مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/02/2001

‏الدعاء الدعاء لأمتكم يا حجاج‏

‏الدعاء الدعاء لأمتكم يا حجاج‏


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 16/02/2001


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


إن من الشعائر الإسلامية التي تزدهر مع الزمن ولا تذبل‏،‏ وتقوى ولا تضعف‏،‏ وتتقدم ولا تتراجع‏،‏ شعيرةُ الحج إلى بيت الله الحرام‏،‏ إن المتتبعين للأعداد المتكاثرة التي تتجه في كل موسم من مثل هذا الموسم الذي نحن فيه متجهة إلى بيت الله الحرام‏؛‏ ربما يرى شيئاً عجباً‏،‏ وربما يرى ما يبعث في كيانه النشوة والطرب‏،‏ في كل عام يزداد العدد‏،‏ يبلغ العدد ما بين المليون والمليونين‏،‏ ثم إنه يتجاوز المليونين‏،‏ وربما وصل هذا العام العدد إلى ما يقارب ثلاثة ملايين‏،‏ من يدري‏؟‏ والذين ينظرون إلى مشاهد هذه الكثرة وهم في بيت الله الحرام‏،‏ أو في ذُرى عرفة‏،‏ أو في أي بقعة من البقاع التي يؤدون فيها شعائر الحج‏،‏ يرون شيئاً يبعث الطرب في النفس‏،‏ ويبعث الإعجاب في المشاعر‏.‏


ولكن كلٌّ منا يتساءل‏‏ أين هي آثار هذه الكثرة‏؟‏ وأين هي نتائج هذه العبادة المتميزة الفريدة من نوعها‏؟‏ وأين هو سلطان هذه الملايين التي تطوف مجتمعة حول بيت الله العتيق‏،‏ وتهتف بعقيدة واحدة وبنداء واحد‏؟‏ أين هي آثار ذلك‏؟‏ أين هو التيار الذي ينبغي أن يتجمّع من وراء ذلك كله‏؟‏ ويبحث المتسائلون فلا يرون أثراً إيجابياً لتساؤلهم‏،‏ وأحسِب أن النشوة عندئذ تتبدد‏،‏ وأن الطرب يَحُول أو يستحيل إلى أسىً وحزن‏.‏


لابد أن نتذكر أمام هذا المشهد مع هذا التساؤل قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأبو داوود بأكثر من طريق واحد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال‏:‏ ﴿‏يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها‏ قالوا أمن قلة نحن يارسول الله يومئذ‏؟‏ قال عليه الصلاة السلام‏:‏ ‏بل أنتم يومئذ كثير‏،‏ ولكنكم غثاء كغثاء السيل‏،‏ ولينْزِعَنَّ الله الرهبة منكم من قلوب أعدائكم‏،‏ وليقذفَنَّ في قلوبكم الوهن‏‏ قال قائل‏:‏ ما الوهن يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏﴿‏حب الحياة أو الدنيا وكراهية الموت‏﴾‏‏.‏ لابد أن تُفَسَّرَ هذه الكثرة التي تبعث في بادئ الأمر النشوة والطرب إلى جانب هذه النتائج المؤلمة والمؤسفة‏،‏ لابد أن يذكِّرنا ذلك بكلام سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا‏.‏ وإنها لخارقة من خوارقه‏،‏ وإنها لدليل باهر على ما قد أوحى الله به إليه من أنباء الأحداث المقبلة التي لم يكن يعرفها أحد آنذاك‏.‏


ماذا نقول أيها الإخوة أمام هذا الواقع وأمام هذا التساؤل‏.‏ والجواب الذي يفرض نفسه عن هذا التساؤل‏؟‏ أنقول لهؤلاء الذين يتجهون من شرق العالم وغربه وشماله وجنوبه إلى بيت الله الحرام‏،‏ أنقول لهم‏:‏ عودوا فإن حجكم غير مقبول‏،‏ وغير ذي جدوى‏؟‏ معاذ الله‏،‏ هي شعيرة من أكبر الشعائر‏،‏ وهو ركن من أعظم أركان الإسلام‏،‏ وحسبكم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال عن الحج المبرور فيما صح عنه‏:‏ ﴿‏الحج المبرور ليس له من جزاء إلا الجنة‏﴾‏ وهذا الأسلوب من المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أسلوب يؤكِّد قبول هذا الحج‏،‏ إذا كان الحج مبروراً فلا شك أن الله يقبله‏،‏ ومن ثم فلا شك أن جزاء هذا الحج إنما هو الجنة‏.‏ لا نقول هذا بل نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في هذه الشعيرة وأن يزيدها مع الزمن ازدهاراً وأن يرزق المتجهين إلى ذلك البيت الحرام الإخلاص لوجه الله عز وجل‏،‏ والحرقة التي تستنزل رضا الله سبحانه وتعالى ورحمته‏،‏ أجل‏.‏ ولكنا نقول لهؤلاء الذين يتجهون حجاجاً إلى بيت الله الحرام‏،‏ نقول لهم‏:‏ إذا اتجهتم بتوفيق من الله عز وجل إلى هذا الطريق فارجعوا إلى قلوبكم وتلمسوا فيها جذوة الإخلاص لله سبحانه وتعالى‏،‏ أخرجوا من نفوسكم كل غرض دنيوي قد تسرب من حيث لا تشعرون‏،‏ صَفُّوا سرائركم‏،‏ صَفُّوا نياتكم‏،‏ واجعلوا قدومكم إلى الحج كقدومكم إلى الله يوم يقوم الناس لرب العالمين‏.‏ فإذا أكرمكم الله عز وجل بهذا القصد الخالص لذاته‏،‏ الصافي عن الشوائب‏،‏ وبدأتم بالدخول في أعمال الحج ومناسكه‏،‏ فلا تنسوا وأنتم تتجهون إلى الله عز وجل بالدعاء الضارع لأنفسكم‏،‏ لا تنسوا أن تتجهوا بالدعاء الضارع إلى الله لأمتكم‏،‏ لا تنسوا أن تتجهوا بالدعاء الضارع كلما رأيتم أن تجليات الله سبحانه وتعالى تتجه إلى الحجيج أو إليكم برحمة تستشعرونها‏،‏ بلطف تحسونه وتدركونه‏،‏ لا تنسوا أن تتجهوا إلى الله بدعاء منكسر لهذه الأمة التي تشرذمت بعد اتحاد‏،‏ وما تشرذمت إلا لأن الأهواء هي التي شردتها عن صراط الله‏،‏ ولأن المنافسات الدنيوية هي التي أبعدتها عن حمى الله سبحانه وتعالى‏.‏ ادعوا الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة التي طاب لها أن تستخرج بكل تكلف أسباب الخلاف‏،‏ أسباب الشقاق‏،‏ وأن تدفن وراء تحت قدمها‏،‏ أو تلقي وراءها موجبات الاتفاق‏،‏ موجبات الوحدة والتآلف والتضامن‏،‏ ادعوا الله سبحانه وتعالى لأمتكم هذه التي ظهرت فيها فتن كثيرة‏،‏ ولكن من أخطر هذه الفتن أناس طاب لهم أن يتلاعبوا بشرع الله‏،‏ كلما اتجه إليهم استفتاء وكلما اتجه إليهم سؤال عن دين الله عز وجل‏،‏ كان المفتون بالأمس إذا سُئلوا عن دين الله عز وجل سرت رعدة من الله عز وجل من فرق الواحد منهم إلى قدمه‏،‏ لأنه قد وقف موقف المتحدث عن الله‏،‏ المتكلم عن شريعة الله‏،‏ أجل‏،‏ تُرى هل سيتكلم بالحق الذي يتفق مع ما قد شرع‏؟‏ أم سيتيه ويَضِل فيما يقول عن صراط الله عز وجل‏؟‏ وكم وكم من مفتين تلجلجت ألسنتهم فلم يستطيعوا أن يُبِيْنُوا جواباً عندما سُئلوا‏،‏ ورحم الله مالكاً إمام دار الهجرة يوم جاء رجل من أقصى المغرب وهو يحمل له طائفة كبيرة من الأسئلة‏،‏ أجابه عن بعض منها‏،‏ أما البقية وهي تربو على ثلاثين سؤالاً قال عنها‏:‏ لا أدري‏.‏ قال له الرجل جئت إليك من المغرب مرسَلاً إليك لأسألك عن هذه المسائل‏،‏ فماذا أقول لهم إن عدت بعد هذا الجهد الكبير‏؟‏ قال له‏:‏ قل لهم يقول لكم مالك‏:‏ لا أدري‏.‏


اليوم أيها الإخوة ظهرت فقاقيع من المتكلمين عن الله والمتحدثين عن شرع الله سبحانه وتعالى‏،‏ يغمض أحدهم العين ويتكلم بالذي يطيب له من الكلام‏،‏ ما الذي تقتضيه المصلحة‏؟‏ ما الذي يقتضيه واقع العلاقة بينه وبين هؤلاء الناس‏؟‏ ما الذي تقتضيه وظائفه‏،‏ مصالحه الدنيوية‏؟‏ ما الذي يقتضيه مركزه‏؟‏ يا لله‏!‏ كل المصالح أصبحت في واجهة مُعْلنة من العقل والذهن إلا الخوف من الله سبحانه وتعالى‏،‏ فقد أصبح شعوراً غائباً عن الذات‏.‏ ادعوا الله سبحانه وتعالى أن يصلح حال هذه الأمة وأن يكرمها بمَن إذا أفتوا راقبوا الله‏،‏ بمن إذا أفتوا ذكروا ضجعة القبر‏،‏ بمن إذا أفتوا ذكروا وقفتهم بين يدي الله سبحانه وتعالى‏.‏


أقول لهؤلاء الإخوة المتجهِين إلى بيت الله الحرام‏،‏ أقول لكل واحد واحد واحد منهم‏:‏ إذا وقفْت متشبثاً بأستار الكعبة‏،‏ أو إذا صليت ركعاتك وطاب لك الدعاء في سجودك‏،‏ أو إذا وقفت على الصفا أو المروة ورأيت رِقَّة بين جوانحك دعتك إلى مناجاة الله ودعائه‏،‏ فاسأل الله عز وجل لحكام هذه الأمة الإسلامية عوداً حميداً إلى دين الله‏.‏ اسأل الله سبحانه وتعالى أن يملأ قلوبهم بالـحُرقة‏،‏ أن يملأ قلوبهم بحُرقة الحنين للانتصار لدين الله‏،‏ اسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمهم عوداً حميداً إلى صراط الله عز وجل‏.‏ سل الله عز وجل أن يوقظهم إلى أن المهمة الأولى التي أقامهم الله عز وجل عليها هي خدمة هذا الإسلام‏،‏ هي خدمة هذا الدين‏،‏ وكل شيء وراء ذلك جَلَل‏.‏ ادع الله سبحانه وتعالى لحكام المسلمين أن يجتمع شملهم بسائق من الإخلاص المتحرّق على دين الله عز وجل‏،‏ فإن هذا الإخلاص إذا وُجِد حطّم أسباب الاختلاف‏،‏ وازدهرت من وراء ذلك أسباب الاتفاق فيما بينهم‏.‏


هذا ما أقوله للحجيج المتجهين إلى بيت الله الحرام‏،‏ وكل ما أتصوره أن الإخلاص إذا نما بين جوانحهم وأن الحرقة الصادقة إذا صَفَّتْ أفئدتهم من الشوائب فإن الدعاء سيكون مستجاباً‏،‏ وكيف لا‏؟‏ والله عز وجل هو القائل‏:‏ ‏﴿‏وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ‏﴾‏ ‏[‏غافر‏:‏ 40‏/‏60‏]‏‏.‏


وأغلب الظن أننا لن نجد في هذا العصر شفعاء يشفعون لنا عند الله عز وجل بين يدي تقصيرنا‏،‏ يشفعون لهذه الأمة أمام الخطر الداهم المتجه إليها من أعدائهم‏،‏ يشفعون لهذه الأمة التي تناثر عِقْدها بعد أن كان مجتمِعاً‏،‏ يدعون لهذه الأمة أن يلهم حكامها الرجوع إلى صراط الله‏،‏ الإخلاص لدين الله‏،‏ لا أن يُخْلِص كل واحد منهم لمصلحته‏،‏ لا أن يسعى سعيه إلى أن يجمع حُطامِ الدنيا تحت إبطه‏،‏ هؤلاء إذا دَعَوُا الله أرجو وأسأل الله أن يجعل منهم شفعاء لهذه الأمة‏،‏ وأن يكونوا سبباً لحل معضلاتها وإزالة مشكلاتها‏.‏


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم‏.‏


 

تحميل



تشغيل

صوتي