مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/07/2000

المعنيون بحديث أمتي هذه أمة مرحومة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

سألني أحدهم - وكان مسرفاً على نفسه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم في مستدركه: (أمتي هذه أمة مرحومة مغفورٌ لها). قال لي: ففيم تحذرون الناس وتخوفونهم من مقت الله وعذابه؟ وفيم تيؤسونهم من رحمة الله سبحانه وتعالى ولطفه؟ وها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بأن أمته كلها أمة مرحومةٌ مغفورٌ لها غداً إذا قام الناس إلى رب العالمين؟!.

قلت له وأقول لكم أيها الإخوة أيضاً: أعلم أن كثيرين هم الذين تطوف برؤوسهم هذه الفكرة، والذين يوسوس الشيطان إليهم بهذا المعنى ليحملهم على مزيدٍ من الإنحراف وليحملهم على مزيدٍ من الفسوق والعصيان وهم آمنون مطمئنون بأن الله عز وجل سيغفر لهم الذنوب كلها. قلت له:

إذا صادف هذا الحديث إنساناً فاض قلبه بذل العبودية لله عز وجل - بقطع النظر عن سلوكه - فلن يزيده كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا إلا حياءً من الله، ولن يزيده كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا إلا خجلاً من انحرافه وعصيانه وإعراضه عن هذا الإله الكريم به والحفي به، وهو مع ذلك يظل معرضاً عنه، وهو مع ذلك يظل تائهاً يُصم أذنيه عن وصايا الله عز وجل ونصائحه، ومن ثم فإن هذا الإنسان واحدٌ من أمة رسول الله، وهو مغفورٌ له إن شاء الله تعالى.

أما إن صادف هذا الحديث - وأمثاله كثير - قلباً فارغاً من معنى العبودية لله عز وجل لا يستشعر نسب ما بينه وبين الله عز وجل، فإنما يرى في هذا الكلام فرصةً سانحةً لمزيدٍ من العبث بأوامر الله ولمزيدٍ من الإعراض عن صراط الله سبحانه وتعالى، أفتضمن يا هذا إذا جاء الموت وحان ميقاته أن يرحل هذا الإنسان وأمثاله من هذه الحياة الدنيا وهو مؤمن؟! أفتضمن بالنسبة لإنسانٍ فرغ قلبه من معاني العبودية لله عز وجل أن يختم الله له بخاتمةٍ حسنة؟! وإذا كان الأمر على ما يتخوفه كل عاقل وخُتم لهذا الإنسان بخاتمة سيئة، فمن ذا الذي قال لك إنه يكون غداً واحداً من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. إنما يعني المصطفى بكلامه هذا أمة الاستجابة ولا يعني أمة الدعوة.

أيها الإخوة هنالك حاجزٌ دقيق بين الرجاء الذي ينبغي أن لا يغيب عن بال إنسان مسلم وبين الخوف الذي ينبغي أن لا يغيب هو أيضاً عن بال إنسان مسلم قط، هذا الحاجز يتمثل في رأس مالٍ واحد، لا أقول إنه كثرة الصلاة ولا أقول إنه كثرة العبادة والطاعات والأذكار، ولكني أقول إنه استشعار القلب حقاً وصدقاً بعبودية هذا الإنسان لله سبحانه وتعالى. هذا هو الحاجز الذي ينبغي أن نتبينه دائماً.

قلت: هنالك حديث يبعث مزيداً من الرجاء أكثر من هذا الذي تقول، ورد في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء إليه بأسرى فإذا بإمرأة بين الأسرى تبحث عن شيء فوقعت على طفلٍ فألصقته بصدرها - تبين أنه ابنها فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم إلى هذه المرأة أملقية وليدها في النار؟) قلنا: لا والله يارسول الله. قال: (لله أشد رحمةً بعباده من هذه بوليدها)

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن تعالوا فافهموا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفما ينبغي للمؤمن أن يفهمه، كما ينبغي لمن عرف هويته عبداً لله أن يفهمه. كن من الله عز وجل كهذا الطفل من أمه يغفر لك الله الذنوب كلها تماماً كما قال رسول الله، لكن هل أنت كذلك؟ الطفل الصغير مهما كان شقياً مهما كان بعيداً عن تنفيذ أوامر أبويه إذا طافت به مخافة إذا شعر بخطر ألم به أو دنى إليه يُهرع رأساً فيتشبث بأذيال أمه أو أبيه أليس كذلك؟ كن في ارتجاءك إلى الله عند الشدائد كارتجاء هذا الطفل إلى أمه عند المخاوف، يكن لك الله سبحانه وتعالى كما كانت هذه الأم باتجاه وليدها.

لكن العجب أيها الإخوة أن في الناس من فرغت أوعية قلوبهم عن مشاعر العبودية لله سبحانه وتعالى فأصبحوا لا يريدون أن يعلموا من الدين إلا ما يدل على أن عليهم أن يطمأنوا وهم عاكفون على غيهم وانحرافاتهم دون خجلٍ من الله ودون حياءٍ منه ودون أن توقظهم مشاعر العبودية إلى توبة إلى رجوع إلى الله عز وجل. من قال: إن هؤلاء من الله عز وجل كأمثال هذا الطفل من أمه نسب ما بين الطفل والأم موصول وليس مقطوعاً بشكلٍ من الأشكال.

ألم تقرأوا أيها الإخوة قول الله سبحانه وتعالى وهو يروي لنا حواره مع إبليس الذي آل على نفسه أن يُغوي عباد الله عز وجل جميعاً بعد أن أنظره الله عز وجل إلى يوم القيامة، ماذا قال له الله عز وجل؟ (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين) وقفت طويلاً عند هذه الكلمات (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، كل الناس عباد الله كل الملاحدة كل الكافربن كل الفسقة من أقصى شرق العالم إلى غربه عبادٌ لله عز وجل. فما معنى قوله سبحانه إن عبادي ليس لك عليهم سلطان؟ أي إلا من تحققوا بصفة العبودية لي، من استشعروا عبوديتهم لي ووضعوا هذه العبودية من حياتهم موضع التنفيذ، هؤلاء لن يكون للشيطان سلطان عليهم.

ما معنى ذلك؟ أفمعنى هذا أنهم يعيشون معصومين؟ لا. أفمعنى هذا أن العبودية تجعلهم في حصنٍ محصنٍ ضد الآثام وضد الآفات والمحرمات؟ لا؛ كل ابن آدم خطاء. لكن معنى هذا أن الإنسان الذي فاض قلبه بيقين عبوديته لله عز وجل قد تزل به القدم قد يرتكب الموبقة وقد يرتكب الفاحشة فإذا مر بها وتجاوزها استيقظت عبوديته لله بين جوانحه فاهتاجت مشاعر الندم في فؤاده وتألم على ما قد بدر منه وأقبل إلى الله يطرق باب الإنابة إليه تائباً راجعاً والله عز وجل يتوب، وبذلك تنمحي أخطاؤه التي ارتكبها.

ربما يعاوده الشيطان فتزل به القدم مرة أخرى، ولكن عبوديته لله بالمرصاد. تستيقظ عبوديته لله عز وجل مرةً أخرى فيتألم وربما يبكي ويقول كما قال ذلك النادم: تعست ليلة عصيتك فيها. كيف لم أستح وأنت الرقيب. يعود إلى حمى الله عز وجل ويجأر إليه بالألم والتوبة ويسأل الله أن يغفر له. فماذا يقول له الله؟ نعم (علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به)، نعم يتوب وهكذا يمضي العمر كله مهما ارتكب من الآفات والمعاصي فإن عبوديته الحقيقية لا الاصطناعية تدعوه إلى التوبة الحقيقية لا الاصطناعية، ولهذا يصدق كلام الله عز وجل: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ).

أيها الإخوة إذا رأيتم الآيات التي تملأ كيان الإنسان أملاً برحمة الله، وإذا رأيتم الأحاديث الكثيرة التي تؤكد هذه الحقيقة فعودا إلى مشاعر العبودية لله بين جوانحكم. هل قلوبكم فيّاضةٌ بهذه العبودية التي هي هويتنا الكبرى والوحيدة لله عز وجل؟ إذاً فأنتم أهلٌ لأن تدخلوا في باب هذا الرجاء، أما إذا كان أحدنا يسمع هذه الآيات وهذه الأحاديث وقلبه مفعم بالشهوات والأهواء قلبه مفعم برغائبه محجوب عن الله سبحانه وتعالى بهذه المكونات التي يسيل لعابه على من فيها من مبتغيات، فاعلموا أن ليس لكم من نصيب في هذه الآيات وهذه الأحاديث أبداً.

اضمن أن ترحل إلى الله بخاتمة حسنة، أضمن لك أن تكون أهلاً لهذه الأحاديث المبشرة. فهل أنت ضامن ذلك؟ ما الجسر الذي يقيك من الانحراف يمنة أو يسرة ومن الوقوع في حمأة الكفر والضلال؟ يقينك بعبوديتك لله بالنحو الذي ذكرت، إذا جاءك الموت غداً وأنت تلوذ من الدنيا كلها ومن شهواتك ومن شيطانك ومن نفسك بمشاعر عبوديتك لله فأنا أبشرك بالخاتمة الحسنة، وإذا آل الإنسان إلى الله بخاتمة حسنة غفر الله ذنوبه وإن كانت كزبد البحر، ولكن إذا قلبك فارغاً عن مشاعر عبوديتك لله عز وجل ليس بين جوانحك ما يبكيك على خطيئتك ليس بين جوانحك ما يستثير أشجان الأسى والألم والندم على معاصيك ويسوقك إلى رحاب الله تائباً مستغفرا ًحقاً، فما هي الضمانة وأنت ترحل إلى الله وأنت تحمل إلى الله هوية أنك واحد من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

أسأل الله عز وجل أن يملأ أفئدتنا بمشاعر عبوديتنا الحقيقية لله وأن يجعل من هذه العبودية الحقيقية شفيعاً لنا بين يديه غداً إذا قام الناس لرب العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي