
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


إن تنصروا الله ينصركم
إن تنصروا الله ينصركم
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 20/10/2000
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد، فيا عباد الله
أفتتح حديثي اليوم إليكم بأمور بدهية يعرفها كل منكم: الإنسان الذي علم أنه بحاجة إلى دار وليست له دار يسكنها يبحث عن الثمن الذي ينبغي أن يتوفر لديه للحصول على هذه الدار، فإذا علم الثمن بذل كل ما يملك من جهد لجمع هذا الثمن، وربما أسهر في سبيل ذلك ليله، وأضنى أيامه، وربما تغرَّبَ في سبيل ذلك عن وطنه، كل ذلك في سبيل أن يجمع ثمن هذه الدار، ومن ثَمَّ ليحقق حاجته التي يتطلع إليها.
كذلكم الشاب الذي يحتاج إلى زواج يبحث عن المال الذي ينبغي أن يتوفر لديه لذلك، ومن ثَمَّ يبذل كل ما يملك من جهد ليجمع المال الذي ينبغي أن يجمعه، ومن ثَمَّ ليحقق حاجته التي يتجه إليها.
الإنسان الذي يبحث عن زعامة، عن قيادة، عن مكانة باسقة يتبوؤها يبحث عن الثمن الذي ينبغي أن يوفره ويحققه لذلك، ومن ثَمَّ يُتْعِبُ نفسه ويُكِدُّ أيامَه ولياليه في سبيل الحصول على هذه الحاجة التي تعلقت نفسه بها. أليست هذه أموراً بدهية أيها الإخوة؟
شعور هذه الأمة - لاسيما قادتها - بالحاجة إلى النصر، بالحاجة إلى أن ننصف أنفسنا من الأعداء الذين سُلطوا علينا، بالحاجة إلى أن نرد عن أنفسنا كيد الكائدين وظلم الظالمين، حاجة، حاجة تعلن هذه الأمة - ولاسيما قادتها وكبراؤها - يعلنون أنهم بأمسِّ الحاجة إلى ذلك؛ إذن ينبغي أن يبحثوا عن الثمن الذي لابد من توفره لتحقيق هذه الحاجة، فإذا عرفوا الثمن؛ إذن لابد من السعي الحثيث الصادق للحصول على هذا الثمن، إن كانت هذه الأمة ممثلة في قادتها حقاً تشعر أنها بحاجة إلى أن ينصفها الله، إن كانت تشعر حقاً أنها بحاجة إلى أن ترتفع عنها أيدي الظالمين، ولكننا ننظر فنجد أن الألسن تدعي الشعور بهذه الحاجة، بل تدعي الألم من شدة وطأة الشعور بهذه الحاجة، والثمن الذي ينبغي الحصول عليه لتحقيق هذه الحاجة واضح يعلن عن نفسه، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ﴾ [محمد: 47/7]، ويقول: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [آل عمران: 3/160]، ويقول: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظّالِمِينَ ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم: 14/13-14] إذن الحاجة معلنة، ودعاوي الألسن تنادي بها، وأصوات المدعين ترتفع بها إلى عنان السماء، والثمن هذا هو، بيان الله سبحانه وتعالى يوضح الثمن: أن نَصْدُق في الانتصار لدين الله، وأن نَصْدُقَ في حراسة شعائر الله وأوامر الله، وأن نُعَظِّمَ حرمات الله سبحانه وتعالى، هذا هو، ولقد ألزم الله عز وجل ذاته العلية -وهو الصادق إذ وعد - ألزم ذاته بأن ينصر هؤلاء الذين يبذلون هذا الثمن.
فماذا نقول إذن؛ وأنتم ترون هذا الواقع العجيب؟ أنقول: إن قادة هذه الأمة كاذبون في دعوى الحاجة التي يعلنون عنها؟ أنقول: إنهم كاذبون في دعوى الرغبة في أن ينصفهم الله، وفي أن ترتفع عنهم أيدي هؤلاء الظالمين؟ أنقول: إنهم كاذبون وإنهم من الذل والمهانة أصبحوا كذلك الذي قال عنه الشاعر العربي: "واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي" أم نقول: إنهم صادقون في التعبير عن هذه الحاجة وفي الرغبة في أن ترتفع عنهم أيدي هؤلاء الظالمين، وأن يرتفع عنهم ميسم الذل والمهانة العجيب، إذن فإذا كانوا صادقين، فلماذا لا يسلكون مسلك ذاك الذي يحتاج إلى دار فيشرِّق ويغرِّب، ويبذل كل ما يملك من جهد للحصول عليها؟ لماذا لا يسلكون مسلك أنفسهم عندما يبحثون عن زعامة، وعندما يبحثون عن قيادة، فلا يدعون سبيلاً إلا سلكوه، ولا يتركون منهجاً إلا ساروا فيه؟ يعتصرون أنفسهم جهداً ومشقة في سبيل أن يتبوّءوا ذلك المركز. إذا كانوا بحاجة فعلاً، وإذا كانوا صادقين فعلاً في رغبتهم، بأن ينصفوا وأن يتحرروا من ظلم الظالمين، وأن تعود إليهم حقوقهم الإنسانية، لا أكثر من ذلك ولا أقل، فها هو ذا السبيل مفتوح، وها هو ذا الثمن معلن عنه في كتاب الله عز وجل.
أحد أمرين: إما أنهم انتهوا إلى حالة لم يعودوا يؤمنون فيها بكلام الله، ولم يعودوا يؤمنون في هذه الحالة بأن هذا الكلام هو كلام أصدق الصادقين. وإذن فقد انتقلنا من مصيبة إلى مصيبة أطم، وإنها لمصيبة بسيطة أمام هذا الكفران العجيب، وأسأل الله أن لا يكون هذا هو الحال التي نفترضها. وإما أنهم مؤمنون بأن هذا بيان الله، وبأن هذا كلام الله عز وجل، ولكن شهواتهم تغلبت عليهم، ولكن أهواءهم صدتهم عن الاستجابة لما يتطلبه الله منهم من ثمن، وإما لأن لعابهم يسيل على تقليد المناهج الغربية والسبل الحضارية العفنة؛ التي تصل رائحة عفونتها التي تزكم الأنوف من أقصى الغرب إلى هنا.
إما هذا وإما ذاك أما أن يكون قادة هذه الأمة صادقين في إيمانهم بالله، صادقين في يقينهم بأن هذه الآيات التي تلوتها عليكم هي كلام الله سبحانه وتعالى، ثم إنهم يتقاعسون ويتجاهلون، فهذا ما لا يمكن أن يدخل في منطق عاقل.
الثمن - أيها الإخوة - الذي بواسطته تُطهّر هذه الأرض من رجس الأنجاس الأذلاء، الثمن الذي به نسترد القدس المقدسة إلى حمى الإسلام واضح ومعلن عنه في سوق العمل الإسلامي، من كان صادقاً بوسعه أن يبذل الثمن، وما من إنسان بذل الثمن إلا وأخذ المُثَمَّنَ، أخذ السلعة التي وعد الله سبحانه وتعالى بها.
ليست المشكلة كما يكذب الكاذبون ويفتري المفترون بأن أمريكا لا نستطيع أن نواجهها، وبأن هذه الأمة لا تملك وسائل الوقوف في وجه القوى العالمية الشرسة. ليس هذا هو المشكل وليس هذا هو الحاجز الذي يصد هذه الأمة عن بلوغها حقها، إنما الحاجز هو أن هذه الأمة التي تسمى أمة إسلامية، والتي يفترض أن يكون قادتها حماة لدين الله سبحانه وتعالى، أعرضوا عن شعائر الله وأوامره، أعرضوا عن تقدير وتقديس وتعظيم حرماته، غدا الإسلام الذي يتحرك في بلاد الإسلام غريباً، ولا أقول: غدا ذليلاً، معاذ الله أن يذلّ الإسلام. لكن الإسلام يعامل من قبل المسلمين على هذا النهج. أروني مظهراً من مظاهر الإسلام يُقدَّرُ ويُعظّم ويُحترم حقيقة لا استخداماً للإسلام في صقع من أصقاع عالمنا العربي والإسلامي كما قد أمر الله سبحانه. بالأمس بالأمس القريب ثارت ثائرة ثلة من المسلمين في بلد من أكبر البلاد العربية القريبة منا من أجل أن إنساناً كتب رواية لا يعبر عن رأيه الحر، لا، بل يسبُّ كتاب الله، يسب الله عز وجل، ماذا أقول لكم: يشبه القرآن بالعذرة، ويعبِّر عن العذرة بالكلمة السوقية التي تعرفونها، وانتظرنا من ينتصر لهؤلاء المسلمين، ويوقف هذا الهراء عند حده، ولكنا وجدنا من يُسْكِتُ أفواه هؤلاء المسلمين، ووجدنا من ينتصر لهذا الكاذب، لهذا الإنسان القذر، ولا قذارة اليهود والصهيونية، وجدناهم ينتصرون له باسم الحرية، ونحن ما كنا يوماً ما نغلق السبل إلى الحرية، لكن الحرية هي تلك التي يعبر عنها العقل، وليست الحرية تلك التي يفوه اللسان بها تعبيراً عن دناءات لا يمكن أن تجد نظيراً لها إلا في المراحيض.
نعم أيها الإخوة، إن هذا الذي سَبَّ القرآن، وسبَّ كتاب الله، وشبَّهَهُ بما قد قلت لكم، كُرِّم بسبب ذلك، وكُرِّم على رؤوس الأشهاد، ألا فليعلم العالم العربي والإسلامي كله أن الذي كُرِّم ليس هو ذلك الشخص القميء؛ إنما الذي كُرِّم هو إسرائيل، إنما الذي كُرِّم بذلك هو الصهيونية العالمية، عَلِمَ ذلك من عَلِم وجَهِلَ ذلك من جهل. وإنما كانت الصهيونية العالمية تُكَرَّم في شخص إنسان قذر قميء بهذا الشكل، فلماذا نعجب مما يفعله المكرَّمون؟
أجل. أين هو الانتصار لدين الله؟ في كل يوم نجد مقالات تدبج، روايات تكتب، كتباً تؤلف، كلها سخرية بدين الله، كلها تلاعب بشرع الله، آناً باسم القراءة المعاصرة، آناً باسم التجديد والتطوير، آناً باسم الخروج من ربقة التخلف إلى صعيد التقدم، الكل إلا من رَحِم ربُّك يعلن التأفف عن هذا الدين الذي تقادم عهده. إذن أيها الإخوة ماذا أقول؟ هل قادة هذه الأمة صادقون في أنهم بحاجة إلى أن ترتفع عنهم يد الظلم، كما أن ذلك الإنسان الذي يحتاج إلى دار بحاجة فعلاً إلى أن يجمع قيمة هذه الدار؟ أعتقد أن الأمر ليس كذلك، أعتقد أن هؤلاء القادة لا يهمهم أمر القدس ولا أمر فلسطين، الكل يبحث عن راحته وطمأنينته، الكل يبحث عن رغد عيشه، الكل يبحث عن مزيد من المتع يمتع بها نفسه، أجل. أما الكلمات التي تقال، أما الخطب التي تدبج، فكل ذلك أصبح فَنّاً أيها الإخوة، أصبح عبارة عن صنعة، كل ذلك أصبح وسيلة ومظهراً إطارياً توضع فيه المصالح الدنيوية العاجلة، غدا الإسلام إطاراً يزوق به من شاء دنياه رغبته أهواءه شهواته.
كان الرعيل الأول من المسلمين يستخدمون كل شيء للانتصار لدين الله عز وجل، كل شيء: أموالهم، عزَّهم، قياداتهم، قواهم، متعهم، أوقاتهم، كل ما يملكون لحماية دين الله، والانتصار له. أما اليوم فقد خَلَفَ من بعدهم خَلْفٌ يستخدمون الإسلام لكل شيء، يستخدمون الإسلام في خطب، في محافل في مناسبات، من أجل توطيد كراسيهم، من أجل تحقيق المزيد من رغائبهم، من أجل الوصول إلى المزيد من أمانيهم.
بالأمس عندما كانت تمر ذكرى الإسراء والمعراج كانت القلوب تتفطر غيرة على دين الله سبحانه وتعالى، فكانت الدنيا كلها تصبح خادماً في أيديهم تعتصر من أجل الانتصار للمسجد الأقصى، وهكذا طرد الصليبيون بالأمس من المسجد الأقصى، أما اليوم فربما تسمعون غداً الاحتفالات الطنانة والرنانة عن ذكرى الإسراء والمعراج، ربما تجدون الشعراء الذين يتسابقون إلى تدبيج قصائدهم، وربما تجدون من يتكلم ببلاغة لا نظير لها وببيان لا يعلوه بيان عما يتعلق بالإسراء، وعما يتعلق بالأقصى ومصير الأقصى، وما إلى ذلك. مامعنى هذا كله؟ معنى هذا كله أن هؤلاء الناس يستخدمون هذه الحقائق، هذه الشعارات، هذه المظاهر الدينية من أجل رغائبهم، ولكلٍّ رغبةٌ يتأبطها.
هذه هي حالنا أيها الإخوة لو أن أفئدة هذه الأمة صفت وغُرس فيها مغرس الإخلاص لله، ولو أن قادة هذه الأمة جعلوا كل ما يملكونه من قدرات خادماً لدين الله عز وجل، ووقفوا حياتهم على تعظيم حرمات الله، على تعظيم شعائر الله، إذن والله الذي لا إله إلى هو، لجمع الله شملهم، ولوحد كلمتهم، ولفجّر القوة من حيث لا يحتسبون من كيانهم، ولأدخل الرعب في قلوب أعدائهم، ولنصرهم الله ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد: 47/7] هكذا يقول الله عز وجل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.