
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


الخرافة منشؤها التعصب وتربتها الجهل
الخرافة منشؤها التعصب وتربتها الجهل
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 09/03/2001
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد فيا عباد الله
إن من أهم ما شرف الله به عز وجل عباده إذ ارتضى لهم الإسلام ديناً، وامتنَّ عليهم بهذه الشرعة؛ كما لم يَمْتَنَّ عليهم بنعمة مثلها، وذلك عندما قال في محكم تبيانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة: 5/3] إن من أهم ما يعتز به المسلم أمام هذه النعمة التي امتنَّ الله عز وجل بها علينا؛ أنه جعل من هذا الدين صنوَ العلم، وأقام بينهما من التلازم البَيِّنِ ما لا انفكاك معه في أي عهد من العهود، فحيثما وجد العلم الحقيقي فإن الإسلام بكامل عقائده وشرائعه هناك، وحيثما فقد العلم الحقيقي الحقيقي؛ فإن الإسلام يكون مفقوداً معه.
ومن هنا كانت آيات البيان الإلهي عندما تناقش الشاردين والتائهين والملحدين والمنحرفين؛ لا تحاكمهم إلا إلى ميزان العلم، ولا تقودهم إلا إلى بينات الحقائق العلمية، ومن ثَمَّ فإن الخرافة ما كانت في يوم من الأيام لتزدوج أو لتعيش مع الإسلام بشكل من الأشكال، وهذا مما نحمد الله عز وجل عليه، ومما يبعث كلّ مؤمن على أن يرفع رأسه بهذا الدين عالياً، ولكن هنالك من يحاول قاصداً أو غير قاصد، عالماً أو جاهلاً أن يلصق بالإسلام ما ليس فيه، وأن يسرّب إليه أموراً من الدّجل والخرافات التي جاء الإسلام ليقاومها، وجاء الإسلام ليطهّر عقولَ النّاس منها.
وأضعكم أمام شيء ذهلت له - أيها الإخوة - أوضح لكم أولاً هذه الخرافة التي رُوّجت، وليت أنها روّجت عن طريق ألسن وفي مجالس شعبية، ولكنها روّجت عن طريق الإعلام السّوري، ويغفر الله لإعلامنا السوري والقائمين عليه، جاءَ من يقول - والناس كلهم يسمعون ويرون -: إن الذبيحة عندما تقدم للذبح إذا كُبِّر عليها استسلمت للذبح، وانساقت طواعية إليه، وأما إذا لم يكبَّر عليها فلابدّ أن تثّاقل إلى الأرض، ولابدّ أن يعاني الذّابح لجذها ولإخضاعها للذبح، لابد أن يعاني من ذلك ما شاء الله له أن يعاني، ثم إنَّ هذه الدابّة إذا كُبِّر عليها عند الذّبح تطهَّرت من كل الجراثيم التي يمكن أن تتسرب إليها، وأما إذا ذبحت دون أن يكبر عليها فلسوف تتحول إلى بؤرة جراثيم، وجاء من يري النّاس قطعة لحم عن اليمين وقطعة لحم أخرى عن اليسار، وأخذ يبيّن ويدّعي أن الأولى كبر عليها فهي طاهرة بعد التحليل من كل الجراثيم، والأخرى لم يكبَّر عليها فها هي ذي بؤرة للجراثيم. هذا هو باختصار أيها الإخوة الكلام الذي نقل لا ضمن بلدتنا هذه، بل روّج إلى العالم كلّه عبر قناتنا الفضائية.
أيها الإخوة! تعالوا نصغِ الآن إلى أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالذّبح، هل يُسنُّ التكبير على الذبيحة قبل كل شيء؟ هل هنالك قرآن أو سنة أو عالم من العلماء قال: يُسن التكبير على الذبيحة؟
حكم الذبيحة باختصار أيها الإخوة هو ما قد قاله الله عز وجل: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: 6/121] إذن يُسن عند الذبح أن يقول الذابح: بسم الله، وأن يصلي على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن نسي التسمية وذبح بدون أن يتحرك لسانه بالتسمية ولا بالصلاة على رسول الله فهي ذبيحة مذكاة طاهرة تؤكل بالاتفاق. ولكن إذا تعمد الإنسان أن لا يذكر اسم الله عليها: فقد ذهب السادة الحنفية إلى أنها لا تؤكل. وخالفهم الجمهور فقالوا: بل تؤكل، أجل.
أما التكبير عليها فما قال ذلك أحد. لا القرآن ذكر هذا، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هذا، ولكن الفقهاء قالوا: يسنّ عند ذبح الأضحية أن يضيف إلى التسمية التكبير لأن الأيام أيام تكبير. من أجل هذا فلئن كان هذا الذي قاله هؤلاء في إعلامنا السوري صحيحاً إذن فالشريعة الإسلامية مقصرة، والشريعة الإسلامية جهلت حيث علم هؤلاء الناس، لأن الشريعة الإسلامية لم تأمر ولم توصِ ولم تحدّث عند الذبيحة التكبير عليها باستثناء الأضحية، وللسبب الذي ذكرته لكم، لأن الأيام أيام تكبير، لا لشيء آخر غير هذا.
أيها الإخوة! من جاءت هذه الخرافة التي سرت في مشارق الأرض ومغاربها وياللأسف؟! جاءت من الجهل بدين الله أولاً، ثم جاءت بسبب الجهل بحقائق العلوم التي يحتضنها إسلامنا ثانياً، هذا الذي قال هذا الكلام علق بذهنه ما قد علق بذهن العوام من الناس من أن الذبيحة ينبغي أن يُكبر عليها، نحن نعلم أن العوام من الناس رجالاً ونساءً يقولون: هذه الذبيحة كبر عليها، وهذه لم يكبر عليها. إذن: (هذه كبر عليها فهي مذكاة) اصطلاح عامي راج بين الناس في حين أن التكبير ليس شرطاً وليس مندوباً وليس مستحباً بالنسبة للذبيحة العامة المطلقة، هذا شيء.
الشيء الآخر الذي هو مبعث هذه الخرافة التي أسيء فيها إلى دين الله عز وجل أيما إساءة، مبعث هذه الإساءة العصبية أيها الإخوة، العصبية للذات، العصبية للجماعة، العصبية للفئة، هذه العصبية القتّالة تدفع كثيراً من الناس في كثير من الأحيان إلى أن يضحوا بالإسلام في سبيل العصبية التي يعتزون بها، لا حرج عندهم في أن يمزَّق الإسلام وأن يتم التلاعب بدين الله عز وجل انتصاراً لهذه العصبية، من الذي تنبّه إلى هذا الأمر الخطير أن قطعة لحم كُبِّر عليها طهرت من كل الجراثيم، وقطعة لحم لم يكبر عليها تحولت إلى بؤرة للجراثيم؟ نقلوا هذا من رجل نعتوه بالعلاّمة، ويجب أن أذكر اسمه وضعاً للنقاط على الحروف، نقلوه عن العلامة أمين شيخو، والعلامة أمين شيخو هذا –أيها الإخوة –أعرفه توفي وانتقل إلى رحمة الله تعالى منذ ما لا يقل عن خمسة وخمسين عاماً. منذ أكثر من خمسين عاماً كان شُرَطيّاً، كان أميّاً لا يقرأ لا يكتب، وكان رجلاً من المستقيمين، من المتعبدين من السائرين - إن شاء الله عز وجل على صراط الله عز وجل، لا أكثر من هذا. وينعت بعد وفاته ويتحول بعد وفاته بسنوات إلى العلاّمة الجليل الذي يكتشف الحقائق التي لم يكتشفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يأمرنا بأن نكبر على الذبائح، والذي اكتشف من الحقائق العلمية ما لم يكتشفه الأطباء المخبريون ولا أحد من الناس، كل هذا ذكر ليتم من ذلك ترويج لجماعة معينة ولفئة معينة، وليكن ثمن هذا الترويج التلاعب بدين الله، وليكن ثمن هذا الترويج أن يأتي كثير من أعداء الله عز وجل فيوظفوا هذا الخبر الذي انتشر للاستهزاء بدين الله، وللسخرية بشريعة الله، وللاستخفاف بأحكام الله سبحانه وتعالى، وقد حصل هذا وتم ذلك.
عندما تهيمن العصبية عليِّ التي تدعوني إلى أن أنتصر لذاتي، فَحَدِّث عن الانحراف الذي تسوقني إليه هذه العصبية ولا حرج، تحدّث عن الشرودِ عن دين الله عز وجل الذي تدفعني إليه هذه العصبية ولا حرج، تصوَّرْ ولا حرجَ كم أستخدمُ الإسلامَ كمنديلٍ من أجل أن أجعل عصبيتي تتألّق بأعين الناس، ولا حرج أن ألقي منديل الإسلام ظهرياً ورائي بعد ذلك.
أجل أيها الإخوة كان ينبغي أن أقول هذا الكلام لكم لتعلموا أمرين اثنين:
الأول: أن يكون كلٌّ منكم ذا زادٍ من الفقه بدين الله عز وجل، كل مسلم ينبغي أن يتحلّى بجامع مشترك من الدراية بأحكام لله، كلٌّ منكم مُعَرَّضٌ أن يذبح غداً ذبيحة، إذن ينبغي أن يعلم: ماهي شروط الذبح؟ وماهي سنن الذبح؟ لو أن كل مسلم عرف هذا لما استطاعت هذه الخرافة أن تروج بشكل من الأشكال. لو عرفتم أيها الإخوة جميعاً، ولو عرف الناس جميعاً أنه لا القرآن ولا سنة رسول الله ولا الخلفاء الراشدون ولا أحد من أئمة الشريعة الإسلامية ذكر أنه يجب التكبير على الذبيحة، أو أنه يُسن التكبير على الذبيحة، إذن لصمت هؤلاء الناس المخرفون. ولكن كثير منا اليوم ينتمي إلى الإسلام ويكتفي من سيره إلى الله عز وجل بهذا الانتماء، ولكن الإسلام دين العلم أيها الإخوة دين العلم.
الأمر الثاني الذي ينبغي أن تعلموه أن الإسلام قرين العلم، وأن الإسلام لا ينفك عن العلم لافي عقائده ولا في تشريعاته وأحكامه بشكل من الأشكال، لو كان هذا الكلام صحيحاً لكان الإسلام أول من يأمر بالتكبير على الذبيحة، ولما اكتشف هؤلاء الناس هذه الضرورة من حيث لم يكتشفها الإسلام،أجل.
الشيء الآخر الذي ينبغي أن أقوله، هي أنني أعتب على إعلامنا السوري، وأقول عفا الله عن القائمين بأمر هذا الإعلام، مرت فترة كان إعلامنا يضن ببث الحقائق الإسلامية السليمة خوفاً من أن تتسرب إليها خرافة، واليوم نفتح أعيننا وإذا بالخرافة التي لا علاقة لها بالإسلام تبث وبدون رقابة وبدون أي نظر. هل تتصورون أيها الإخوة الآثار التي ستنجم؟ ألا تعلمون كم في المجتمع الإسلامي من متربصين بدين الله؟ ألا تعلمون كم في مجتمعنا الإسلامي من أناس ينتظرون أن يجدوا رائحة لخرافة تسربت إلى الإسلام؛ ليقبلوا على هذه الظاهرة وليجعلوا منها ورقة رابحة يقومون ويقعدون بها؟ ألا تعلمون أن هنالك من سيكتب ويعلق على هذا الكلام في جرائد سيارة؟ ألا تتوقعون وتعلمون أن هنالك أقنية ستلتقط هذا الكلام غداً، ولسوف ترّوجه لا باسم زيد الذي أخطأ وخرّف فقال هذا الكلام، لا بل باسم الإسلام؟ هذه هي النتيجة، أجل.
أنا أرجو باسم كل مسلم في هذه البلدة من إعلامنا العريق العتيد الذي أعتز به إلى الآن، أن يسعى جاهداً - إعلامنا هذا - إلى أن يغطي هذه الخطيئة التي روجت وانتشرت بغطاء علمي حقيقي، يوضح للناس حكم الشرع فيما يتعلق بالذبح، وبراءة الإسلام والشرع من الأمر بالتكبير على الذبيحة، أو من استحباب التكبير على الذبيحة، كذلك أطلب من علمائنا المخبريين أن يقفوا موقف القاضي النزيه في بيان بُعْدِ هذا الكلام عن العلم، بُعْدِ هذا الكلام عن الواقع، لو كان التكبير يطهر الذبيحة من الجراثيم إذن لكان في التكبير وسيلة رائعة جداً لتحويل الميتة إلى طعام طيب يؤكل بواسطة التسمية عليها.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يجعلنا نسمو في انتمائنا الإسلامي إلى مستوى التفقه بدين الله إلى مستوى معرفة الجامع المشترك لأحكام شريعة الله سبحانه وتعالى، وأن يلهمنا جميعاً أن نعلم أن الإسلام كان ولايزال صنو العلم، ليس في الإسلام خرافة، ليس في الإسلام شيء، يتعارض مع حقيقة علمية، كيف؟ وكيف يتعارض والحقائق العلمية؟ إنما غرسها الله عز وجل قوانين في كونه؟ والإسلام هو دين الله سبحانه وتعالى الذي أنزله على كونه، وأمر به عباده.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.