مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 18/08/2000

يكفيك العمل القليل

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله.

أنا أصغي السمع جيداً بين الحين والآخر إلى الأحاديث الكثيرة التي تنطلق من أفواه المتكلمين الدعاة إلى دين الله سبحانه وتعالى عن الإسلام وأهميته، وعن الأفكار الإسلامية التي ينبغي أن تُتخذ سلاحاً في وجه المتربصين بالدين، وفي وجه الذين يتآمرون عليه بالخطط الواردة وغيرها... أُصغي السمع فأجد أن المجتمعات الإسلامية مليئة بحمد الله تعالى من الأحاديث التي تُلقى في محاضرات والتي تُلقى في ندوات وفي مؤتمرات، والتي تُؤلف فيها كتبٍ ومؤلفات.. كلها تتناول الحديث عن عظمة الإسلام وأهميته، وعن المشكلات التي تطوف بالعالم الإسلامي، والتي تترصد كبد الإسلام، وأُصغي السمع إلى خطط توضع وإلى علاجات تُرسم وإلى واجباتٍ تذكر.

ولكني لم أجد مرةً واحداً من هؤلاء يغوص وهو يتحدث عن الإسلام ومشكلاته، والعلاجات التي ينبغي أن يهرع إليها المسلمون، لم أجده يتحدث عن العلاجات القلبية وعن المشكلات القلبية التي هي المعين للإصلاح إذا بحثنا عن الصلاح، والتي هي معين الفساد ومصدره إذا أردنا أن نتفحص أسباب أمراضنا ومنطلق أدوائنا. لم أجد من يتحدث مثلاً عن أهمية الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وكم وكم أصغيت السمع لعلي أسمع فلم أجد لا في ندوات عُولج هذا البحث ولا في مؤتمرات ولا في كتابات ولا في ندوات.

أصغيت السمع جيداً لعلي أصغي إلى من يهيب بالمسلمين أن يزهدوا بالدنيا كما كان يهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، وما أكثر الأحاديث التي نبه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أهمية الزهد في حياة المسلمين فلم أجد من عرّج على هذا الموضوع بكلمة.

حاولت أن أصغي السمع جيداً فأقف على من يتحدث من هؤلاء جميعاً عن الأمراض الباطنة الأمراض القلبية التي تتمثل في الكبر في العناد في العصبية للذات والعصبية للمذهب والعصبية للأفكار.

لم أجد من يتحدث عن الأحقاد، عن الضغائن، عن أهمية الحب في الله عز وجل لم أجد من يتحدث في هذا قط، وإنما الكل يُهرع إلى الحديث عن الظواهر. ما هي المشكلات التي تبدو على مسرح العالم الإسلامي؟ ما هي الخطوات الظاهرة التي تبعث على التباهي والتي تبعث على الاعتداد بالذات والتي تبعث على مدح الإنسان بنفسه وعلى اعتداده بآماله؟ هذا كل ما أراه.

وأنا أقول إن المكتبات التي يذخر بها العالم الإسلامي تفيض بالكتب الإسلامية، وأنا أعلم أن معظم القراء هم أولئك الذين يُهرعون إلى التقاط الكتب الإسلامية، لكن لا الذين يكتبون تهمهم هذه الموضوعات الأساسية، ولا الذين يقرأون يبحثون في هذه الكتب عن هذه الأساسيات التي كان السلف الصالح يجعل منها مدخلاً إلى كل كتبٍ تتحدث عن الإسلام.

اقرأوا أي كتابٍ في حديث رسول الله تجدون باب الإخلاص في مقدمة أحاديث هذا الكتاب.

اقرأوا أي مرجعٍ من المراجع الإسلامية التي خطتها أيدي رجال السلف الصالح تجدون أن الحديث عن القلوب ومكامنها وأمراضها وعلاجاتها وكيفية تطهير القلوب من السخائم هي الأساس الذي يوضع لسائر البحوث الإسلامية التي تأتي بعد ذلك.

أما اليوم فأقرأ ما يمكن أن تجده من المؤلفات الحديثة تجدها مبعثرة عن هذه الأساسيات، تجد الباحث يقفز فوقها إلى الحديث عن المظاهر، إلى الحديث عن المشكلات الفوقية، الخطط الوافدة إلينا من الغرب، والخطط التي ينبغي أن تُرسم من المسلمين للتصدي لتلك الخطط، المرأة ومشكلاتها في العالم الإسلامي وكيف ينبغي أن نكتب ونتحدث ونتهجم على أولئك الذين يتربصون بالمرأة المسلمة، المجتمع الإسلامي وكيف ينبغي أن يتوج بالحكم بما أنزل الله، والأمور الاقتصادية التي ينبغي أن تتحول من أحكامها الوضعية إلى ما قد أمر الله، كل هذا أمر سليم وجيد، لكن ذلك كله فروعٌ عن أساس، وإن لم نبدأ بالأساس فلن نستطيع أن نحقق شيئاً من هذه الخطط التي نتحدث عنها ونكررها. وها نحن نتحدث فأين هي النتائج؟

وها نحن نكتب.. وها نحن نلقي المحاضرات.. وها نحن نجتمع في ندوات ومؤتمرات.. لكن على هذا النهج السطحي دون أن نعود إلى هذه القلوب التي إليها علاج مشكلاتنا، والتي إليها علاج تفرقنا، والتي إليها علاج الاجتماع على كلمة واحدة لإصلاح أمورنا، لا نبدأ من هذا المنطلق ومن ثم فإن كل الجهود التي تُبذل وهي جهود سليمة، ولكن نظراً إلى أنه بناءٌ لا ينهض على أساس، فإن هذا البناء لا يمكن أن يكنّ صاحبه ولا يمكن أن يحميه أيضاً من الأخطار الوافدة إليه بشكل من الأشكال.

كنت الساعة كشأني في كثيرٍ من الأحيان أعود وأعيد النظر في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القلوب ورعايتها وأمراضها وعن الإخلاص لدين الله سبحانه وتعالى، وقفت على هذا الحديث.. ولكم وقفت عليه ومررت عنه، ثم عدت إليه ومررت عنه، والتفت يميناً وشمالاً فلم أجد من يحفل بهذا الحديث وأمثاله، بل وجدته غريباً في مجتمعاتنا الإسلامية في هذا العصر، روى الحاكم في مستدركه على شرط الشيخين من حديث معاذ رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أرسلني إلى اليمن سألته أن يوصيني فقال لي: ﴿أخلص دينك لله يكفك العمل القليل﴾.

هذا معاذ رضي الله عنه يقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة يودعه فيها إلى مهمة كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، يقول له معاذ: أوصني. ومعنى ذلك أن المطلوب منه عليه الصلاة والسلام في هذه الدقائق القصيرة أن يقول له كلمات موجزة تحمل في ثناياها معاني أساسية، تحمل في ثناياها معاني جامعة لكل شوارد هذا الدين، فقال له هذه الكلمة الجامعة: ﴿أخلص دينك لله يكفك العمل القليل﴾، ومضى معاذ بهذه الوصية لا يحتاج لأكثر منها.

وهذا شأن أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم، لم يتفلسفوا كثيراً أيها الإخوة، لم يقرأوا كتباً كثيرة في الحديث عن خطط رُسمت كيف تُنفذ، وفي الحديث عن مواجهات لخطط واردةٍ كيف ينبغي أن يتكتك المسلمون للوقوف في وجهها إطلاقاً، ما احتاجوا إلى شيء من هذا لكنهم احتاجوا إلى أن تشبعوا بهذا الكلام الجامع الموجز المختصر المفيد. ﴿أخلص دينك لله يكفك العمل القليل﴾.

أين هم الذين يعقدون مؤتمراً حول هذا المعنى؟ يعقدون ندوةً حول استخراج المعان الكثيرة والكثيرة من هذا الحديث؟ أين هي المحاضرات التي تُلقى في تفسير هذا المبدأ الذي يوصي به رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذً في ساعة قدسية يودعه فيها إلى غير لقاء، ذلك الموقف هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿يا معاذ لعلك لن ترانِ بعد هذا العام أبداً ولعلم إن عدت أن تمر بمسجدي هذا وقبري﴾.

نعم أين هم الذين يتحدثون في هذا؟ هذا مع العلم بأن أمراضنا تتمثل في غياب الإخلاص لله عن قلوبنا وأن دوائنا الأول يتمثل في ضرورة السعي إلى استعمال هذا الترياق هذا العلاج الإخلاص لله سبحانه وتعالى.

انظروا إلى حركات المسلمين وسكناتهم وأقوالهم وأفعالهم، وحاولوا أن تتحسسوا وأن تتبينوا ما وراء هذه الأفعال لن تجدوا مظاهر إخلاص وإنما هي دوافع إلا من رحم ربك دوافع إلى رغبة دنيوية، دوافع إلى رئاسة، دوافع إلى زعامة، دوافع إلى مال، دوافع إلى انتصارٍ سياسي في معركة سياسية، ربما ترتفع شعارات إسلامية أو غير إسلامية ليس المهم الشعار، المهم ما استكنّ في القلب نعم.

وآية هذا أيها الإخوة أن الإنسان الذي يُخلص لله سبحانه وتعالى تفوح رائحة الإخلاص من سلوكه، يكون رباني السلوك، يقوم قبل أن يُأذن للفجر يقف بين يدي مولاه وخالقه ليطرد النوم من عينيه وليتحرر من النعاس الذي كان قد هيمن عليه، يجافي جنبه عن مضجعه كما قال سبحانه وتعالى؛ يقف راكعاً ساجداً مناجياً ثم يجلس مستغفراً، فإذا أُذن للفجر هُرع إلى مسجدٍ قريب أو بعيد يُصلي مع الجماعة الأولى.

العاملون في حقل الإسلام المخلصين لدين الله هكذا يكون شأنهم.

ولكن انظر وتأمل - وأنا لا أقول انظر وتأمل لنتجسس على حال أناس سترهم الله - ولكن على كل منا أن يعود إلى واقع نفسه وأن يكون نصوحاً لأخيه في الله سبحانه وتعالى، تجد أننا بمقدار ما نتحدث عن الأخطار التي تُحيق بالعالم الإسلامي وبمقدار ما نتكلم عن الخطط التي ينبغي أن ترسم للوقوف في وجه هذه الخطط وأربابها، بمقدار ما ننشط في هذا المسعى بمقدار ما نتكاسل في هذا الجانب الآخر.

إذا أُذن للفجر أكون في ساعة أذوق فيها ألذ ساعات الرقاد، وإذا كنت ممن يتباهى أنه من السباقين إلى أداء فرائض الله أقوم قبل طلوع الشمس فأسرع فأتوضأ وأصلي ركعات أسابق فيها الشمس قبل أن تتطلع، ثم إني أعود بعد ذلك إلى مضجعي إلى ما شاء الله، هذا هو واقعنا، فإذا علا النهار وعاد النشاط خرجت أتحدث عن الإسلام وأتحدث عن بقية الكلام الذي كنا نتحدث عنه بالأمس.

عندما نكون في مؤتمرات عن الإسلام - وأن أصف لكم واقعاً أيها الإخوة - ربما كان بين هؤلاء الناس ثلة قليلة جداً ممن يراقبون قلوبهم ويتذوقون طعم الإخلاص لله في نفوسهم، يبحثون عن مكانٍ يتخذونه مسجداً في ذلك الفندق الذي ينزلون فيه، ويتداعون إلى الالتقاء في ذلك المكان في الفندق عند صلاة الفجر. كم عدد الذين يجتمعون؟ يذهب الواحد منهم إلى هذا المسجد يلتفت يميناً وشمالاً فلا يجد إلا ثلاثة أو أربعة أو خمسة نعم، أين هم أقطاب الإسلام؟ أين هم الذين جاؤوا قد رسموا خططاً عظيمةً في الوقوف في وجه الخطط التي تتربص بدين الله عز وجل؟ أين هم البلغاء أصحاب البيان الرائع الذين يُسخرون بيانهم للحديث عن الإسلام؟ إنهم يغطون في رقادٍ لذيذ في تلك الساعة. أجل هذا هو واقعنا. فإذا علا النهار وتجاوزت الساعة التاسعة رأيت كلاً يُهرع إلى القاعة التي يجتمع فيها المتكلمون كلٌ يتأبط حقيبته ويحمل أوراقه ويحمل ما قد هيأه من بحوثٍ ومداخلات ومناقشات.

صورة أيها الإخوة والله لا أبالغ، والله إني لأرسم الواقع، والله عز وجل يرى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل: ﴿تُعرض أعمالكم علي فما وجدت من خيراً حمدت الله عليه وما وجدت من شرٍ استغفرت الله لكم﴾. نعم يرى رسول الله ما يُريه الله من واقعنا، ورسول الله يقول: ﴿أخلص دينك لله يكفك العمل القليل﴾، لن تحتاج إلى خطط كثيرة، لن تحتاج.. سيعينك الله.

أرأيتم إلى المسلمين الذين يبلغ عددهم ما يزيد عن المليار أجل، هم ثلث هذا العالم تقريباً اليوم، لو أن الثلث من هؤلاء المسلمين أخلصوا دينهم لله ووضعوا في مغرس أفئدتهم حب الله، تعظيم الله، المهابة من الله اضطراح كل شيء مما سوى الله ورائهم ظهرياً، والله الذي لا إله إلا هو لرأيتم أن الحضارة الغربية بكل روادها قد ذابت، ولرأيتم أن الله قد خيب خطط هؤلاء المخططين، ولرأيتم أن العولمة بكل سهامها قد ارتدت إلى أصحابها، والله الذي لا إله إلا هو..

ولكن الله ينظر فيرى أن كثيراً من المسلمين اتخذوا من الإسلام مطية ذلولاً لهم، هذا من أجل جمع مزيد من المال، هذا من أجل تحقيق مزيد من الرفاهية، هذا من أجل الوصول إلى سدة الرئاسة والزعامة التي يحلم بها، هذا من أجل أن ينتصر لمذهبه ولفكره السياسي الذي يُقنع بقناع الإسلام، والقلة القليلة التي تضيع بين السنابك هي التي تخلص لله سبحانه وتعالى.

أعود فأقول أيها الإخوة عودوا إلى مفاتيح كتب الحديث، عودوا إلى فواتح الكتب التي اختطتها يد السلف الصالح عن الإسلام تجدون أن المنطلق أن الأساس أن الروح أن أول ما ينبغي أن يعرفه الإنسان هي أمور القلب هي الإيمان، هي التصديق، هي الإخلاص، هي الزهد في الدنيا، هي الزهد في كل ما سوى الله، هي حب الله، تعظيم الله، الخوف من الله ثم ينطلق الإسلام بعد هذا إلى الأعضاء والألسن والأقلام وما إلى ذلك.

أسأل الله أن يصلح حالنا، أسأل الله عز وجل أن يُصلح قلوبنا ليهدي أعضائنا وألسنتنا وأقلامنا.عبد إلى الله سبحانه وتعالى ولو لم يكن في كتاب الله عز وجل من الدلائل على ذلك إلا قول ا

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي