العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
المسجد الأقصى يحتاج منا إلى عمل صامت دؤوب
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد، فيا عباد الله:
لاشك أنكم جميعاً تنتظرون أن أتحدث أنا الآخر عن هذه المجازر التي كانت وما تزال مستمرة، والتي تدور رحاها على أناس برآء، آمنين، في حين أن العالم الذي يرعى ما يسمى بحقوق الإنسان، لاأقول ينظر صامتاً، بل ينظر مصفقاً، أظن أنكم جميعاً تنتظرون، أن أتحدث أنا الآخر عن هذه المأساة، وأن ألهب مشاعركم بالحماسة أو بالألم المبكي والمفجع، ولكني أعتقد أنني لن أفعل شيئاً من ذلك، إن بوسعي أيها الإخوة، أن أصوغ أنا الآخر كلمات بليغة، بيانية، حارة، في وصف هذه الجرائم التي تدور رحاها كما قلت لكم على أناس برآء، بوصفي وبقدرتي وبوسعي أن أسابق هؤلاء القادة، البلغاء الفصحاء، المتكلمين، في هذا الصدد، ولكن ماذا عسى أن أكون قد فعلت بذلك لخدمة الحق، ولرفع هذه المأساة عن أصحابها، إن فناناً واحداً يرسم هذه المآسي بريشته الفنية الدقيقة، يستطيع أن يستثير المشاعر أكثر مما أستثيرها بلغتي البيانية، إن أي إنسانٍ يحمل كاميرة محمولة بوسعه أن يصور أدق ما يكون التصوير، هذه المآسي التي تقطع الأكباد، بوسعه أن يصورها أكثر ما يصورها أي قائد من القادة، أو أي رئيس من الرؤساء، ولكن فماذا عسى أن تصنع ريشة الفنانين التي ترسم، وماذا عسى أن تصنع الكاميرات التي تصور، وماذا عسى أن يفيد الكلام البليغ الذي يرسله الخطباء ويملؤون به الآذان أو يملؤون به القلوب، ولا شيء هذا وصفٌ لواقع، ووصف الواقع لا يحرك ساكناً، ولا يعبر عن شرف، ولا يترجم شهامة بشكل من الأشكال، ولذا فما الحاجة إلى أن أدلي أنا الآخر بدلوي، في الحديث التصويري عن هذه المآسي، لا حاجة إلى ذلك، بل الحاجة، تدعو إلى عدم الخوض في هذا الشأن الذي لا فائدة منه، الحاجة تدعو إلى عدم العزف على هذا الوتر الذي لا يحرك ساكناً، وإنما يستثير الأشجان وحده والعالم لا يبالي، أن تستيقظ الأشجان أو أن ترقد، العالم الغربي الوالغ في الإجرام لا يبالي بهذه المعزوفة قط، بل لعله يريد أن يجعل العربُ والمسلمون اليوم من هذه المعزوفة تعويضاً عن الجهاد الذي أمرهم الله سبحانه وتعالى به، تمنيت لو أن هؤلاء القادة الذين قالوا الكلام المبكي في تصوير أطفالٍ قُتِّلُوا، في تصوير المجازر التي تدور رحاها على أولئك البرآء، تمنيت لو أنهم صمتوا وبدلاً من هذا الكلام كله طردوا السفير الإسرائيلي من بلادهم، واستقدموا ذلك السفير القابع ذليلاً بين أولئك المجرمين، استدعوه لكي يعود إلى وطنه، تمنيت لو أن الألسن صمتت، وعبرّ الفعلُ الشريف عن نفسه، ولكن قولوا لي ما قيمة ذلك الكلام كله الذي قيل ويقال اليوم من قبل أناس يحتضنون نموذج إسرائيل في بلدهم، سفارة، ماقيمة ذلك الصمت في مثل هذه الحالة، هو أبلغ مايمكن أن يتم، فيما لو غطي هذا الصمت بمثل هذا العمل، يطرد هذا السفير من هنا، ويستقدم نموذج دولة من الدول العربية والإسلامية من هناك، وتمزق ورقة ذلك الصلح المهين، ذلك السلم المهين، بين أولئك الناس وهؤلاء، عندئذ يتحرك العالم، من أجل هذا لا أجد مجالاً للخوض في هذا الأمر على الطريقة التي يخوض بها الخائضون.
نعم، إنّ ربنا سبحانه وتعالى أمرنا بسِلْمٍ ونهانا عن سِلْم، أمرنا بالسّلم الذي يطرق العدو بابه ذليلاً خانعاً صادقاً، فقال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 8/61] ونهى عن السلم الذي نحن نطرق به باب الأعداء، أذلاء صاغرين، فقال: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ} [محمد: 47/35]. فما الذي حصل؟ الذي يحصل أن هؤلاء الناس، هؤلاء العرب أو فئة من العرب أبت إلا أن تطرق باب السلم، بل باب الاستسلام، متظاهرة بأنها تطرق باب السلم، وخَطَتْ إلى ذلك الخطوة الأولى فالثانية والثالثة، فكانت النتيجة هذا الذي نراه.
نعم ـ الحل أيها الإخوة أن يصمت اللسان وأن تتكلم الأعضاء، لمثل هذا شرع الله سبحانه وتعالى الجهاد، لمثل هذا أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بأن يهرعوا إلى القتال والعدة والسلاح، وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 8/60]، في مثل هذه الحال أمرنا الله عز وجل بالقتال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 9/111]، أجل، ولكن يا عجباً، الجهاد الذي شرعه الله عز وجل، وأمر به تُغمد أسلحته ويُتناسى حكمه، ليحل محله جهاد آخر، هو جهاد المسلم إذ يلاحق أخاه المسلم، هو قتال المسلم لأخيه المسلم، هو هذا التقطيع الذي يجري، ولايكاد العقل يصدق، في قطر من أقطار عالمنا العربي والإسلامي، وباسم الإسلام، العدو الصهيوني يقتل البرآء، ويطرد أصحاب الحق من بلادهم، ويأبى إلا أن يدنس القدس ويجعلها حكراً لذاته، والداعي في كتاب الله عز وجل يأمرنا بالوقوف في وجه هذه الطغمة، وأولئك الذين يزعمون أنهم مسلمون يديرون ظهورهم لهؤلاء الأعداء، الذين يَقتلون ويَذبحون ويَطردون ويُمعنون تقتيلاً وتقطيعاً إرباً إرباً لإخوانهم المسلمين، أجل، ويسمون ذلك جهاداً ويُعلن أن هذا عملٌ إسلامي، وفي مثل هذه الحالة إذ يختلط الحابل بالنابل، لماذا لا يسمي الصهيونية أيضاً عملهم هذا جهاداً، وما الفرق؟ لماذا لا يكون تذبيح البرآء، تقتيل الأطفال، تقتيل الآباء، طرد أصحاب الأوطان من أوطانهم، لماذا لا يكون ذلك أيضاً جهاداً، مادام الذين يقتلون مسلمين، هنا يذبح مسلمون وهنالك يذبح مسلمون، تلك هي المصيبة الكبرى التي تطوف بالعالم الإسلامي اليوم أيها الإخوة، ربنا عز وجل أمرنا بالجهاد، وأمرنا أن نقاتل المعتدي، فقال: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 2/190]. وتنطبق هذه الآية وغيرها على هؤلاء المجرمين ومَنْ وراءهم، ومع ذلك فيأتي من يرفعون لواء الإسلام فوق رؤوسهم ليقاتلوا المسلمين الذين لا يقاتلونهم، حتى الكافر أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن لا نخوض في أي حرب عوانٍ معه بل نحاوره، بل نحدثه بل ندعوه، فإذا احمرت عيناه حقداً وعدواناً على المسلمين، وأراد أن يمتشق سلاح العدوان بادرناه وسابقناه إلى ذلك، فما للمسلمين يذبحون هناك وما للمسلمين يذبحون هنا، والعالم الإسلامي ينظر، بل العالم الذي يزعم كاذباً أنه يرعى حقوق الإنسان ينظر مصفّقاً.
أيها الإخوة مفتاح حل هذه المشكلة يكمن في خطوة أولى لابد منها، هي رجوع العالم العربي فالإسلامي إلى أي نوع من أنواع الوحدة الحقيقية لا الكاذبة، ولن تقوم هذه الوحدة إلا على جاذب واحد لا ثاني له، هُو جاذب الإيمان بالله، جاذب الاصطلاح مع الله، جاذب المبايعة مع الله سبحانه وتعالى، عندئذ تتساقط الفوارق، تتساقط المذاهب المفرقة، ويعلو ويهيمن مذهب واحد هو مذهب العبودية الصادقة لله عز وجل، عندئذ تعود الوحدة فتولد بشكل ما، من أشكالها الحقيقية، فإذا تحققت هذه الوحدة، فإن الخطوة الثانية، لايمكن أن تتمثل إلا في الجهاد، فإن قال قائل ولكنا أقل من أن نجابه أمريكا، قلنا أنتم أقل من أن تجابهوا أمريكا عندما استطاعت أمريكا وغيرها أن تفرقكم، ولكن عندما تعودون فتتحدوا وعندما يجتمع منكم الشمل، وعندما يكون أساس هذا الشمل محبة الأخ لأخيه، فلا أمريكا ولا العالم كله يستطيع أن يحيل المحبة ما بين الأخ وأخيه إلى بغضاء، لايستطيع وعندئذ إذا اجتمع الشمل وتحققت الوحدة في معنىً من معانيها الصحيحة الحقيقية، فإن أي أمة من الأمم لا تستطيع أن تقف في وجهكم، ولكن الاستخذاء بدأ عندما تعشقت قلوبنا الدنيا، عندما تهنا في السبل المتعرجة التي نهانا الله عز وجل عنها، وأغضينا الطرف عن السبيل العريض الذي أمرنا الله باتباعه إذ قال: {وَأَنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 6/153]. لاأريد أن أطيل وليت أن جملاً أغنت عن كلامي الطويل هذا، لأننا نعيش في عصر نحن أحوج ما نكون فيه إلى العمل الصامت، الدائب، أما الكلام الاستهلاكي فهو مصيبة أخرى إلى جانب المصائب التي حاقت بنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.