مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 06/10/2000

المسجد الأقصى يحتاج منا إلى عمل صامت دؤوب

الحمد لله ثم الحمد لله‏،‏ الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده‏،‏ ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك‏،‏ سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك‏،‏ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له‏،‏ وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله‏،‏ وصفيه وخليله‏،‏ خير نبيٍ أرسله‏،‏ أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً‏،‏ اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد‏،‏ وعلى آل سيدنا محمد‏؛‏ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين‏،‏ وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏

أما بعد‏،‏ فيا عباد الله‏:‏



لاشك أنكم جميعاً تنتظرون أن أتحدث أنا الآخر عن هذه المجازر التي كانت وما تزال مستمرة‏،‏ والتي تدور رحاها على أناس برآء‏،‏ آمنين‏،‏ في حين أن العالم الذي يرعى ما يسمى بحقوق الإنسان‏،‏ لاأقول ينظر صامتاً‏،‏ بل ينظر مصفقاً‏،‏ أظن أنكم جميعاً تنتظرون‏،‏ أن أتحدث أنا الآخر عن هذه المأساة‏،‏ وأن ألهب مشاعركم بالحماسة أو بالألم المبكي والمفجع‏،‏ ولكني أعتقد أنني لن أفعل شيئاً من ذلك‏،‏ إن بوسعي أيها الإخوة‏،‏ أن أصوغ أنا الآخر كلمات بليغة‏،‏ بيانية‏،‏ حارة‏،‏ في وصف هذه الجرائم التي تدور رحاها كما قلت لكم على أناس برآء‏،‏ بوصفي وبقدرتي وبوسعي أن أسابق هؤلاء القادة‏،‏ البلغاء الفصحاء‏،‏ المتكلمين‏،‏ في هذا الصدد‏،‏ ولكن ماذا عسى أن أكون قد فعلت بذلك لخدمة الحق‏،‏ ولرفع هذه المأساة عن أصحابها‏،‏ إن فناناً واحداً يرسم هذه المآسي بريشته الفنية الدقيقة‏،‏ يستطيع أن يستثير المشاعر أكثر مما أستثيرها بلغتي البيانية‏،‏ إن أي إنسانٍ يحمل كاميرة محمولة بوسعه أن يصور أدق ما يكون التصوير‏،‏ هذه المآسي التي تقطع الأكباد‏،‏ بوسعه أن يصورها أكثر ما يصورها أي قائد من القادة‏،‏ أو أي رئيس من الرؤساء‏،‏ ولكن فماذا عسى أن تصنع ريشة الفنانين التي ترسم‏،‏ وماذا عسى أن تصنع الكاميرات التي تصور‏،‏ وماذا عسى أن يفيد الكلام البليغ الذي يرسله الخطباء ويملؤون به الآذان أو يملؤون به القلوب‏،‏ ولا شيء هذا وصفٌ لواقع‏،‏ ووصف الواقع لا يحرك ساكناً‏،‏ ولا يعبر عن شرف‏،‏ ولا يترجم شهامة بشكل من الأشكال‏،‏ ولذا فما الحاجة إلى أن أدلي أنا الآخر بدلوي‏،‏ في الحديث التصويري عن هذه المآسي‏،‏ لا حاجة إلى ذلك‏،‏ بل الحاجة‏،‏ تدعو إلى عدم الخوض في هذا الشأن الذي لا فائدة منه‏،‏ الحاجة تدعو إلى عدم العزف على هذا الوتر الذي لا يحرك ساكناً‏،‏ وإنما يستثير الأشجان وحده والعالم لا يبالي‏،‏ أن تستيقظ الأشجان أو أن ترقد‏،‏ العالم الغربي الوالغ في الإجرام لا يبالي بهذه المعزوفة قط‏،‏ بل لعله يريد أن يجعل العربُ والمسلمون اليوم من هذه المعزوفة تعويضاً عن الجهاد الذي أمرهم الله سبحانه وتعالى به‏،‏ تمنيت لو أن هؤلاء القادة الذين قالوا الكلام المبكي في تصوير أطفالٍ قُتِّلُوا‏،‏ في تصوير المجازر التي تدور رحاها على أولئك البرآء‏،‏ تمنيت لو أنهم صمتوا وبدلاً من هذا الكلام كله طردوا السفير الإسرائيلي من بلادهم‏،‏ واستقدموا ذلك السفير القابع ذليلاً بين أولئك المجرمين‏،‏ استدعوه لكي يعود إلى وطنه‏،‏ تمنيت لو أن الألسن صمتت‏،‏ وعبرّ الفعلُ الشريف عن نفسه‏،‏ ولكن قولوا لي ما قيمة ذلك الكلام كله الذي قيل ويقال اليوم من قبل أناس يحتضنون نموذج إسرائيل في بلدهم‏،‏ سفارة‏،‏ ماقيمة ذلك الصمت في مثل هذه الحالة‏،‏ هو أبلغ مايمكن أن يتم‏،‏ فيما لو غطي هذا الصمت بمثل هذا العمل‏،‏ يطرد هذا السفير من هنا‏،‏ ويستقدم نموذج دولة من الدول العربية والإسلامية من هناك‏،‏ وتمزق ورقة ذلك الصلح المهين‏،‏ ذلك السلم المهين‏،‏ بين أولئك الناس وهؤلاء‏،‏ عندئذ يتحرك العالم‏،‏ من أجل هذا لا أجد مجالاً للخوض في هذا الأمر على الطريقة التي يخوض بها الخائضون‏.‏


نعم‏،‏ إنّ ربنا سبحانه وتعالى أمرنا بسِلْمٍ ونهانا عن سِلْم‏،‏ أمرنا بالسّلم الذي يطرق العدو بابه ذليلاً خانعاً صادقاً‏،‏ فقال‏:‏ {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال‏:‏ 8‏/‏61] ونهى عن السلم الذي نحن نطرق به باب الأعداء‏،‏ أذلاء صاغرين‏،‏ فقال‏:‏ {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ} [محمد‏:‏ 47‏/‏35]‏.‏ فما الذي حصل‏؟‏ الذي يحصل أن هؤلاء الناس‏،‏ هؤلاء العرب أو فئة من العرب أبت إلا أن تطرق باب السلم‏،‏ بل باب الاستسلام‏،‏ متظاهرة بأنها تطرق باب السلم‏،‏ وخَطَتْ إلى ذلك الخطوة الأولى فالثانية والثالثة‏،‏ فكانت النتيجة هذا الذي نراه‏.‏


نعم ـ الحل أيها الإخوة أن يصمت اللسان وأن تتكلم الأعضاء‏،‏ لمثل هذا شرع الله سبحانه وتعالى الجهاد‏،‏ لمثل هذا أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بأن يهرعوا إلى القتال والعدة والسلاح‏،‏ وقال‏:‏ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال‏:‏ 8‏/‏60]‏،‏ في مثل هذه الحال أمرنا الله عز وجل بالقتال‏:‏ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة‏:‏ 9‏/‏111]‏،‏ أجل‏،‏ ولكن يا عجباً‏،‏ الجهاد الذي شرعه الله عز وجل‏،‏ وأمر به تُغمد أسلحته ويُتناسى حكمه‏،‏ ليحل محله جهاد آخر‏،‏ هو جهاد المسلم إذ يلاحق أخاه المسلم‏،‏ هو قتال المسلم لأخيه المسلم‏،‏ هو هذا التقطيع الذي يجري‏،‏ ولايكاد العقل يصدق‏،‏ في قطر من أقطار عالمنا العربي والإسلامي‏،‏ وباسم الإسلام‏،‏ العدو الصهيوني يقتل البرآء‏،‏ ويطرد أصحاب الحق من بلادهم‏،‏ ويأبى إلا أن يدنس القدس ويجعلها حكراً لذاته‏،‏ والداعي في كتاب الله عز وجل يأمرنا بالوقوف في وجه هذه الطغمة‏،‏ وأولئك الذين يزعمون أنهم مسلمون يديرون ظهورهم لهؤلاء الأعداء‏،‏ الذين يَقتلون ويَذبحون ويَطردون ويُمعنون تقتيلاً وتقطيعاً إرباً إرباً لإخوانهم المسلمين‏،‏ أجل‏،‏ ويسمون ذلك جهاداً ويُعلن أن هذا عملٌ إسلامي‏،‏ وفي مثل هذه الحالة إذ يختلط الحابل بالنابل‏،‏ لماذا لا يسمي الصهيونية أيضاً عملهم هذا جهاداً‏،‏ وما الفرق‏؟‏ لماذا لا يكون تذبيح البرآء‏،‏ تقتيل الأطفال‏،‏ تقتيل الآباء‏،‏ طرد أصحاب الأوطان من أوطانهم‏،‏ لماذا لا يكون ذلك أيضاً جهاداً‏،‏ مادام الذين يقتلون مسلمين‏،‏ هنا يذبح مسلمون وهنالك يذبح مسلمون‏،‏ تلك هي المصيبة الكبرى التي تطوف بالعالم الإسلامي اليوم أيها الإخوة‏،‏ ربنا عز وجل أمرنا بالجهاد‏،‏ وأمرنا أن نقاتل المعتدي‏،‏ فقال‏:‏ {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة‏:‏ 2‏/‏190]‏.‏ وتنطبق هذه الآية وغيرها على هؤلاء المجرمين ومَنْ وراءهم‏،‏ ومع ذلك فيأتي من يرفعون لواء الإسلام فوق رؤوسهم ليقاتلوا المسلمين الذين لا يقاتلونهم‏،‏ حتى الكافر أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن لا نخوض في أي حرب عوانٍ معه بل نحاوره‏،‏ بل نحدثه بل ندعوه‏،‏ فإذا احمرت عيناه حقداً وعدواناً على المسلمين‏،‏ وأراد أن يمتشق سلاح العدوان بادرناه وسابقناه إلى ذلك‏،‏ فما للمسلمين يذبحون هناك وما للمسلمين يذبحون هنا‏،‏ والعالم الإسلامي ينظر‏،‏ بل العالم الذي يزعم كاذباً أنه يرعى حقوق الإنسان ينظر مصفّقاً‏.‏


أيها الإخوة مفتاح حل هذه المشكلة يكمن في خطوة أولى لابد منها‏،‏ هي رجوع العالم العربي فالإسلامي إلى أي نوع من أنواع الوحدة الحقيقية لا الكاذبة‏،‏ ولن تقوم هذه الوحدة إلا على جاذب واحد لا ثاني له‏،‏ هُو جاذب الإيمان بالله‏،‏ جاذب الاصطلاح مع الله‏،‏ جاذب المبايعة مع الله سبحانه وتعالى‏،‏ عندئذ تتساقط الفوارق‏،‏ تتساقط المذاهب المفرقة‏،‏ ويعلو ويهيمن مذهب واحد هو مذهب العبودية الصادقة لله عز وجل‏،‏ عندئذ تعود الوحدة فتولد بشكل ما‏،‏ من أشكالها الحقيقية‏،‏ فإذا تحققت هذه الوحدة‏،‏ فإن الخطوة الثانية‏،‏ لايمكن أن تتمثل إلا في الجهاد‏،‏ فإن قال قائل ولكنا أقل من أن نجابه أمريكا‏،‏ قلنا أنتم أقل من أن تجابهوا أمريكا عندما استطاعت أمريكا وغيرها أن تفرقكم‏،‏ ولكن عندما تعودون فتتحدوا وعندما يجتمع منكم الشمل‏،‏ وعندما يكون أساس هذا الشمل محبة الأخ لأخيه‏،‏ فلا أمريكا ولا العالم كله يستطيع أن يحيل المحبة ما بين الأخ وأخيه إلى بغضاء‏،‏ لايستطيع وعندئذ إذا اجتمع الشمل وتحققت الوحدة في معنىً من معانيها الصحيحة الحقيقية‏،‏ فإن أي أمة من الأمم لا تستطيع أن تقف في وجهكم‏،‏ ولكن الاستخذاء بدأ عندما تعشقت قلوبنا الدنيا‏،‏ عندما تهنا في السبل المتعرجة التي نهانا الله عز وجل عنها‏،‏ وأغضينا الطرف عن السبيل العريض الذي أمرنا الله باتباعه إذ قال‏:‏ {وَأَنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام‏:‏ 6‏/‏153]‏.‏ لاأريد أن أطيل وليت أن جملاً أغنت عن كلامي الطويل هذا‏،‏ لأننا نعيش في عصر نحن أحوج ما نكون فيه إلى العمل الصامت‏،‏ الدائب‏،‏ أما الكلام الاستهلاكي فهو مصيبة أخرى إلى جانب المصائب التي حاقت بنا‏.‏


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم‏.‏






تحميل



تشغيل

صوتي