مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 06/04/2001

يُسرُ الدين .. وأكذوبة فقه الأقليات

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله وتعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

لا ريب أن هذه الشريعة التي شرفنا الله سبحانه وتعالى بها يسرٌ كلها كما قال العلماء من قبل، ولا شك أنه حيثما وجدت المصلحة الحقيقية للإنسان فثم شرع الله، وحسبنا دليلاً على هذا ما يقرره كتاب الله سبحانه وتعالى في ذلك من مثل قوله عز وجل: )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[ من مثل قوله سبحانه وتعالى: )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[. ولكن ينبغي أيها الإخوة أن نعلم معنى هذا الكلام الرباني الذي يمتن به على عباده إذ أكرمهم بدينٍ لا حرج عليهم فيه وشرفهم بشرعةٍ كل أحكامها يسر تدور على مصالحهم، ما معنى هذا الكلام؟

معنى ذلك أن جميع شرائع الله سبحانه وتعالى جعلها الله سبحانه وتعالى خادماً لمصالح العباد في دنياهم أولاً وآخرتهم ثانياً، ومصالح العباد تلتقي على مقاصد خمسة أولها مصلحة الدين ثم مصلحة الحياة ثم مصلحة العقل ثم مصلحة النسب والعرض ثم مصلحة المال. ويلاحظ أن هذه المقاصد كلها لمصلحة الإنسان ولرعاية ما به سعادته، شريعة الله عز وجل في كل أحكامها تدور على خدمة هذه المقاصد، وهذه المقاصد هي دعائم سعادة الإنسان، فإذا قال لنا الله عز وجل في محكم تبيانه: )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[ فهذا معنى كلامه.

وإذا قال: )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[ فهذا هو مضمون ما ترمي إليه هذه الآية، وهذا يعني أن مصلحة الإنسان قد تتوقف على القيام ببعض العزائم التي فيها أنواعٌ من المشقة هي في خدمة الإنسان ولا تتنافى مع اليسر الذي أحبه الله سبحانه وتعالى له، مصلحة الحياة مصلحة العقل مصلحة النسل مصلحة المال بهذا الترتيب قد تتوقف على جهدٍ يبذله الإنسان، على مواقف صعبة يتخطاها الإنسان، وهذا لا يتنافى مع قول الله عز وجل: )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[.

ينبغي أيها الإخوة لا سيما في هذا العصر أن ندرك معنى هذا الكلام الرباني الذي يمتن الله سبحانه وتعالى على عباده، ذلك لأن في الناس اليوم من يحاولون أن يجعلوا من هذه الآية وأمثالها سبيلاً لتمييع أحكام الله سبحانه وتعالى، يحاولون أن يجعلوا من قول الله سبحانه وتعالى: )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[، أن يجعلوا من هذا الكلام الرباني سبيلاً إلى تفتيت أحكام الإسلام إلى تغييرها وتبديلها وتمييعها، )ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهم[ ورد هذا فعلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن في الناس اليوم من يتوكؤون على هذا الكلام من أجل أن يغيروا ويبدلوا من دين الله ما يشاؤون تحت شعار )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[، تحت شعار )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[ تحت شعار )ما خُير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما[، وإذا سار هؤلاء الناس على هذا المنوال وخُدع المسلمون في هذا الكلام فلسوف يأتي عهدٌ قريب ننظر فيه إلى أحكام الشريعة الإسلامية وإذا بها قد تبخرت وتغيرت وزالت في ضرام هذا الطبخ الذي ما أنزل الله عز وجل به من سلطان وبحجة التحديات التي تواجه العالم الإسلامي اليوم.

أفحقاً أن معنى قول الله عز وجل )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[ أنه لا توجد في أحكام الله عز وجل أحكامٌ تُحمل الإنسان شيئاً من المشاق؟

أفحقاً أن أحكام الشريعة الإسلامية كلها أحكامٌ ميسرة يمارسها الإنسان وكأنه يجلس على متكئٍ له تطوف من حوله النسائم المنعشة؟

أفحقاً هذا هو معنى كلام الله سبحانه وتعالى؟ إذاً فما معنى قول الله سبحانه وتعالى وهو يحدثنا عن مشهدٍ من مشاهد يوم القيامة؟ )وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ[.

إذا لم تكن في أحكام الله عز وجل اليوم أحكامٌ تحملنا شيئاً من الجهد وشيئاً من المشاق وشيئاً مما يناقض أسلوب النفس وغرائزها. فلماذا يقول الله عز وجل يوم القيامة للشاردين والتائهين والفاسقين )أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا[؟ قطفتم نعيمكم وتقلبتم في رخائكم ولذائذكم ومتعكم في دنياكم التي تركتموها ورحلتم عنها إلي، فليس لكم اليوم مما تحلمون به أي نصيب، لو أن شرائع الله عز وجل كانت رخاءً كلها ولو أنها لا تحمل الإنسان أي جهد لما صح هذا الكلام أن يخاطب به الكافرون، إذاً لاستوى المسلمون والكافرون في هذا.

لماذا يقول الله سبحانه وتعالى عن المنافقين الذين اثاقلوا عن السير في الطريق الذي أمرهم الله سبحانه وتعالى، ومالوا إلى النعيم وإلى زخارف الدنيا واثاقلوا إلى المتع وإلى الأرض؟ في حين أن الله عز وجل أمرهم وأمر عباده المؤمنين بالجهاد في سنةٍ بلغ فيها الحر أشده لماذا أمرهم الله بهذا؟ أليس هذا أمر شاقاً؟ فماذا كان موقف المنافقين؟ )قَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ[. لو كان الدين كله يسراً بالمعنى الذي يقوله بعض الذين يصدرون الفتاوى على حسب الطلب، إذاً لماذا اختار الله عز وجل لعباده المؤمنين أن يخرجوا فيجاهدوا تحت لفح الشمس. لماذا اختار الله عز وجل لهم أن يقطعوا مسافات طويلة دونها خرط القتاد، مات من مات تحت وهج الشمس وحرها في الذهاب والإياب لماذا؟ ولماذا تقاعس المنافقون ولم يُقبل تقاعسهم؟ كان ينبغي أن يقال لهم: موقفكم سليم لأن الإسلام يسر وليس فيه من عسر.

لماذا يقول الله سبحانه وتعالى في وصف عباده الذين أحبهم الله فأحبوه )كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[. ولقد علمنا أن قيام الإنسان في منتصف الليل وبعد مرور هزيعٍ يسيرٍ منه شيء عسير على الإنسان وليس أمراً ميسرا، وها هو ربنا يمتدحهم على هذا الأمر العسير الذي حملوه أنفسهم يقول بأسلوب آخر: )تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا[ ومن الذي قال إن تجافي الجنب عن المضجع أمر غير عسير؟ وهل ذقتم عسراً أشد من هذا العسر عندما يكون الإنسان بأمس الحاجة إلى الرقاد، ولكنه يذكر لذة مناجاة العبد للرب ويذكر عظيم الأجر الذي يدخره الله عز وجل لمن يقوم في ظلمات الليل ويركع ويسجد بين يديه فيجافي جنبه عن المضجع. وتأملوا كم في هذا التعبير من تصوير )تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ[. تتجافى صورةٌ للجنب الذي يهوي إلى مضجعه من شدة احتياجه إليه، ولكن روحانية هذا الإنسان ولكن تعظيمه لله حبه لله خوفه لله يجعله يشد جنبه هذا عن المضجع الذي قد تعشقه والتصق به ليبعده عما فيه هواه ليبعده عما فيه متعته ولينقله إلى الوقوف بين يدي الله عز وجل، أليس في هذا جهدٌ وأي جهد؟

ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يأوي إلى مضجعه ويلتصق جسده بجسد أم المؤمنين عائشة وقبل أن يُغمض له جفن يقول: )يا عائشة أتأذنين لي أن أقوم وأتعبد لربي[ فتقول له: يا رسول الله أحب قربك وأؤثر هواك، فيقوم عليه الصلاة والسلام قبل أن تغمض له عين فيتوضئ فيقف بين يدي ربه يصلي ليبزغ الفجر. أليس هذا من العسر الذي تتأباه النفس أيها الإخوة؟ إذاً حقاً أن الله عز وجل قد أكرمنا بدينٍ كله يسر، أكرمنا بدينٍ لا حرج فيه لكن ما معنى ذلك؟

معنى هذا أن شرائع الله التي شرعها لنا وأمرنا بها كلها يدور على مصلحة الإنسان، إما أنها ترعى مصلحته في دينه، والدين معين مصالح الإنسان في الحياة، وإما ترعى مصلحة حياته، وإما ترعى مصلحة عقله أو مصلحة نسبه أو مصلحة ماله، هذا معنى قوله عز وجل: )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[. هذه الشرعة التي ترعى هذه المصالح أليست فيها مشاق؟ بلى. أليس فيها متاعب؟ بلى. أليس فيها ما يدعو الإنسان إلى أن يتسامى فوق غرائزه فوق مشتهياته فوق أهواءه. أليس فيها ما يحذره من أن يخلد إلى الأرض؟ بلى.

إذا فهمنا هذا أيها الإخوة فإياكم أن تؤخذوا وتغتروا بفتاوى يصدرها اليوم أناسٌ وقد حجبوا عن مشاعر الخوف من الله، فتاوى تصدر حسب الطلب كما قد قلت لكم، تحت اسم )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[ تحت اسم )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[ تحت اسم إن هذه الشرعة يسر كلها.

أصبح أكثر أنواع الربا حلالاً لا إشكال فيه - لا سيما في البلاد الغربية التي تعرفونها.

أصبحت الذبائح كلها ذبائح شرعية لا إشكال فيها.

أصبحت شرائع النكاح أمراً ميسراً أزليت الضوابط التي كنا نعرفها في أحكام دين الله عز وجل منها.

أصبحت الضوابط والآداب الإسلامية التي يأمر الله عز وجل بها النساء أمراً راحلاً مطوياً ... كل ذلك تحت اسم )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[.

ولعلكم تسمعون هذا الذي يقال.. فوجئنا أيها الإخوة بكتبٍ تصدر اليوم تحت اسم فقه الأقليات، لو أن هذا الفقه هو ذاته الذي ينبع من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان هنالك داعٍ إلى أن تؤلف كتبٌ جديدة تحت هذا الكلام، أي كتاب فقهيٍ يحدثك عن فقه الأقليات وغير الأقليات وما كان للشريعة الإسلامية أن تتطور وتتبدل يوماً لأناسٍ اسمهم الأقليات ثم لتستجيب لأناسٍ آخرين اسمهم الأكثريات. دين الله عز وجل واحد وأحكامه واحدةٌ سواءٌ رحل الإنسان بها إلى أقصى الغرب أو سار بها إلى أقصى الشرق، وقواعد الدين فيما يتعلق باليسر والعسر واحدة منذ فجر الإسلام إلى هذا اليوم، الضرورات تبيح المحظورات قاعدةٌ معروفة منذ عصر النبوة. لكن تعلم ما هي الضرورات؟ الضرورات شيء، والأمور التحسينية شيء آخر، والحاجات التي يهفو إليها الإنسان شيء آخر.

نحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى يبيح للصائم أن يفطر إذا كان مسافراً يبيح له أن يفطر إذا كان مريضاً، وفي هذا الصدد يقول الله: )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[.

نحن نعلم أن المريض إذا حُذر من استعمال الماء يجيز الله له التيمم. نعلم أن الإنسان الذي أشرف على الهلاك جوعاً ولم يجد أمامه إلا طعاماً محرماً يجوز له أن يتناول الطعام المحرم. نعلم أن الذي أكره على أن يقول كلمة الكفر وقلبه مطمئنٌ بالإيمان له أن يقولها، هذا معنى قول الله عز وجل: )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ

تحميل



تشغيل

صوتي