مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 22/09/2000

لهذا نتقلب في مجتمع دجلٍ ونفاقٍ

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

لقد أوجز الله سبحانه وتعالى في بيانه القديم والقويم قصة هذه الأسرة الإنسانية وواجب الناس اتجاها في آية واحدة، هي صدر سورة النساء في كتاب الله سبحانه وتعالى وذلك إذ يقول عز وجل: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(.

أوضح البيان الإلهي في هذه الآية الموجزة الجامعة أن هذه الخليقة التي تملأ رحب الأرض أسرة، أسرةٌ تفرعت وتكاثرت من أبوين، ثم أوضح هذا البيان الإلهي أن نسيج العلاقة السارية ما بين أفراد هذه الأسرة إنما يتمثل في الود والألفة والحب، فتلك هي خميرة سعادة المجتمع الإسلامي والإنساني العام. ثم يوضح البيان الإلهي في نهاية هذه الآية واجب الناس أمام هذا الوضع الإجتماعي الذي أبدعه الله سبحانه وتعالى، إنه رعاية هذا النسيج، رقابة صلة هذا الود أن تنمو ولا تتراجع، أن تزداد اتصالاً وقوةً ولا تتقطع، هكذا يقرر بيان الله سبحانه وتعالى.

هذه الخليقة التي تنتشر في شرق هذه الأرض وغربها وشمالها وجنوبها أسرة واحدة، وقد شاء الله عز وجل أن تكون صلة ما بين أفراد هذه الأسرة متمثلةً في مشاعر الود، في مشاعر الحب والألفة، ثم أمر الله عباده أن يكونوا رقباء على هذه المشاعر، وأن لا يعكروا صفوها وأن لا يسيئوا إليها.

إذن أيها الإخوة المجتمع الإنساني لا ينهض إلا على دعامة رئيسية واحدة ألا وهي دعامة الحب، إذا قامت هذه الدعامة صافية عن الشوائب والزغل سعد المجتمع، وإذا لم تتحقق هذه الدعامة صافية عن الشوائب والزغل شقي المجتمع، ثم إن شقاء المجتمع يتفاوت صعوداً وهبوطاً حسب واقع هذا النسيج تقدماً وتأخراً. هكذا يقرر بيان الله سبحانه وتعالى.

ولكن فما الذي يحمي نسيج هذا الحب من التراجع؟ ما الذي يحمي صلة ما بين أفراد هذا المجتمع صلة الود والألفة؟ ما الذي يحمل هذه الألفة من العكر الذي يتسرب إليها؟

الذي يحمي هذه المشاعر شيء واحد، هو أن تكون هذه المشاعر موصولةً بمعين حب آخر ألا وهو بمعين حب العبد لربه سبحانه وتعالى، فإذا ما اتجهت أفئدة هذه الخليقة أجمع إلى محبة بارئها وخالقها والإله المنعم والمتفضل عليها وازدهر هذا الحب من العبد للرب سبحانه وتعالى، فإن مشاعر الود التي يمتد نسيجها ما بين الأفراد تظل صافية، وترفض العكر، وترفض الدخيل.

فلا يوجد من يتظاهر بالحب ليتسرب بمشاعر العداوة والبغضاء من وراء ذلك.

لا يوجد من يتبسم ويمثل من نفسه إنساناً ودوداً محباً، ولكن شعوره يفيض بالحقد والكيد والحسد.

لا يوجد من يمثل من نفسه إنساناً ودوداً يرعى الإنسانية ويسهر على حقوقها، ولكن لعابه يسيل على المغانم والمكاسب فهو يخدع إخوانه هنا وهناك، يخدعهم باسم الحب، وباسم رعاية حقوق الإنسان، يخدعهم هنا وهنا وهناك ليبتزهم وليستخدمهم وليجعل منهم عبيداً له وإن لم تكن هذه العبودية معلنة.

ما الضمانة أن لا يتربص الإنسان بأخيه الإنسان بهذا الشكل؟ ما الضمانة أن لا يخدع الإنسان صاحبه بالابتسامة الكاذبة ثم إنه يهيء من وراء ذلك أسباب دماره وشقوته؟.

الضمانة أن يكون نسيج هذا الحب كله منبثقاً ونابعاً من معين حب آخر، ألا وهو حب هؤلاء العباد جميعاً لمولاهم وخالقهم الذي يخاطبهم بهذا الكلام ويقول: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(. عندما يتحقق معين هذا الحب بين ثلة من أفراد المجتمع الإنساني، ولنفرض أنهم ثلة تتمثل في أهل حي، تتمثل في عشرات الأفراد فقط، فلا يمكن إلا أن يسري هذا الحب النابع من قلوبهم لمولاهم، لابد أن يسري إلى أفرادهم جميعاً، ولابد أن تتفرع منه صلة قربى وصلة حب تتنامى فيما بينهم تحت مظلة هذا الحب الإلهي الرباني. وكلما كثر المجتمع الذي يتحقق فيه هذا الشرط أيضاً تتنامى صلة هذه القربى ويتنامى نسيج هذا الحب فيما بينهم كبر المجتمع أو صغر.

ولكن عندما يغيب حب الله سبحانه وتعالى من أفئدة العباد ما الذي يحتل هذه الأفئدة؟ الذي يحتلها حب الذات حب العصبية، حب الغرائز حب المال حب الشهوات والأهواء، ومن ثم فلا بد لهؤلاء الأفراد أن يتنافسوا وأن يتسابقوا إلى هذه الأشياء التي استعمرت أفئدتهم بعد أن غاب عنها حب الله سبحانه وتعالى، والذي يحصل بعد هذا أن القوي في مضمار هذا التنافس يتغلب على الضعيف، يتغلب عليه في ميزان الخداع والنفاق والكذب والدجل، وأما المستضعفون فيقعون بين سنابك هذا السباق. ومجتمعنا الإنساني اليوم مثالٌ فريدٌ فذٌ على هذا الذي أقول، مجتمعنا الإنساني اليوم مجتمع دجلٍ ونفاقٍ وخداع وختل.

ما أكثر ما تسمع شعارات رعاية حقوق الإنسان، وما أكثر ما تسمع كلام المتفلسفين عن هذه الحقوق من أقصى العالم المتمدين إلى أقصاه، ولكن اخترق هذه الشعارات وانظر إلى العمل الخفي، وانظر إلى السلوك الواقعي لتجد أن هؤلاء الذين يرفعون هذه الشعارات وحوشٌ كوحوش الغابات، بل أستغفر الله وحوش الغابات منضبطة بغريزة، منضبطة بحاجة ماسة لبقاء الذات أما هؤلاء فإن وحشيتهم الضارية تتنزه عنها وحشية السباع.

انظروا إلى هذا العالم الذي يتخبطه ظلام الظلمات وظلام الظلم أنى التفت وأنى أبصرت، تجد قوةً مهيمنة مسيطرة لا تزيد نسبتها على أحد عشر بالمئة من سكان العالم، تجد هذه القوة هذه الفئة القليلة تستعبد وتستعمر وتبتز وتمتص خيرات المستضعفين الآخرين، تقوم الحروب هنا وهنا وهناك ولا تهدئ، تنبثق الفتن هنا وهنا وهناك ولا تنام، يخيل إليك أن هذه الفتن تنبثق بشكلٍ ذاتي من أماكنها، ولكنك إن نظرت بحصافة رأي ولا تحتاج إلى حصافة كبيرة، تعلم أن هذه القوى المسيطرة التي لا تزيد نسبتها على أحد عشر من سكان العالم هي التي تنفخ في نيران تلك الفتن، هي التي تهيج تلك الحروب، هي التي تدير رحى القتل ولكن بطريقة خفية مدروسة غير معلنة.

الشركات العالمية التي تمضي في انتاج الأسلحة لها طريقها في استثارة الحروب والفتن حتى تسوق أسلحتها، وأمريكا تبارك هذا العمل كله، حتى لها نسبةٌ كبيرةٌ من هذه الأرباح التي تجنيها من وراء دماء الشعوب البريئة.

الفتن التي تهتاج هنا وهنا وهناك خُطط لها، الناس الذين فرحوا بالأمس بأن نهضة اقتصادية ازدهرت فيما بينهم، ثم إن هذه الفرحة تحولت إلى حزن اليوم لأنهم لم يملكوا أن يتمموا فرحتهم بهذا النهج الإقتصادي المزدهر، إذا بهذا الوضع الاقتصادي قد اختنق، لم يختنق بشكلٍ ذاتي ولكن القوى التي تتحدث عن حقوق الإنسان هي التي فعلت هذا، وظلام المستقبل القريب أخطر من ظلمات الواقع التي تعاني منها الإنسانية اليوم في العالم كله. ما السبب؟

السبب أنه لم يوجد حصنٌ يقي ويحفظ نسيج الحب الذي قضى الله وشاء أن يمتد بين أفراد المجتمع الإنساني، نسيج هذا الحب لا يتم إلا بحراسة، حراسة هذا الحب تتمثل في أن تعود الأفئدة كلها إلى معين الحب، تتمثل في أن تعود هذه الأفئدة كلها فتغرف من معين حبها لله عز وجل، فإذا ذاقت الإنسانية متمثلة في أفرادها جميعاً محبة الله، صفت علاقة الحب فيما بين أفرادهم، وهيهات ثم هيهات أن يكون الحب مجرد أقنعة كاذبة مدجلة مزيفة ثم يكون من تحت هذه الأقنعة التربص والظلم والدجل والحال التي تعاني منها الإنسانية اليوم.

أجل مصيبتنا أيها الإخوة أن نسيج الحب الإنساني وهو رأس مال السعادة الإنسانية، يحتاج إلى رقابة، يحتاج إلى حصن، هذا الحصن غير موجود، وليس ثمة إلا حصن واحد هو حب العبد للرب. لو أن هؤلاء المسيطرون على العالم الذين يتحدثون آناً عن العولمة، وآناً عن النظام العالمي الجديد، لو أن مشاعرهم استيقظت على قبسٍ من حب الله عز وجل لا والله لما كاد منهم كائد للإنسانية التي من حولهم، ولاختفى الدجل، ولاختفى الكذب، ولاختفى الخداع والختل والنفاق، ولكن محبة الله غابت، ومن ثم فإن رقابة الله غابت، وهكذا تقلص الحب ونسيجه بين أفراد الناس وتحول إلى تربص، وتحول إلى وحشية يتربص من خلالها القوي بالضعيف.

وأخيراً ما موقف العقل أمام هذا الواقع أيها الإخوة؟ موقف العقل من هذا الذي أقوله لكم موقف الخادم.

في حياة الإنسان أمران عظيمان: العقل والحب. أيهما خادم للآخر؟ العقل هو الخادم للحب وليس العكس.

أنت تستعمل عقلك من أجل أن تعلم ذاتك، ومن أجل أن تعلم مولاك وخالقك، ومن أجل أن تعلم المجتمع الذي تعيش فيه، ومن أجل أن تعلم كيف يسعد المجتمع فرداً وجماعة، هذا هو عمل العقل فإذا أدرك العقل ذلك انتهت مهمة العقل الخادم وجاءت مهمة القلب المحب، ولكننا في هذا العصر ننكس الأمر نجعل من العقل الوسيلة والغاية، أما الحب فالحديث عنه يأتي بعد مراحل ومراحل. ماذا يفيدني العقل إذا اتخذت منه غايةً ولم أتجاوزه إلى هذا الذي شرحته لكم الآن؟

العقل مصباح كما قد قلت بالأمس وأنت عندما تمسك بالمصباح لتدخل داراً مظلمة في جنح ليلٍ مظلم، إنما تستعمل المصباح لترى سبيلك إلى هذه الدار، ولتعلم موطئ قدمك فيها، ولتعلم كيف تتعامل مع أسباب سعادتك داخل هذه الدار، فإذا تبين كل شيء فإنك ستتجاوز المصباح إلى الغاية. من هو هذا المجنون الذي يضع عينيه أمام المصباح يعبده لذاته لا لشيء آخر؟! العقل هو هذا المصباح، من لم يهتد بالعقل إلى معرفة الله فهو مجنونٌ بعقله، من لم يهتد بعقله إلى معرفة ذاته عبداً لله فهو مجنون في عقله، من لم يهتد بعقله إلى أن ترياق سعادة المجتمع إنما هو نسيج هذا الحب فهو مجنونٌ بعقله، ومن لم يعلم أن نسيج هذا الحب لا ينمو ولا يتألق إلا إذا كان موصولاً النسب بمعين من حب الله عز وجل من لم يستعمل عقله لهذا فهو مجنونٌ بعقله.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا بالمعنى العظيم لهذه الآية التي افتتح البيان الإلهي بها سورة النساء ونسأله عز وجل أن يبصرنا بمعنى قوله سبحانه: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ(.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي