مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 23/03/2001

عندما يفتي الدجالون بالبقاء في دار الكفر

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنَّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله وتعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

ستمر بنا عمّا قريب ثانيةً ذكرى هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وستمر هذه الذكرى كما هي العادة بتواضعٍ وصمت في حين أن ذكرى عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية لا تمر إلا بطنين وضجيج كما تعرفون، ولو كان هذا التواضع أو الصمت الذي تمر من خلاله ذكرى هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، لو كان هذا التواضع مفسراً بخشية وبخشوع وتدبرٍ وذكرى إذاً لكان هذا موقفاً إيجابياً يُرضي الله سبحانه وتعالى لكنه صمتٌ أو تواضعٌ تفسره اللامبالاة تفسره عدم الاهتمام في حين أن عالمنا العربي والإسلامي ولا أتحدث عن العالم الغربي عندما يحتفي ويحتفل بذكرى رأس السنة الميلادية وعندما يستقبله بما يستقبله من ضجيج وطنين فإن هذا الضجيج إنما يُفسر بشدة الاهتمام. وإنها لمصيبة من أجل وأخطر مصائب عالمنا العربي والإسلامي، ضَمُرت ذكرى الهجرية النبوية ثم ضَمُرت وضَمُرت حتى تحولت إلى حالٍ مؤلمة من الهزال اقتضى معها أن يستقبلها العالم الإسلامي بلا مبالاةٍ وقدرٍ كبيرٍ من التواضع والصمت وإنما يُعبَّر عنه شعار واحد هو الشعار الرسمي الذي تترجمه العطلة. في حين أنَّ الأمر بالنسبة للجهة الأخرى على النقيض من ذلك، وإن دل هذا على شيءٍ فإنما يدل على سوء ارتباط هذه الأمة بمصدر عزها ومعين شرفها، وأنَّ المسلمين تحولت علاقتهم بالإسلام إلى علاقة انتماء انتماءٍ مجرد، هذه الظاهرة تعبيرٌ عن هذا الواقع المؤلم والمؤسف، ومع ذلك فلا مناص من أن نقف وقفة اعتبار ووقفة اهتمامٍ وذكرى أمام هذه العبرة التي تمر بالعالم الإسلامي في هذه المناسبة، لعل في المسلمين من يعتبر ولعل فيهم من يستيقظ من سباته من قادةٍ أو شعوب، والله سبحانه وتعالى هو ولي كل إصلاح.

أيها الإخوة هل كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه الذين سبقوه أو الذين تبعوه هل كانت هجرةً من مكانٍ إلى مكان؟ نُخطئ خطأً كبيراً إن تصورنا الأمر على هذا النحو فمكة المكرمة ليست أقل قداسةً وشرفاً من المدينة المنورة، وإنكم لتعلمون أن لكلٍ منهما مكانتَه عند الله سبحانه وتعالى، إذاً لم تكن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتواءً من مكان أو إعراضاً عن مكان ليستبدل به مكاناً آخر، وإنما كانت هجرته اجتواءً لمحرمات وابتعاداً عن تقاليدَ وعاداتٍ جاهلية بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحرر الجزيرة العربية والبشرية جمعاء منها، هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفواحش، هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم التقاليد الآسنة، هاجر الأعراف والعادات الباطلة، هاجر الشرك وألوان الكفر بالله سبحانه وتعالى، هذا معنى هجرة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وذلك هو المعنى الذي من أجله خُلِّدت هذه الذكرى وبهذا المعنى بقيت الهجرة مستمرةً إلى يوم القيامة ولن تنقطع أبداً. لو لاحظنا الهجرة من مكانٍ إلى مكان ينبغي أن نعلم أنه لا هجرة بعد الفتح كما قال عليه الصلاة والسلام، لكنها هجرةٌ باقية مستمرة يجب على المسلم كلما وجد نفسه محفوفاً بمنكراتٍ ومحرماتٍ لا يستطيع أن يقتحمها ويتغلب عليها يجب عليه أن يهاجرها إلى مناخٍ أفضل يُرضي الله ويُرضي رسوله ومن هنا فالهجرة باقية وماضية إلى يوم القيامة.

واليوم أيها المسلمون يتيه العالم العربي والإسلامي بقضه وقضيضه إلا النذرَ القليل مما رحمه الله سبحانه وتعالى عن هذا المعنى الذي ينبغي أن يكون العالم العربي والإسلامي أميناً عليه إلى يوم القيامة. أين هي هجرة المسلمين مما حرمه الله عز و جل؟ بل أين هي مغالبة المسلمين للمنكرات التي تحيق بهم وأين هو سعيهم لتطهير بلدانهم وقراهم وأماكنهم مما حرم الله سبحانه وتعالى بالنهج الذي شرعه الله وبالطريقة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها؟ عندما أعود بالذاكرة إلى هذا المعنى لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنظر إلى واقع المسلمين اليوم أجد شيئاً مؤلماً، أجد شيئاً يبعث الأسى والحزن والكرب في النفس، بدلاً من أن يكون المسلمون أُمناء على هذه الهجرة التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله و وصاياه نسلك في طريقٍ مناقض لذلك، عندما نجد أنفسنا في مجتمعات لا تتفق مع شرائع الله وأحكامه مجتمعاتٍ الإسلام فيها غريب نعمد إلى تذويب الإسلام لكي يخضع لسلطان تلك المجتمعات بدلاً من أن نهجر تلك المجتمعات.

ها أنتم ترون والعالمُ كله يرى كيف أن هنالك من يتخذ من نفسه صانعاً للفتاوى مختلقا ًلأحكام جديدة يدسها في شرع الله سبحانه وتعالى ودينه؛ لأن المسلمين اليوم في الغرب لم يعودوا يستطيعون أن يتخذوا من دين الله عز وجل منهجاً لهم هناك إذاً ينبغي أن تصدر الفتاوى المتتابعة بحل الربى وحل المعاملات التي حرمها الله عز وجل، ونظراً إلى أنَّ الإسلام غريب في تلك المجتمعات وأن المسلمين هناك لا يستطيعون أن يبنوا أسراً إسلامية على الطريقة الإسلامية التي شرعها الله إذاً فينبغي أن تصدر فتاوى جديدة تُبيح اقتران الكافر بالمسلمة ولا حرج، ونظراً إلى أنَّ الإسلام في تلك المجتمعات أضحى غريباً وأن المناخ مناخٌ غير إسلامي إذاً فينبغي أن تصدر فتاوى جديدة تغير من أحكام الله عز وجل وتجعل الاحتكاك بالمنكرات والعيش معها والجلوس إليها أمراً مباحاً لأنه لا يتأتى البقاء في تلك المجتمعات إلا على هذه الشاكلة، ونظراً إلى أن الإسلام قد أضحى هناك غريباً بل هو غريبٌ في أصله وأنَّ المسلمين لا يستطيعون أن يطبقوا شرعة الله في مأكلهم ومشربهم إذاً فينبغي أن نغض الطرف عن القيود والشروط التي شرعها الله عز وجل للذبائح والمأكولات وهكذا.

ننظر فنجد أنَّ أحكام الله عز وجل في تلك المجتمعات تذوب ثم تذوب كما يذوب الثلج تحت أشعة الشمس أو تحت ضرام النيران، وننظر فنتساءل ما الذي بقي من الإسلام لم تبقَ منه إلا الرسوم وإلا الأشكال لاحظوا النقيض القائم اليوم لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر وعندما علمنا الهجرة، رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى أن نهاجر المناخ الذي لا يصلح فيه الإسلام للتطبيق إلى مناخٍ آخر وإن كلفنا ذلك شططاً، يُعلمنا ذلك بسلوكه وبقوله، يعلمنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أيضاً بتطبيقاتهم وسيرهم وراء تعاليم رسولهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما نحن فنسلك طريقاً آخر، لا ما ينبغي أن نغادر المناخ السيء، وما ينبغي أن نسعى لمقاومته أيضاً بل الحل أن نغيِّر من دين الله وأن نُذيب أحكام الله سبحانه وتعالى كما قلت لكم وكما ضربت الأمثلة وإنها لأمثلة قليلة من وقائعَ كثيرة.

ما المعذرة ما المعذرة التي يعتذر بها أصحاب هذه الفتاوى المصطنعة المختلقة؟

المعذرة الضرورة لا مجال لعيشٍ كريمٍ باذخٍ في تلك المجتمعات إلا بتغيير أحكام الله عز وجل، ونظراً إلى أن العيش الباذخ ينبغي أن يبقى على حاله، ونظراً إلى أنَّ الهجرة في سبيل الله قد أُوصدت أبوابها قد أُوصدت أبوابها باختلاقٍ مبتدع قذر، نظراً إلى ذلك فإن الضرورات تُبيح المحظورات والضرورة ما هي؟ هي أن تبقى تلك الأسرة التي تعيش في رحاب الغرب تتمتع بحياة متألقة، تتمتع بحياةٍ آمنةٍ فارهة، تلك هي الضرورة. فانظروا إلى هذا النهج الذي يسلكه هؤلاء الناس، لا بل انظروا إلى الفتاوى التي تصدر بهذا المعنى، وانظروا إلى عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان رسول الله وأصحابه أولى بالبقاء في مكة وأن لا يهاجروا لأن ضرورتهم كانت أعتى من ضرورة هؤلاء الذين يتقلبون في حياةٍ فارهةٍ في مجتمعات أوروبا وأمريكا. هجرة المسلمين آنذاك كلفتهم ضرورات معيشتهم، كلفتهم أن يشردوا عن بيوتهم وأوطانهم، كلفتهم أن يغامروا بحياتهم، كلفتهم تمزق الأسر، زوجة تبقى في مكان وزوج يرحل إلى الله سبحانه وتعالى تلك هي ضرورة لو أننا تحدثنا عن الضرورة.

ومع ذلك هل قال قائلٌهم بمثل ما يُفتي به الدجالون اليوم أنه لا مناص من البقاء في دار الكفر ولا حرج في التقلب في المجتمعات المظلمة البعيدة عن أوامر الله وشرعته بسبب هذه الحاجات أو الضرورات. هل فعل رسول الله هذا؟ هل قال لهم بل ابقوا في مكانكم ذلك لأنكم مضطرون ولا عليكم أن تعيشوا غرباء عن دين الله سبحانه وتعالى لأنكم بحاجة إلى بيوتكم بحاجة إلى أوطانكم بحاجة إلى أسركم إلى وحدة الحياة الاجتماعية الاقتصادية في مناخكم هل قال هذا؟

بل أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلعوا رقة الدنيا كلها من أنفسهم وأن يرحلوا إلى الله سبحانه وتعالى عرايا عن المال عن الدار عن العقار وفي بعض الأحيان عن الزوجة والأولاد أيضاً، أجل هذه هي الضرورة ومع ذلك فقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نركل هذه الضرورة بأقدامنا لنرحل إلى الله كما قد أمر الله سبحانه وتعالى يرحل أحدنا إلى الله وهو يقول وعجلت إليك ربي لترضى. واليوم لا ضرورة تُلزم بل لا حاجة تقود وتسوق وإنما هي الرغبة في التوسع وإنما هي الرغبة في الحياة الرغيدة ذات الرفاهية.

من أجل هذا تُصنع الفتاوى المختلفة التي تُستبدل فيها أحكام الله سبحانه وتعالى ويتم فيها التلاعب بشرعة الله عز وجل قارنوا أيها الإخوة بين النقيض والنقيض إذا قارنتم أدركتم سبب ذل العالم الإسلامي اليوم، أدركتم سبب المهانة التي ضربت بجيرانها الأمم الإسلامية والمسلمين في مشارقهم ومغاربهم التي يعيشون فيها. كثيرون هم الذين يقرأون آيات في كتاب الله فيرون أنها ينبغي أن تنطبق عليهم ولكنهم يجدون أنها لا تنطبق فيتسائلون وربما دخلوا في أفئدتهم الريب يقف أحدهم أمام قول الله عز وجل )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ[ يقول قائلهم: ها هم الكفرة ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله لكنهم لم يُغلبوا ولم يُقهروا هاهم ينتصرون أين هو وعد الله سبحانه وتعالى؟ قولوا أيها الإخوة لهؤلاء المستشكلين الجواب في الآية التي تليها مباشرة )ليَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[ )ليَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ[ أرني الطيب لأريك كيف ينتصر الطيب على الخبيث، أين هو الطيب أين هو الطيب في المجتمع الإسلامي الذي تحولت صلته بالإسلام إلى انتماءٍ مجرد؟ أين هو الطيب في عالمنا العربي والإسلامي الذي يتبرم جله من الإسلام، قواعده أحكامه شرعته بل في كثيرٍ من الأحيان وعقائده أيضاً؟ لا تحدثني عن القلة، لا تحدثني عن النَزر اليسير بل حدثني عن الجمهرة الكبرى والكثرة الكاثرة أجل. ربنا عز وجل وَعَدَ أن يُغلب الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله لأنَّ أمامهم طيباً يقابل خبيثاً ولا بد أن ينتصر الله عز وجل للطيب ضد الخبيث ولكن لقد تداخلت الأمور في عصرنا اليوم تداخل الخبيث مع الطيب ولم تعد تستطيع أن تتبين أين يكمن الخبيث وأين يكمن الطيب وما هو الفرق الباقي بين الخبيث والطيب اليوم. إذا كان هنالك الذين يقودون عالمنا العربي والإسلامي من خلال العلم ومن خلال الدعوة ومن خلال الارشاد والتوجيه هؤلاء الذين كنا بالأمس القريب نظن أنهم هم الذين ينتشلون هذه الأمة من الضياع هم الذين يعيدونها بالإرشاد والتوجيه إلى النهج القويم وإلى صراط الله المستقيم وإذا بهم يعكفون على اصطناع فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان وإذا بهم يعكفون على اصطناع اللغو وعلى التشويه وعلى الاستبدال بدين الله سبحانه وتعالى إذا كان رب البيت بالطبل ضارباً فلا تلومنَّ الصبيان يوماً على الرقص.

هذا هو الواقع أيها الإخوة وإنني لأنظر يميناً وشمالاً فأحار أين هو مكمن الأمل في هذه الأمة؟ علماؤها وهذه هي قصة نموذج من هؤلاء العلماء الذين لا تسقط أقلام الفتية من أيديهم والفتية على قدر الطلب وعلى قدر الحاجة وعلى قدر في بعض الأحيان على قدر الفائدة التي تكمن وراءها. أم أنتجع الأمل من الشباب المتحرق على دين الله والتائه بين الفئات والجماعات المتناقضة المتصارعة؟ أم أعقد الأمل على القادة الذين يغرقون اليوم في المشكلات السياسية وفي المد والجزر التائه ما بين الشرق والغرب؟ المستعان هو الله والملجئ هو الله سبحانه وتعالى.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي