مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 05/01/2001

غداً نلقى الأحبة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى .

أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

إن فرق ما بين المؤمن بالله عز وجل والموقن بلقاء الله سبحانه وتعالى ..... بالله عز وجل عندما يمضي من حياة كل منها عام ويقبل عام آخر، فرق ما بين هذا وذاك أن المؤمن بالله والموقن بلقاء الله عز وجل كلما مضى من حياته عام شعر بأنه أصبح أكثر قرباً من الله عز وجل، وأن ميقات الرجوع إليه والوقوف بين يديه أصبح آزفاً وقريباً، ومن ثم فهو يعود إلى نفسه.

فإن رأى أنه محسنٌ بتوفيق الله عز وجل ومستقيم على أوامره فاض قلبه شكراً لله سبحانه وتعالى وفرح واستبشر.

وإن رأى أنه مقصرٌ شاردٌ عن صراط الله سبحانه وتعالى وأوامره، تدارك ما فاته وأصلح بقية أيامه الباقية في حياته واستغفر وتاب وآب. وهو في كلا الحالين سعيدٌ بصلته بالله عز وجل.

أما ذلك الجاحد عندما يشعر بأن عاماً مضى من حياته وأن عاماً جديداً أقبل، فإن شعوره يلح عليه بأنه ازداد قرباً من ساعة الاختناق، وازداد قرباً من الجدار المغلق في نهاية النفق الذي يسير فيه، وازداد تصوراً لانقطاعه عن متعه التي يتقلب فيها وشعوراً بأنه عما قريب سيزج به في واد العدم، ومن ثم فإن من شأن هذا الذي شعر أن عاماً كاملاً قد انسلخ من حياته وأنه اتجه إلى عام جديد .. الشأن فيه أن يشعر بالأسى وأن يشعر بالهم والحزن الواصب؛ ذلك لأن جلوسه على مائدة المتع قد حان أو آن أو قرب انقطاعه عنها، ومن ثم فهو ينظر إلى هذه المتع كلها بعين الحسرة وبعين الألم، ومن شأنه أن يغالب آلامه هذه بكل أسباب النسيان بالكؤوس التي يعبها واحدة إثر أخرى لكي ينسى أنه عما قريب سيصل إلى نهاية الرحلة، وليست نهاية الرحلة في تصوره وخياله إلا جدارٌ مغلق لا بد أن يجد أمامه الاختناق، لأنه يسير من رحلته في طريق ذي اتجاه واحد، فهو لا يستطيع أن يعود القهقرى، هذا هو بكل دقة فرق ما بين حال الإنسان المؤمن بالله والموقن بلقاء الله. والإنسان التائه الذي لا يعلم معنى لرحلته في فجاج هذه الحياة الدنيا ولا يدرك أي قيمةٍ لقول الله عز وجل: "قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ".

هذا هو المنهاج الذي عرفناه وهو المنهاج الذي آمنا به وأيقناه، عرفنا قصة هذه الحياة الدنيا من أولها إلى النهاية الأولى فيها، ثم إلى النهاية الأخرى من بعدها، عرفنا ذلك كله، ومن ثم فإننا نحن المؤمنين بخيرٍ بحمد الله على كل حال، "عجباً لأمر المؤمن إنه بخيرٍ على كل حال إن أصابته سراء شكر فكان ذلك خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان ذلك خيراً له". هكذا يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن، أي الموقن بلقاء الله، العالم بمنهاج رحلته في فجاج هذه الحياة الدنيا، فاحمدوا الله ياعباد الله أنكم لستم من أولئك التائهين الشاردين الذين فتحوا أعينهم على العمر الذي يتمتعون به في دنياهم هذه دون أن يعلموا معنى لهذا العمر، ودون أن يعلموا مبدأ له أو منتهى، ودون أن يتصوروا أن لهم إلهاً قيوماً مبدأهم منه ومنتهاهم إليه.

كم وكم يعانون من الشقاء .. وكم وكم يعانون من الآلام المبرحة التي تأخذ منهم بالخناق .. لكنهم لا يجدون ترجمة لآلامهم إلا بهذه الكؤوس التي يلجأون إليها، ولقد قضى الله عز وجل أن أرى مظهراً لهؤلاء الذين تقطّع قلبي أساً عليهم في ليلة من ليالي ما بين نهاية عام وبدائة عام، وسمعت الصخب عن كثب ورأيت مظاهر الأسى، ورأيت كيف يحاول هؤلاء الأشقياء أن ينسوا كل شيء وأن ينسوا حساب السنوات التي تمر، ولكن ما السبيل إلى ذلك؟ سبيل النسيان هو البلاء الواصب الذي يعكفون عليه، ولو أنهم عرفوا الله، ولو أن قلوبهم ارتبطت بالله، ولو أنهم فتحوا أعينهم على كتاب الله عز وجل الذي يقصّ على الإنسان هويته وبرنامج رحلته في فجاج هذه الحياة الدنيا وتأملوا في ذلك بعين الإنسان العاقل الحر، إذاً خلال لحظات لانتقلوا من أقصى وأقسى أودية الشقاء إلى رتب السعادة والفرح بالله سبحانه وتعالى.

عندما أتأمل هذا الفرق بين المؤمنين بالله عز وجل - بين أولئك الذين حبب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان - وبين أولئك الآخرين، أكاد أذوب شكراً لله وحمداً لله عز وجل، فالمنة منته، والفضل فضله، ماذا كنت تصنع بنفسك يا ابن آدم لو كنت واحداً من هؤلاء الحيارى التائهين في صحراء هذا الوجود، لا تعلم لنفسك مستقراً ولا تدري لنفسك مصيراً، تنظر إلى سنوات عمرك وهي تمضي عاماً إثر عام إثر عام، وتشعر بأن الموت يدنو من خناقك ولا تعلم المصير، ماذا كنت تصنع؟ وأي شقاء كنت تجتر؟! ولكن انظر وتأمل كيف أن الله اصطفاك من أولئك الناس وسما بك إلى صعيد الإيمان، وسما بك إلى صعيد مراقبة الله، ومن ثم فإذا رأيت أن عاماً ولى، ليأتي من بعده عام جديد، فلسوف تشعر بأنك أصبحت أقرب إلى الرجوع إلى الله عز وجل. وهل يشعر الإنسان بسعادة ألذ من سعادة عودة روحه إلى بارئها؟! من سعادة هذه الروح التي كانت ولا تزال تحن إلى عالمها العلوي! أي سعادة أمتع وأي يوم أروع وأي عرس أمتع من ذلك الميقات الذي ضربه الله عز وجل بينك وبينه لتعود إليه؟! أجل اشكروا الله على هذه النعمة واسألوه أن يبقيها عليكم.

كنت أقرأ الساعة هذه الآية من كتاب الله عز وجل: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" هنالك أناسٌ أغفل الله عز وجل أفئدتهم عن ذكره، حكم عليهم بهذا الأمر عدلاً منه سبحانه وتعالى، عد إلى قلبك انظر تجد أن الله عز وجل لم يجعلك من هؤلاء الناس "وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا"

الناس فريقان: فريق أفرغ الله عز وجل أفئدتهم من ذكره، فأصبحت أفئدتهم أوعيةً لكل شيء من تفاهات الدنيا وحطامها ورذائلها دون أن يشموا رائحة عبوديةٍ في كيانهم لله عز وجل، ومن ثم دون أن يذكروا الله في لمحة من لمحات حياتهم.

فئة أخرى أكرمها الله سبحانه وتعالى وتفضل عليها فتجلى على أفئدتها بحبه وذكره، ومن ثم نبضت هذه القلوب بذكر الله عز وجل حباً، تعظيماً، خوفاً، مهابةً، دعاءً، التجاءً، كل ذلك من مظاهر ذكر الله سبحانه وتعالى، وقفت أمام هذه الجملة "وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ".

اللهم لك الحمد أنك لم تجعلنا من هؤلاء الذين أغفلت قلوبهم عن ذكرك، كم هو تفضل عظيم، وكم هي رحمة غامرة من الله سبحانه وتعالى أن تكرم علينا فجعل أفئدتنا تنبض بذكر الله عز وجل، تعلم ألوهية الله سبحانه وتعالى.

وماذا كان يصنع الإنسان بنفسه لو أن الله عز وجل قضى عليه أن يكون من ذلك الفريق، من أولئك الذين أغفل الله قلوبهم عن ذكره، ومع ذلك فإن الله عَدْل، من هم الذين يغفل الله عز وجل أفئدتهم عن ذكره؟ لا العصاة يتعرضون لهذا البلاء، ولا الشاردون بسلوكهم، وإنما الذين يتعرضون لهذا البلاء الماحق هم المستكبرون على الله هم المعاندون، هم الذين يأبون أن يسخروا عقولهم لمعرفة الحق.

فحافظوا على هذا الكنز الذي متعكم الله سبحانه وتعالى به إذا شعرتم أن قلوبكم بين الحين والآخر تتجه بذكر الله سبحانه وتعالى مخافةً، حباً، تعظيماً، التجاءً ودعاءً وإذا رأيتم أن العمر كلما امتد بكم، وكلما تناقصت الأيام الباقية من حياتكم ورأيتم أنكم تقربون وتدنون شيئاً فشيئاً إلى الموت، رأيتم أنكم في هذه الحالة أكثر تعظيماً لله وأكثر حباً لله عز وجل وأكثر استبشاراً بلقاءٍ قريب آزف لله سبحانه وتعالى، فأكثروا من حمد الله على هذه النعمة وأكثروا من الالتجاء إلى الله عز وجل على هذه النعمة.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يملأ أفئدتنا بذكره كلما امتد بنا العمر، وكلما رأينا أن الموت قد أصبح أقرب إلينا، حتى إذا حانت ساعة الفراق من هذه الدنيا التافهة، وحانت ساعة الارتحال إلى الله عز وجل، لهجت ألستنا مثل ما كان يلهج به لسان بلال يوم وقع في سياق الموت وسمع بعضاً من أهله يقول: وا كرباه. قال: بل واطرباه غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.

اللهم اجعلنا من هؤلاء الذين إذا دنوا إلى الموت ونهاية هذه الحياة يستبشرون بما استبشر به بلالٌ وصحبه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي