمعه يخيل إلي أن هذه الأمة أصبحت مشلولة بكل معنى الكلمة، وأصبح الاستعباد القديم الذي كنا نسمع عنه أكثر علواً من هذا الذي توصف به حال هذه الأمة. الأمر ليس كذلك.

قلت وأقول: كل شيء يمكن للعدو أن يغتصبه منك إلا أن يغتصب صلة ما بينك وبين أخيك، لا يمكنه لأي عدو أن يفعل ذلك، عندما تكون ثلة من الأصدقاء المتحابين المتآلفين سالكين مسلك سفر إلى غاية لهم، واطلعت عليهم فلول أعداء - قطاع طرق - من الممكن تماماً أن يقبل هؤلاء القطاع فيجردوهم من أموالهم، من الممكن أن يعمد هؤلاء القطاع فيجردوهم حتى من بلغة طعامهم، من الممكن أن يجردوهم حتى من ثيابهم، ذلك لأنها قوة مادية تتربص بشيء مادي. ولكن هل يتمكنون من أن يتسربوا إلى صلة ما بين هؤلاء الأصدقاء فيحيلوا الود الذي فيما بينهم إلى بغضاء؟ هذا ما لا يمكن؛ لأن هؤلاء الناس مهما تمكنوا ومهما أتيحت لهم وسائل وأسباب مادية للتغلب والقهر فإنها تظل أسباباً مادية، أما الحب أما التآلف فسر رباني هابط من الملأ الأعلى لا يمكن لقطاع الطرق هؤلاء أن يحيلوا ود ما بين هؤلاء الأصدقاء إلى عداوة وبغضاء أبداً.

وما يصدق على هذه الثلة يصدق على قادة الأمة العربية أيضاً لا فرق بشكل من الأشكال، عندما تكون مشاعر الأمة متنامية، وعندما تكون جسور الود ممتدة متصلة، وعندما تكون معاني المحبة عامرةً موجودةً في القلوب لا دول الشرق ولا دول الغرب ولا قوى الإنس والجن تستطيع أن تحطم هذه الصلة ما بين الأفراد، فلا يقولن قائل هذا الكلام، نحن الذين أعرضنا عن معنى التآلف ومعينه ومصدره، نحن الذين آثرنا أن نتنابذ وأن نتخاصم من أجل أن يرقص العدو على جراحنا ومن أجل أن يفوه العدو بما لم يكن يستطيع أن يفوه به بالأمس القريب.

أيها الإخوة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهم قادة هذه الأمة أن يعودوا فيصطلحوا مع الله سبحانه وتعالى ليصلح الله عز وجل أمورهم، وأسأله سبحانه أن يلهمهم أنه لا يمكن أن يصلوا إلى أي عز ولا إلى أي نجاح ولا أي هدفٍ سياسي يطمحون إليه ويترددون فيما بينهم من أجل تنفيذه على صعيد هذه الاتجاهات السياسية المتنوعة إلا إذا انطلقوا من هذا الأساس، هذا الأساس هو المنطلق الذي لا بد منه، وإلا فليعلموا جميعاً أنهم يضحكون على شعوبهم وليعلموا جميعاً أنهم يزجون الوقت لصالح أعدائهم.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتجلى على عبادة بالرأفة والرحمة وأن يصلح أحوالنا جميعاً إنه ولي كل توفيق.

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي