مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 29/09/2000

معاني تحملها فصول العام.. ينبغي إدراكها

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن الإنسان لن يكون مؤمناً حقاً إلا إذا كان كثير الذكر لله سبحانه وتعالى، وعندئذٍ يكون ممن شملهم قول الله عز وجل )وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ[، ويكون من أولي الألباب الذين نعتهم الله سبحانه وتعالى في محكم تبيانه بقوله )الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[، وإذا أصبح المؤمن كثير الذكر لله عز وجل كما أمر الله سبحانه وتعالى فإنه ما ينظر إلى معلمة من معالم الدنيا إلا وتذكره بالله، ولا يمر به فصلٌ من فصول العام إلا ويذكره بسنن الله سبحانه وتعالى ويعيده إلى ذكر الله عز وجل، وما يمر به وقت من الأوقات دق أو عظم إلا ويذكره بالله سبحانه وتعالى.

فإن نظر إلى ما يسمى بالطبيعة أو ما نسميه بالمكونات رأى فيها سطوراً تذكره بوحدانية الله وعظيم صنعه وإبداعه فهلل وسبح واستغفر ووحد وذكر الله سبحانه وتعالى.

وإذا مرت به فصول العام ذكره كلٌ منها بالله عز وجل؛ إذا وجد نفسه أمام فصل الربيع تذكر ولادته ونشأته وطفولته يوم أن خلقه الله غضاً صغيراً لم ينضج بعد تفكيره وعقله، ورأى في مظهر هذا الفصل تذكرة لحاله هو عندما كان طفلاً يافعاً، فإذا انتقل إلى فصل الصيف رأى في ذلك مظهر الشباب الذي تتكامل فيه القوى وينضج فيه التفكير وينضج فيه العقل وتتكامل مسؤولية الله سبحانه وتعالى تجاه هذا الإنسان، ذكّره هذا الفصل بالله عز وجل. وإذا رأى نفسه بعد ذلك أمام فصل الخريف رده هذا الفصل الذي يراه في مظاهر المكونات أو الطبيعة إلى خريف عمره وتبين من ذلك تنبيهاً من الله عز وجل للإنسان أن يصحو من غفلاته، وأن يعلم أن هذه الفصول التي تتوالى من أجزاء العام ليست إلا تنبيهاً للإنسان الذي آمن بالله عز وجل والذي ساقه إيمانه بالله إلى الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى. فأنت عندما تنظر إلى فصل هذا الخريف المداهم تتذكر بذلك خريف عمرك، وتتذكر بذلك النذر التي تتوالى عليك لتحدثك أن عليك أن تودع الدنيا التي طال لبثك فيها وطال تقلبك فيها، عما قريب سينتهي الخريف ويأتي الشتاء، عما قريب سيولي فصل الخريف من حياتك وما الشتاء إلا الحياة البرزخية التي تؤول فيها إلى الله سبحانه وتعالى.

هكذا يكون المؤمن وإلا فهو ليس بمؤمن حقا، ليس هنالك في المؤمنين من يتعامل مع الله سبحانه وتعالى في فهم آياته والتبصر بدلائل وجوده وحراسة شرعته وأحكامه ثم لا يكون فؤاده وعاءً لذكر الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً دون أن يربط بين إيمانه بالله ذاكراً الله عز و جل وبين مظاهر المكونات التي تمر عليه مشهداً وراء مشهد وفصلاً من أيام العام وراء فصل، لا يمكن.

فإن رأيت إنساناً يردد لسانه شعارات الإيمان والإسلام وقلبه غافلٌ عن هذا المعنى الذي أقول فاعلم أن هذا إنسانٌ كُتب عليه أن يكون مزدوج الشخصية، هو بلسانه مؤمن بل ربما كان عظيم الإيمان شديد الحماس يُذكر بالله عز وجل وشرعته وبضرورة إقامة المجتمع الإسلامي، هذه الكلمة التي تتكرر كثيراً على أسماعنا، فإذا تركت شخص لسانه ووقفت على شخص فؤاده وقلبه، رأيت هذا الفؤاد مليئاً بتذكر الدنيا، الشهوات، الأهواء، الملاذ، المبتغيات، الرئاسة، الزعامة إلى ما وراء ذلك من أمور الدنيا.

والإسلام لا يكون إسلاماً حقاً إلا إذا كان أوله جزعاً راسخاً بطوايا القلب وآخره أغصاناً متمثلة في السلوك والعمل، أما أن يكون الإسلام أغصاناً ظاهرةً منفصلة عن الجزع فلم نعلم إطلاقاً أن في أشجار المكونات شجرة من هذا القبيل.

ولقد قلت بالأمس وأقول وأذكر بما قلته اليوم: كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يتصف بصورة الرسوخ إلا إذا كان له باطن يحمل ظاهره، وهذه قاعدةٌ لا شذوذ فيها، فإن رأيت ظاهراً ليس من دونه باطن يحمله فاعلم أنه ستذروه الرياح عما قريب.

الجبل الأشم الذي نراه من أين جاء رسوخه؟ جاء رسوخه واستقراره من وجود قدر هذا الجبل ذاته ولكن مستقراً في باطن الأرض، هذا الباطن من الجبل هو الذي يحمل الجزء الظاهر منه، ولولا الباطن الخفي منه لما رأيت استقراراً ما لهذا الجبل على وجه الأرض.

