
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


منطق الاحتياط لدين الله
منطق الاحتياط لدين الله
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 10/11/2000
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بع] فيا عباد الله
إن المسلم في هذه الحياة الدنيا أحد رجلين: رجل تحول الإيمان العقلاني في فكره إلى حب وتعظيم وخوف ومهابة لله سبحانه وتعالى في قلبه، ورجل حُبس هذا الإيمان يقيناً في عقله وبقي قلبه مجالاً ومكمناً لشهوات الدنيا وأهوائها ورغائبها، وكلِّ ما يمكن أن يراه الإنسان في هذه الحياة الدنيا من الزينة والتفاخر والتكاثر بالأموال والأولاد.
أما الرجل الأول الذي فاض الإيمان بالله عزّ وجل بعد اليقين العقلي، فاض حبّاً لله وخوفاً من الله وتعظيماً لله عز وجل على فؤاده؛ فهو دائم الوجل من الله، ودائم التعلق بالله، يبحث في حياته كلها عن مظانّ القرب من الله فيسلكها، يبحث يميناً وشمالاً عن السبل التي يتوخّى ويظن أنها قد تقربه إلى الله، أنها قد تكفر عنه سيئاته وأوزاره فيسلكها من قبيل الاحتياط، ومن قبيل التأمُّل في أن ما قد ظنّه حقيقة، تماماً كحال أي إنسان يتعامل مع إنسان يحبه، يبجله ويعظّمه ويخشى من أن يتعرض لسخطه أو لقطيعته. تجد هذا الإنسان يسلك السبل كلها الـمُحتَمِلة والمظنونة واليقينية في سبيل أن يُبْقيَ على حبه لهذا الإنسان، وفي سبيل أن لا يُسدل بينه وبينه حجابَ قطيعة، يحتاط، ذلك هو شأن المؤمن الذي تحوّل الإيمان بالله عزّ وجلّ يقيناً في عقله إلى حُبٍّ وتعظيمٍ وخوفٍ ومهابةٍ في قلبه، يرى من أحاديث رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ما يدلُّ على أن المؤمن إن قام بنوع من الأذكار في وقت من الأوقات قرّبه ذلك إلى الله، تجده يُهرَع إلى القيام بهذا الأمر، ولا يبالي بأن يكون الحديث ضعيفاً أو حسناً أو صحيحاً مادام أنه ليس بموضوع، ومادام أن احتمال صحته وارد، ذلك هو منطق الاحتياط، ذلك هو منطق الحب، ذلك هو منطق التعظيم والتبجيل لحرماتِ الله سبحانه وتعالى، يبحث عن المخاوف التي تقصيه عن رحمة الله عزّ وجلّ؛ فما يكاد يقع على حديث يخوّف من عمل، يخوّف من سلوك إلا ويبتعد عنه، وإن جاء من يقول له: إن هذا الحديث ضعيف، وإنه لم يُروَ بطرق صحيحةٍ تامة. يقول: ما أدراني لعله صحيح، أنا أحتاط لنفسي. إنه لشقاء وَبيلٌ جداً أن أجدَ نفسي قد وقعت في قطيعة مع الله، وأن أجدَ نفسي يوم القيامة وقد أُبعدت عن رحمة الله، فَلأسْلُكِ الطرق كلها أيّاً كانت، لأحتاط لنفسي.
هل في هذا المنطق - أيها الإخوة - من شكٍ وريب؟ نحن أمام هذا الكلام الذي لا يرتاب فيه عاقل؛ نجد أنفسنا في هذا الشهر المبارك في شهر شعبان الذي كثرت الأحاديث في فضله، وجاءت أحاديث أيضاً في فضل ليلة النصف أيضاً منه، ننظر فنجد أن البخاري ومسلماً وأبا داود وغيرهم رووا من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ﴿كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يفطر حتى كنا نظن أنه لن يصوم، وكان يصوم حتى كنا نظن أنه لن يفطر، وما استكمل صيام شهرٍ قط إلا شهرَ رمضان، وما رأيته في شهرٍ أكثر صياماً منه في هذا الشهر﴾ أي في شهر شعبان، هذا حديث متفق عليه يدل على فضيلة هذا الشهر من أوله إلى آخره.
ثم إننا ننظر فنجد أن هنالك أحاديث تلفت نظرنا إلى فضيلة ليلة النصف من شعبان بذاتها، ننظر فنجد البيهقي يروي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من حديث عائشة أنها قالت: قال لي رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ﴿أتاني جبريل فقال: هذه ليلة النصف من شعبان، يعتق الله فيها من النار بقدر شعر غنم بني كلب﴾ أي يعتق الله عز وجل في كل عام في ليلة النصف من شعبان من عباده المسلمين من النار عدداً لا يحصى. كما أن شعور غنم قبيلة بني كلب لا يحصى، فكذلك يعتق الله في كل عام من النار أعداداً لا يحصون، ﴿ولا ينظر الله فيها - أي في هذه الليلة - إلى مشرك، ولا إلى مشاحن، ولا إلى قاطع رحم، ولا إلى مسبل، ولا إلى مدمن خمر﴾ هذا الحديث رواه البيهقي عن عائشة وسنده قل إنه صحيح أو حسن أو ضعيف.
يروي البيهقي أيضاً من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ﴿قام رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ليلةً فصلّى فيها فسجد، فأطال السجود، حتى ظننت أنه قد قبض، فقمت فحركت إصبعه فتحرك، فلما رجعت سمعته يقول في سجوده: اللهم إني أعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك. فلما سَلَّمَ من صلاته قال لي: أظننتِ أن النبي قد خاسَ بك؟ قلت: لا والله يا رسول الله، ولكني ظننت أنك قد قُبضت. قال: أفتعلمين أيُّ ليلةٍ هذه؟ قلت: الله أعلم. قال: إنها ليلة النصف من شعبان يطّلع الله فيها على عباده فيقول: ألا هل من مستغفر فأغفرَ له؟ ألا هل من داعٍ فأجيبه؟ ويترك أهل الشحناء والحقد والقطيعة كما هُم﴾.
يقول البيهقي: هذا الحديث من مراسيل العلاء بن الحارث عن عائشة رضي الله عنها، وهو مرسلٌ جيد. يأتي من يقول أنا أشم من هذا الحديث رائحة الضعف وهو ليس بقويٍّ، إذن فلأترك هذا الذي يتضمنه هذا الحديث.
أيها الإخوة! سَلُوا أنفسكم ومشاعركم وقلوبكم التي يفترض أن تكون فيها رائحة حُبٍّ لله وتعظيمٍ له وخوفٍ منه، أفيقول هذا المؤمن الذي فاض قلبه بشيء من هذه المشاعر هذا الكلام؟ ويحك! ماذا يقول منطق الاحتياط؟ المحتاط ماذا يصنع؟ احتمال الصحة وارد أم لا؟ وارد، وبشكل قوي جداً، وأنت بحاجة إلى أن تتلمّس مظانّ رحمة الله عزّ وجلّ تقبل إليك، وأنت بحاجة ماسة أيّاً كنت، وأنا مثلك بحاجة ماسة إلى أن نبحث عن فرصة من الفرص أيّاً كانت، لنخفف فيها الأوزار عن كواهلنا، لنخفف فيها وقع السيئات المتلاطمة على حياتنا، فإذا جاء من يقول لك: هذه فرصتك احتمال عشرين بالمئة، وأنت تشعر بالحب لله، وتشعر بالمخافة من الله، وتشعر بمعاني تعظيم الله، ألا تنتهز هذه الفرصة؟ ألا تلجأ إلى هذا الاحتمال الذي يساوي، ولو كان يساوي عشرين بالمئة، ألا تلجأ؟ لكن، قلت لكم: إن في المؤمنين، أو إن في المسلمين أناساً حُبِسَتْ حقائق الإسلام فكراً ويقيناً وعلماً في عقولهم، أما قلوبهم - وهو مكمن الخطر - فبقيت مكمناً لحب الدنيا، لحب الشهوات، لحب الأهواء، لحب المال، لحب الزعامة، لحب الرئاسة.
ما الذي يقود الإنسانَ إذن في هذه الحياة؟ الذي يقوده إنما هو أجيح مشاعره القلبية، وليس الذي يقود الأصابع العلمية التي تشير في عقله إلى أن هذا هو الحق، وأن هذا هو الباطل، العلم صفة كاشفة أيها الإخوة، ـ كما قال العلماء - وليس صفةً مؤثرة، هنا العاطفة هي الصفة المؤثرة، ولا فائدة لإيمان إنسانٍ مؤمن إذا بقي هذا الإيمان محبوساً في عقله، لابدّ أن يُشرق هذا الإيمان عاطفة متوهجة في حنايا فؤاده. عند الموت -أيها الإخوة - إذا امتدّ الإنسان على فراش الموت وجاءه ملك الموت ليستلَّ روحه، آلام الموت لا تجعله يتذكر مداركه العلمية التي حُبست في دماغه، ولكنه يتذكّر الحبّ الذي يهيمن على قلبه، فانظر إلى الحبّ الذي يكون آنذاك قد أخذ بمجامع فؤاده، إن كان حُبَّ الله، إن كان تعظيم الله، إن كان الوجل من لقاء الله عز وجل، فلسوف يُترجم هذا الحبّ كلماتٍ نورانيةً إيمانيةً على لسانه، ويرحلُ إلى الله وهو سعيدٌ مخلدٌ في نعيم الله عز وجل. ولكن إذا جاءه الموت وقلبه مفعم بالرغبات، بالشهوات، بالتجارة، بالمال، بالزعامة، بعلاقة ما بينه وبين فلان، بالحقد الذي بينَه وبين فلان، بالحب الذي بينَه وبين فلان، فإن العلم يتبخر من عقله، ولا يدرك في تلك الساعة إلا دنياه، فيرحل إلى الله عز وجل مُعرّىً من حقائق إيمانه.
أيها الإخوة! أسأل الله عز وجل أن يجعلني ويجعلكم مِمَّن ينتهزون فرص رحمة الله أيّاً كانت، وأيّاً كان درجة الظن فيها، نتلمّسْ ساعةً يقال: إن الله يطلع فيها على عباده، نتعرض فيها لنفحات الله، نتعرض فيها لكرم الله، نجأر فيها إلى الله بالدعاء لأنفسنا ولأهلينا ولأمتنا، وما نقف لنقول: قل لي: أهذا الحديث صحيح السند أم لا؟ قل لي: من الذي رواه؟ وإلى أي درجة ترتفع قيمة هذا الحديث؟ من الذي يتكلم على لسانك في هذه الحال؟ الفكر الذي لن يفيدك وحده شيئاً، اجعل قلبك هو الذي يتكلم. اجعل قلبك المفعم بحبّ الله، المفعم بتعظيم الله. أيها الإخوة! تاجر من التجار، يعشق المال، يعشق الدنيا، كيف يتصرف؟ ما يسمع باحتمال، ولو كان هذا الاحتمال يساوي عشرة في المئة، هذا الاحتمال يقال: إنه ربما جاء له بربح وفير، وجعله يقفز من حالٍ إلى حالٍ أفضل منها، إلا ويسلكه لأنه يتصوَّر أن هذا الاحتمال إذا كان صحيحاً فقد غنم ما كان يحلم به، وإن لم يكن صحيحاً فعلى كلٍّ هو لن يتضرّر، سيبقى في مكانه، المقامر لماذا يقامر؟ لماذا يدفع قدراً من المال؟ لأنه يتصور أن احتمالاً يساوي واحداً بالمئة يجعله يربح، يتعلق بهذا الاحتمال، الذي يساوي واحداً بالمئة، لأنه يتعشق هذا الربح، ولأنه يطمع به.
يا عجباً! لماذا لا نتعامل مع مولانا وخالقنا كما نتعامل مع أحلامنا الدنيوية؟ قيل لي: احتمال يساوي واحداً في المئة إن أنت سلكت السبيل إليه عفا الله عنك ذنوبك، وأنا إنسان مثقل الأوزار، أعلم أنني بعيد عن الله، محتاج إلى كرم الله عز وجل ولطفه، ماذا أصنع أيها الإخوة؟ أتشبث بهذا الاحتمال الذي يساوي واحداً بالمئة، أليس كذلك أيها الإخوة؟
أسأل الله عز وجل أن لايجعلنا من المتنطعين، أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين أصبح إيمانهم بالله حباً، تعظيماً، مهابةً، خوفاً، يهيمن كل ذلك على جوانحهم وقلوبهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.