
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 02/02/2001
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد فيا عباد الله
إن النعم التي يمتَنُّ الله عزَّ وجلَّ بها على عباده في القرآن كثيرة ومتنوعة، ولكنك لن تجدَ نعمة يمتَنُّ الله سبحانه وتعالى بها على عباده ويُبْرِزُ من خلالها حبَّه لهم وإكرامَه لهم؛ كالنعمة التي تجدها في قول الله سبحانه وتعالى؛ وهو يخاطب عباده جميعاً: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة 5/3].
لو تأملنا هذا الكلام بهذا الأسلوب، بهذه الطريقة؛ لرأينا من خلالها عجباً، عجباً من دلائل محبة الله عز وجل لعباده، إذ يقول لهم: لقد أحببت لكم هذا الثوب، رضيت لكم هذا النهج، أحببته لكم، أي لم أجد خيراً منه لصلاح معاشكم ومعادكم، تخيّرت بين كل السبل والمناهج والفلسفات، لم أَجِدْ سبيلاً يسعدكم ويصلح حالكم كهذا السبيل؛ سبيل الإسلام، ومن ثَمَّ فقد أحببتُ لكم هذا النهج. ثم يقول: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ أي إنَّ كل النِّعم التي أكرم الله بها عباده ناقصة، كل المِنَنِ التي أكرمهم بها ومتّعهم بها، سواء من ذلك؛ أو في ذلك نعمة العافية، أو نعمة المال، أو العلم، كلّ ذلك نعم عدّدها الله عز وجل، لكنّها تظلُّ ناقصة إلى أن جاءت نعمة الإسلام فتوّجتها وأتمّتها ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾.
ولو أن العبد المؤمن بالله عز وجل لم يكن عبد سوء، وكان وفيّاً مع الله سبحانه وتعالى يبادله حباً بحب، إذن لعلم عظيم نعمة هذا الدين الذي توّجنا الله سبحانه وتعالى به، ولرفع الإنسانُ رأسه بهذا الدين عالياً، إلى أن يلقى الله سبحانه وتعالى وهو عنه راضٍ.
ولعلكم جميعاً تلاحظون أن هذا الذي ارتضاه الله لنا من هذا الدين الذي شرّفنا به؛ لم يرتضِهِ لنا ولم يحبَّهُ لنا لفائدة تعود إليه، معاذ الله أن يتصور عبد من عباد الله ذلك، ولكن الله يقول: إنه أحبّ لنا هذا الدين، ورضي لنا هذا النهج، لأنه هو الذي يضمن الخير لنا، ولأنه هو الذي يحقِّق مقوِّمات السعادة كلها التي يطمح إليها الإنسان، ويحلم بها في هذه الحياة الدنيا، فضلاً عن الحياة الآخرة. وليس هنالك إنسان آمن بالله، ووثق بحكمة الله وبصدق الله؛ إلا ويدرك مِنْ هذا الذي يقوله الله عز وجل لنا أن الإسلام فعلاً هو السبيل الأوحد لسعادة هذه الأمة، لاسيَّما نحن الذين شرَّفنا الله سبحانه وتعالى، إذ جعل رسوله محمداً صلّى الله عليه وسلّم من هذه الأمة العربية، وجعل كتابه ينطق ويخاطبنا بهذه اللغة العربية، هذه حقيقة ينبغي أن لا يتيه عنها إنسان عاقل عرف الله سبحانه وتعالى، وعرف نفسه عبداً لله عز وجل.
واليوم نحن نعيش أيها الأخوة، نتقلب في أحلام من أمورنا التي نريد أن نطوّرها، نريد أن نصلحها، نريد أن نُقَوِّمَ اعوجاجها، ألَمْ يأنِ لنا أن نربط بين هذه المشكلات التي نريد أن نحلّها وبين هذا الإسلام الذي ارتضاه الله لنا؟ أَلَمْ يأنِ لنا أن نعلم أن الأمراض التي نعاني منها الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، المتنوعة المختلفة ليس لها إلا دواء واحد هو دواء هذا الإسلام الذي ارتضاه الله عز وجل لنا؟ عجيب أيها الإخوة حال المسلمين، المسلمين الذين يقرؤون هذا الكلام ويرون هذا التحبب من الله عز وجل لعباده، ثم يلتفتون إلى مشكلاتهم التي كادوا أن يختنقوا فيها، فلا يتنبهون إلى ضرورة أن يجعلوا من هذا الدين الذي ارتضاه له منهاجاً لمشكلاتهم. أمر غريب وعجيب جداً، أيها الإخوة نحن نعاني من مشكلات اقتصادية، ومجتمعنا يقوم ويقعد بالحديث عن السبل المختلفة المتنوعة كلها، نعاني من مشكلاتٍ اجتماعيةٍ متنوعةٍ، وكلنا على اختلاف فئاتنا وطبقاتنا نقوم ونقعد بالبحث عن السبل لحلها، نعاني من مشكلات علمية في الوقت الذي يتقدم فيه العالَمُ صُعُداً، ونقوم ونقعد بحثاً عن السبل التي تحل مشكلاتنا، وتعتقنا من تخلفنا، نعاني من مشكلات تتمثل في الضعف بعد القوة، ونحاول صباحَ مساءَ أن نبحثَ عن العلاج الذي يُكسبنا القوة بعد هذا الضعف، نتحدث عن مشكلاتِ تَفَرُّقِنا، ونقوم ونقعد ونحن نبحث عن العلاج الذي جمعنا من نثار، ويؤلف فيما بيننا كما كنا في عهد مضى، دون أن نتنبّه على المستويات كلها إلى أن الله وضعنا أمام علاج، وأنبأنا أنه ارتضى لنا هذا الدين علاجاً لكل هذه المشكلات.
أفيعقل أن يكون الإنسان بصيراً بشأنه، مؤمناً حقيقةً بربه، ثُمَّ يكون بهذه الحالة العجيبة، يفرّق بتكلف بين الداء الذي يضعه في الشرق، والدواء الذي يبعده عنه ويضعه في أقصى الغرب؟ وقد قرن الله عز وجل بين الداء والدواء، ووضع هذا إلى جانب ذاك؛ أمورنا الاقتصادية، مشكلاتنا العلمية، الثقافية، الاجتماعية، مشكلاتنا المتمثلة في التفرق، لا يمكن أن يحلها - ونحن المسلمين - إلا هذا الإسلام الذي ارتضاه الله عز وجل لنا.
وإليكم الدليل المنطقي الذي ينطق بهذا الذي لا أقوله أنا لكم، بل يقوله سبحانه وتعالى لنا، كل هذه المشكلات التي نقوم ونقعد بها اليوم تحتاج إلى:
أولاً التعاون: لابد لحل أي مشكلة من المشكلات التي تسمعون عنها، أو تقرؤون عنها، أو تقومون وتقعدون بالحديث والأصداء عنها، لابد لها من خطوة أولى تتمثل بالتعاون.
والتعاون لابد فيه من شيوع الثقة، لا يمكن لثلاثة أن يتعاونوا إلا إذا امتدت بينهم شبكة الثقة، دون ثقة لا يتحقق التعاون.
والثقة كيف تتحقق؟ لا يمكن للثقة أن تشيع بين هؤلاء الأفراد بين هؤلاء الثلّة إلا إذا قامت ونهضت هذه الثقة على أرضية من الأخلاق، الأخلاق الفاضلة.
الأخلاق الفاضلة هي تربة الثقة بين هؤلاء الناس، والثقة هي تربة التعاون. من وجود الأخلاق الفاضلة؛ تمتد شبكة الثقة، ولدى وجود شبكة الثقة يتحقق التعاون، وعندما يتحقق التعاون الراسخ على هذا النهج؛ تحلّ هذه المشكلات، مشكلة الاقتصاد تحل بهذه الطريقة، مشكلة التخلف العلمي الثقافي الحضاري تُحلُّ بهذه الطريقة، كل المشكلات تحلُ عن هذا الطريق.
ولكني أسألكم من أين نستطيع أن نحقق الأخلاق الفاضلة؟ وتحت أي مظلة تتحقق هذه القيم؟ وكيف السبيل إلى أن يكون أفراد هذا المجتمع متخلقين بالأخلاق الفاضلة التي تعرفونها؟ يؤثرون على أنفسهم بدلاً من أن يؤثروا أنفسَهم على غيرهم، يضحّون، تمتد فيما بينهم وبين إخوانهم شبكة الودّ، شبكة القربى، يتآلفون، من أين تأتي هذه القيم؟ الأخلاق الراسخة الفاضلة كيف السبيل إلى أن تمتد من مَعِينِ القلوب، إلى القلوب؟ كيف السبيل؟ لا سبيل إلى ذلك أيها الإخوة إلا عن طريق مَعِينٍ ومصدرٍ واحد لا ثاني له، ألا وهو معين الدين الحق، معين الإيمان، معين الإسلام لله سبحانه وتعالى، فإذا اصطبغت هذه الثلة - قَلَّتْ أو كثُرَتْ - بدين الله سبحانه وتعالى، وهيمن هذا الدين على عواطفهم، بعد أن هيمن يقيناً على عقولهم؛ فلابد أن تتشذب الأخلاق السيئة مما بينهم، ولابد أن تحلّ محلها الأخلاق الفاضلة. ذلك لأن رقابة الله عز وجل وجدت، ولأن الأفئدة أصبحت أوعية لمحبة الله، لتعظيم الله، وكل ذلك من شأنه أن يَطْرُدَ الأخلاق السقيمةَ المنحرفةَ الفاجرةَ، ولابدَّ أن تحلّ محلّها الأخلاق الفاضلة.
وفيمَ أكرمنا الله بهذا الدين؟ لماذا؟ إنما أكرمنا الله بهذا الدين من أجل أن تعمر الأخلاق الفاضلة أفئدة هذه الأمة ﴿إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق﴾، فإذا غاب الدين غابت الأخلاق الراشدة، إذا غاب الدين من كياني لا يمكن أن أعامِلَكَ إلا بما تقتضيه مصلحتي الشخصية الآنية السريعة، سأكذب عليك، سأخونك، سأَخْتِلُ وأُخادع في معاملتي لك، سأضع في طريقك المطبّات، وسبل الخديعة متنوعة مختلفة، ولسوف تعاملني إن فرغ فؤادك من الدين وغابت معانيه من كيانك ستعاملني بالطريقة ذاتها، ومن ثَمَّ - وقد غابت الأخلاق - ستغيب الثقة أيضاً، لن أَثِقَ بك ولن تثق بي، فمن أين يأتي التعاون بعد ذلك؟ من الذي يجهل هذه الحقيقة أيها الإخوة؟ هل هنالك عاقل يجهل هذا المعنى الذي أقوله؟ ليس في الدنيا من يجهل هذا المعنى أبداً؟ الدين الحق مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأخلاق الإنسانية الاجتماعية الفاضلة، وهي أول ثمرات هذا الدّين، وإذا غاب الدين - خصوصاً عن هذه الأمة العربية - فلن تجد بديلاً بعد ذلك يُنْهِضُها من كبوتها أبداً، وإذا كان الأمر هكذا؛ فلماذا لا نعود إلى إسلامنا الذي ألقيناه وراءنا ظِهْرِيّاً؟! نعم ألقيناه وراءنا ظِهْرِيّاً، لماذا لا نعود إليه فَنُخْلِصَ له في تعاملنا معه؟ لماذا لا نعود فنصطلح مع الله اصطلاحاً حقيقياً لا تقليدياً، وعلى كل المستويات؟ نحن صادقون في أننا نرغب في أن يزدهر اقتصادناً وقد آل إلى ما تعرفون، إذن فلنكن صادقين في استعمال الدواء، نحن صادقون في أننا وقد علمنا أننا نعاني من تخلف علميّ حضاري في الوقت الذي تقدمت فيه الأمم الأخرى صُعُداً، إذن لماذا لا نبحث عن الدواء؟ والدواء موجود، لماذا لا نُخْلِصُ في استعمال هذا الدواء؟ نحن نعاني من فُرقة، وهي الفُرقة التي زجّتنا في ضعف بعد قوة، والدواء أمامنا موجود إذا كنا مخلصين في بحثنا عن سبيل حقيقي للتضامن، فلماذا لا نَهْرعُ إلى الدواء؟
قد تقولون: وهل من شك في أننا - ولله الحمد - مازلنا مسلمين؟ أليست هذه المساجد التي تفيض بالمصلين دليلاً على أننا لا نزال بخير؟ هذه المنابر تَسْبَحُ في أمواج من الدين يُحدِقُونَ بها سماعاً للموعظة والنصيحة، أليس دليلاً على أننا مازلنا مسلمين؟
بالأمس قلت، وأقولها اليوم- أيها الإخوة: لا تقفوا أمام المشاهد المبتورة المنفصلة بعضها عن بعض، لا تقفوا أمام الصور الجزئية، انظروا إلى الكل، انظروا إلى التيار الاجتماعي ككلّ، ودَعْكُمْ من الوقوف أمام التابلوهات، أو أمام المشاهد الجزئية، إن تصورتم الكلَّ رأيتم الأمر على خلاف ما تتصورون، تصوروا التيار الاجتماعي بقضه وقضيضه، ما الذي تجدون؟ تجدون أولاً جهالة بالدين عجيبة ومؤلمة، أكثر المسلمين لا يعرفون من دينهم شيئاً، أكثر المسلمين رابطة ما بينهم وبين الإسلام انتماء، وإن سألت الواحد منهم عن بدهيات هذا الدين في عقائده، في عبادته، قال لك برأس مرتفع: أنا لست متخصصاً بالدين. أليس هذا هو الواقع؟ وهذا شأن أكثر المسلمين في مجتمعاتنا الكلية اليوم؟ إذا نظرت إلى التيار الاجتماعي ككل بقضه وقضيضه، على كل المستويات، وكل الفئات؛ رأيت الكثيرين والكثيرين ممن يستخِفُّون بهذا الدين، وممن يرون
أن أيامه قد انقضت، وأن شمسه قد غربت، وأن الناس مَلُّوه وتبرموا به، والمطلوب أن نتطور ونتبدل، والمطلوب أن نصبح ذيولاً لتلك الأمم الأخرى، ألا تجدون هذا الكلام يقال؟ ألا تجدون أصداءه تصك آذاننا؟ إذا نظرتم إلى التيار الاجتماعي العام، ما أكثر ما ترون صوراً مؤلمة تطالعنا على - لا أقول: الإعراض عن الدين - بل تطالعنا على محاربة هذا الدين، تطالعنا على الوقوف في وجه آدابه، مبادئه، أنا أسألُ: كَمْ هم الذين يقفون بين يدي الله في اليوم والليلة خمس مرات يُصلّون له كما أمر في محكم تبيانه: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً﴾ [النساء: 4/103]؟ كم هم نسبة كم الجواب تعرفون، لا بل أنا أسأل نفسي: كم وكم في الناس من يستخفُّ بهذه الصلاة؟ بل ما أكثر القطاعات التي تحارب فيها الصلاة! أجل عندما نريد أن نتساءل عن واقع الإسلام منا، أو واقعنا من الإسلام، ما ينبغي أن تحبسوا أنظاركم وأنفسكم أمام الصور الجزئية المأخوذة من واقع مجتمعنا، أريد أن نتصور هذا المجتمع ككل، عندئذ تجدون صورة المأساة، ومن ثَمَّ تعلمون أنَّهُ ما من دخان إلا وسببه نار تتقد، إن رأيتَ أم لم تَرَ.
الدخانُ الذي أعنيه: تخلفُنا الاقتصادي، الدخان الذي أعنيه: تخلفُنا الثقافي والعلمي، الدخان الذي أعنيه: تخلفُنا الحضاري عموماً، الدخان الذي أعنيه: ضَعْفُنا بعد قوة، الدخان الذي أعنيه: تفرُّقنا المؤلم العجيب بعد تضامن. هذا الدخان يعود إلى سبب، ما السبب؟ السبب أننا تَبَرَّمْنا بنعمة الله العظمى التي أحبها الله لنا، بل تلك النعمة التي تحبب الله بها إلينا، وأنا لا أشبع من الوقوف عند قوله تعالى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ ألا ترون؟ ألا ترون مظاهر هذا التحبب؟ ألا تشعرون؟ ألا تتبينون؟ كيف يقول الله عز وجل لنا: أحببت لكم هذا الدين، من حبي لكم، من شفقتي عليكم، كي لا تَشْقَوا، لكي لا تقعوا في أودية تخلف، لكي لا تستطيع أمة أن تَنْقَضَّ عليكم في جُنْحِ ليلٍ مظلم، أن تتغلب عليكم، ألا تلاحظون؟ أليس من المؤلم حقاً أن نُعْرِضَ بعد هذا التحبب عن هذا الكلام؟ وأن يكون واقعنا كما قد قلت لكم؟
أيها الإخوة: إن فيكم من قد يقول: تلك هي الأمم الأخرى تزدهر اقتصادياتها دون حاجة إلى هذا الدين، وتلتقي على كلمة واحدة دون حاجة إلى الدين، وها هي ذي قوية الشكيمة دون حاجة إلى الدين؟ قلت لكم بالأمس ـ ولعلكم نسيتم ـ: لا تنسوا سنة الباري عز وجل، يقول الله عز وجل: ﴿كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ [الإسراء: 17/20] تلك الأمم بذلتِ العَرَقَ، بذلت الجهد منذ أقدم عصور التاريخ إلى هذا اليوم، لتقوى، لتتعلم، لتتسلق إلى عرش الحضارة، فعلت، بذلت، التاريخ القصي يقول هذا، وكلكم يقرأ التاريخ ويَعْلَمُ، ينطبق هذا على الإمبراطورية الرومانية التي تسلسلت إلى هذا اليوم، ينطبق هذا على الإمبراطورية اليونانية، ينطبق هذا على دول الغرب أجمع.
أما نحن العرب الذين أكرمنا الله بالإسلام، وجعل الإسلام لا غيره سُلَّمَ الصُّعود إلى التقدم. فأنا أسأل: متى اهْتَمَّ العرب وبذلوا جهداً كالذي بذلته تلك الأمم؟ في سبيل حضارة؟ في سبيل علم؟ في سبيل رقي؟ عندما جاء محمد صلّى الله عليه وسلّم يوقظ الأمة العربية من نومها ورقدة تخلفها، أَفَكانَ لها موسوعة كموسوعة جوستنيان في القانون؟ أفكانت الأمة العربية آنذاك تنافس الدول الأخرى في التقنية والعلوم وما إلى ذلك؟ كانت نائمة في أدنى وأدنى وأحط أودية التخلف بكل أنواعه، وفجأة نقلها الإسلام ولا شيء غير الإسلام من أقصى أودية التخلف إلى أسمى أصعدة التقدم، خلال عشرين عاماً ـ لا أقول رُبْعَ قرن أقل ـ خلال عشرين عاماً فقط، وفغرت الدول كلها أفواهها متعجبة لهذا اللغز الغريب، ما ينطبق على الأمة العربية اليوم لا ينطبق على تلك الأمم الأخرى، والله يقول: ﴿كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ﴾ لو نطق تاريخ هذه الأمة بأن العرب في ما مضى بذلوا وفعلوا وجاهدوا في سبيل علم، في سبيل معرفة، في سبيل حضارة، في سبيل اقتصاد؛ إذن لرجعوا اليوم إلى ما قد فعلوه في سبيل الوصول إليه، إذن لرجعوا إلى ثمرات جهودهم، لكن أين هي جهودهم حتى يعودوا إلى ثمراتها؟ ثمراتهم ثمرات الإسلام، وإذا تركوا الإسلام؛ أو استخفوا به؛ أو أعرضوا عنه، أو تبرموا به؛ فلابد أن يعود بهم المنطق والشأن إلى ما قد كانوا عليه سابقاً.
احفظوا هذه الحقيقة وأدركوا سنة رب العالمين التي نقرأها ثم نرددها دون وعي في محكم تبيانه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.