الشجرة التي تبصرها راسخة ذات جزعٍ عظيم قوي، ما الذي جعلها تغالب الرياح المزمجرة؟ الجزع الخفي منها في باطن الأرض، ذلك الجزع ذلك الجزء الذي يضرب بجذوره يمين الأرض وشمالها في الباطن، ولولا هذا الجزء الخفي من الشجرة لما استقر الظاهر منها على وجه الأرض أبداً.

البناء العظيم الذي يزدحم بسكانه ما الذي جعله راسخا ًيطمئن سكان هذا البناء فيه؟ الأساس الخفي منه لولا الأساس الخفي في داخل هذا البناء لما استقام هذا البناء الظاهر على وجه الأرض لحظات.

كذلكم الإسلام، كل شيء خاضع لهذا القانون الرباني، الإسلام كهذه الشجرة كهذا الجبل كهذا البناء.. لا يستقيم الظاهر منه إلا على أساس من الباطن فيه، وبمقدار ما يكون الباطن الخفي من إسلام المسلم راسخاً ضارباً بجذوره في طوايا الفؤاد، فإن الظاهر من حركات هذا المسلم وأعماله يكون مقبولاً عند الله ويكون مثمراً، ولكن إن رأيت إسلاماً قد انبتت جذوره من طوايا الفؤاد وتحول إلى مجرد أقوال وأفعال ظاهرة فأعلم أنه كالبناء الذي لا أساس له، واعلم أنه كالشجرة التي أثبتت على ظاهرٍ من الأرض دون أن تكون لها جذورٌ تنخر في باطن الأرض.

من الذي يجهل هذه الحقيقة أيها الإخوة؟ كل شيء لا يترسخ ولا يستقيم ولا يستقر إلا على أساس من الباطن أولاً ثم الظاهر ثانياً، وأيهما يحمل الثاني، الظاهر هو الذي يحمل الباطن أم الباطن هو الذي يحمل الظاهر؟ كلكم أعتقد أنه يعلم الجواب، الباطن هو الذي يحمل الظاهر، الباطن الخفي من الجبل هو الذي يحمل ظاهره، الباطن الخفي من الشجرة هو الذي يحمل أغصانها وجزعها الظاهر، الباطن الخفي من البناء هو الذي يحمل طبقات البناء أجمع، الباطن الخفي من إسلام المسلم هو الذي يرعى الظاهر، هو الذي يرعى الظاهر، فمن أراد أن ينشد مدى قبول الله للظاهر من إسلامه ومن أراد أن ينشد الثمرات التي يعطيها الظاهر من إسلام المسلم فليرجع إلى المقياس الخفي من ذلك، فليرجع إلى ما استقر في قلبه.

والباطن الخفي مما يتألف؟ يتألف من حب يهيمن على الفؤاد، يتألف من تعظيمٍ لله عز وجل، يتألف من خوف من الله سبحانه وتعالى )وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ[، يتألف بعد ذلك من الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى وتذكره، ولست أعني بالذكر حركة اللسان، هذا جزء من أجزاء الظاهر، وإنما أعني بالذكر تذكر القلب، فذلك هو الجزء الخفي من الإسلام. أعني به قول الله عز وجل: )وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ[.

الحب أيها الإخوة هو روح هذا الإسلام الخفي، من لم يكن قد سرت في إسلامه الخفي هذه الروح فليعلم أن جزع إسلامه أصابه مرض معطب كالمرض الذي قد يصيب جزع شجرة في باطن الأرض، لا يستقيم إيمان إنسانٍ بالله إذا لم يعمر إيمانه حب الله سبحانه وتعالى.

وبالأمس قلت لكم: العقل وسيلة في حياة الإنسان وليس غاية، العقل الذي تتمتع به مصباح تستضيء به في طريقك إلى الغاية، والغاية التي تقف عندها هي أن يصبح قلبك وعاءً لحب واحدٍ لا ثاني له هو الله، أن يصبح وعاءً لتعظيم واحد لا ثاني له هو الله، أن يصبح قلبك وعاءً للخوف من واحد لا ثاني له هو الله سبحانه وتعالى. هذه هي الغاية، والعقل خادم العقل يوصلك إلى هذه الغاية، فمن طاف حول عقله وترنح في مكانه دون أن يستعمل عقله مصباحاً للوصول إلى هذه الغاية فهو كمن يراوح في مكانه تائه ضالٌ في أودية التيه والشرود عن الله سبحانه وتعالى.

المؤمن لا يكون مؤمناً إلا إذا كان كثير الذكر لله كما قال الله عز وجل، وإذا كان كثير الذكر لله فلا يمكن أن تبصر عيناه شيئاً إلا وتخاطبه بأنشودة الإيمان بالله، إن نظر بعينيه إلى الأعلى رأى السموات تذكره بالله عز وجل، وإن رمقت عيناه إلى فجاج هذه الحياة الدنيا رآها مشهد وراء مشهد..كل ذلك ينشد على سمعه نشيد الإيمان بالله ويذكر بوحدانية الله سبحانه وتعالى. فصول العام كلها تذكره بالله، ربيع العام يذكره بسنن الله، صيف العام خريفه شتاؤه كل ذلك يذكره بالله، ما من شهر يمر إلا ويذكره هذا الشهر بالله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون غافلاً.

نسأل الله عز وجل أن يقينا جميعاً من مكائد الشيطان ونسأله سبحانه بأن يمتعنا بإسلامنا الخفي الذي هو الأساس الباطني، وأن يجعل إسلامنا الظاهر ثمرةً وأغصاناً خضراء مثمرة لهذا الإسلام الباطن، كما أسأله سبحانه أن يلهمنا رشدنا وأن يلهمنا التوبة النصوح من سائر الأوزار وأن يثبتنا على ذلك.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي