مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/06/2000

لا يضركم من ضل إذا اهتديتم

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

آيتان في كتاب الله عز وجل في خواتيم سورة الحجرات لو تدبرهما المسلم وعمل بهما لكفتاه، ولرحل فيهما إلى الله سبحانه وتعالى وهو عنه راض مهما قلت أعماله ومهما قلت طاعاته وعباداته وقرباته. هما قول الله سبحانه وتعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ(.

لاحظوا أيها الإخوة كيف أن هاتين الآيتين تكادان تكونان مهجورتين من حياة كثيرٍ من المسلمين في هذا العصر.

ولاحظوا كيف أن هذه الوصية الجامعة المؤثرة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم غدت هي الأخرى غريبةً عن أسماع كثيرٍ من المسلمين بل غريبة عن سلوكهم وأعمالهم أيضاً.

أنظر إلى هذا الذي يقوله الله عز وجل لنا وإلى ما يؤكده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنظر إلى حال كثيرٍ وكثير من المسلمين في هذا العصر، يُخيل إلى أحدهم أن الله سبحانه وتعالى إنما أقامه حارساً ورقيباً على أموال الآخرين من الناس دون أن يكلفه بأي مسؤوليةٍ تجاه نفسه، تتأمل في حال أحدهم وإذا هو يضع على عينيه مناظير مكبرة ليتبين من خلالها أحوال المسلمين من حوله، بل ليخترق بهذه المناظير ظواهرهم إلى طوايا قلوبهم، ثم ليعود من ذلك بالتقارير التي يقررها ويجزم بها عن هؤلاء الناس، ويجلس ليحرك لسانه بقالة السوء، بالظنون بالحديث عن أحوال هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء من الناس، أما هو أما حاله فالرجل عند نفسه غير مكلفٍ بشيء، إنما أقامه الله موظفاً لمراقبة حال الآخرين، أما حاله هو .. أما دخائل نفسه .. أما سلوكه مع الله .. أما تقصيراته في جنب الله عز وجل فلا يخطر شيء من ذلك منه على بال. أليس هذا هو واقع كثيرٍ وكثيرٍ من المسلمين في هذا العصر أيها الإخوة؟.

انظر إلى هذا الواقع المتكاثر وأقارن بينه وبين هاتين الآيتين المخيفتين في كتاب الله عز وجل: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ (ما معنى عسى؟

أي أنتم لا تعلمون أحوالهم لا تعلمون خفيات أمورهم عرفتم من ظواهرهم أشياء وغابت عنكم أشياء ولم تعرفوا من بواطنهم شيئاً. لا تدخلوا فيما لا شأن لكم فيه لا تحملوا أنفسكم مسؤوليةً لم أحملكم شيئاً منها اطلاقاً.

)لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(. أين واقع المسلمين من هذه الوصايا العجيبة الجامعة في كتاب الله؟ ثم انظروا إلى قوله: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ(.

كثيراً ما تساءلت عن وجه التقابل المتفاوت بين قوله: كثيراً من الظن وقوله: بعض الظن.

ينهى عن كثيرٍ وكثيرٍ من الظن ثم يوضح أن علة هذا النهي هو أن بعض الظن إثم. إذن يارب لماذا لم تنهنا عن بعض الظن فقط مادام أن بعض الظن هو الإثم؟! ذلك لأنك لا تعلم هذا البعض أين يكون، لا تعلم. ومطلوب منك أن تحتاط، فإذا كان بعض ما تظنه في عباد الله عز وجل خطأً وسوءاً فيجب عليك أن تجتنب مساحة أكبر وأكبر حتى تعلم أنك قد ابتعدت عن الوقوع في إساءة الظن مع من لم يكونوا أهلاً لذلك. ينهاك الله عز وجل عن الظن السيء عموماً لأن هنالك حالات أنت مخطأ في إساءة الظن فيها. لاحظوا هذا المعنى الدقيق في بيان الله عز وجل ولاحظوا واقع المسلمين اليوم.

)وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ( ما رأيت فاكهةً يجتمع عليها المسلمون - ولا أقول غير المسلمين - بل أقول أكثر من ذلك، ما رأيت فاكهة يجتمع عليها كثيرٌ من الإسلاميين من المتحركين من أجل الإسلام كفاكهة الغيبة يجتمعون عليه، وكأن القرآن لم يتنزل خطاباً لهم وكأنه قومٌ ممتازون عن سائر الناس لم يكلفهم الله أن يعودوا إلى دخائل أنفسهم بالمراقبة والنظر والتطهير بشكل من الأشكال، وكأنهم قد وضعوا في آذانهم ما يحجبهم عن سماع قول الله عز وجل: )وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ(.

أيها الإخوة أمراض المسلمين كثيرة، والنتائج التي تفرزها هذه الأمراض كثيرة أيضا، ولكني والله أيها الإخوة ما وجدت بين هذه الأمراض أخطر من هذا المرض الذي أحدثكم عنه. تحول حال كثير من المسلمين عن الرقابة لأنفسهم وعن تتبع أحوالهم في الخفاء وفيما بينهم وبين الله عز وجل إلى تتبع حال الآخرين، يا هذا ألم تقرأ قول الله عز وجل: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ(؟ فيم تنسى نفسك وقد أمرك الله بمراقبتها وتتتبع حال غيرك. لا لكي تأمر بالمعروف إن غاب عنك، ولا لكي تنهى عن منكرٍ إن وجدته ماثلا ًأمامك لا، بل لكي تنعت الناس بما يحلو لك، ولكي تغمض العين وتدخل بخيالك إلى سرائرهم وإلى بواطنهم، فتصنف هؤلاء بالكافرين وهؤلاء في المنافقين وهؤلاء في التائهين وهؤلاء في كيت وكيت وكيت وأنت أين مكانك بين هؤلاء الذين تصنفهم؟ لا هو لا يعود إلى نفسه بأي نظرة بشكل من الأشكال. هذا أخطر مرض يعاني منه المسلمون اليوم.

ولقد تأملت في تعامل رب العالمين مع عباده وهي سنة من أعظم سنن الله سبحانه وتعالى في تعامله مع عباده، فرأيت ما تذهل له السرائر، رأيت ما تذوب له المشاعر، ماذا كيف يعامل الله عز وجل عباده المسلمين كيف يعاملهم؟ إذا رأى الله عز وجل من عبد عملاً صالحاً نشره وكبره ونماه وجعل منه صوتاً يجلجل بين أسماع الناس حتى يلتفت الناس من هذا الرجل إلى ذلك العمل الصالح، وإذا ابتلي هذا الإنسان بعمل سيء، بانحراف عن جادة الإستقامة أبقى الله ذلك سراً بينه وبينه، ذلك لأن الله عز وجل ستير يحب الستر، تلك هي عادة رب العالمين في معاملته مع عباده أيها الإخوة.

أنا أعلم هذا من نفسي وليعلم كل منكم هذه العادة التي يعامل بها رب العالمين عباده من نفسه، ما من إنسانٍ يقدم عملاً صالحاً يُرضي الله عز وجل مهما كان هذا العمل بسيطا إلا نشره الله عز وجل بين الناس وجعل منه طيباً ينتشر فوحه بين الناس جميعاً، فإذا زلت بهذا الإنسان القدم وارتكب محظوراً أخفاه الله عز وجل وأبقاه بينه وبينه إلى أن يقوم الناس لرب العالمين، فإذا قام الناس إلى رب العالمين أوقفه بين يديه كما ورد في الحديث الصحيح وأسبل عليه ستراً من كنفه. قال له: أتذكر المعصية التي ارتكبتها يوم كذا وكذا؟ يقول نعم يارب، أتذكر المعصية التي ارتكبتها يوم كيت وكيت ؟ يقول نعم يارب، يقول فلقد سترتها عن الناس آنذاك وها أنا أغفرها لك اليوم .

هذه هي عادة رب العالمين مع عباده، فلماذا نسير في التعامل مع بعضنا على خلاف هذا النهج الذي يتعامل معنا ربنا على أساسه لماذا أيها الإخوة لماذا نتتبع عورات المسلمين؟ لماذا؟ لك عورات وللناس ألسن. اذكر هذا تتبع عورات نفسك.

لماذا تحاول أن تنشر ستراً أصبغه الله سبحانه وتعالى على إخوانك؟

لماذا تسيء الظن؟ ومتى كنت رباً من دون الله عز وجل تدخل إلى سرائر النفوس وإلى كوامن القلوب؟ ومن ذا الذي أعطاك هذه الصلاحية أجل من؟ هذا هو المرض المستشري أيها الإخوة وهو السبب الأول من أسباب كثيرة في التخلف الذي ران على حياة المسلمين اليوم.

شيء آخر سنة أخرى من سنن رب العالمين عز وجل في عباده، ما من إنسانٍ مسلم إلا وبينه وبين الله خيط من عمل صالح قد يطلع عليه الآخرون وقد لا يطلع عليه الآخرون، هذه حقيقة ينبغي أن نعلمها قد أجد إنساناً في مظهره الذي أراه وفي ظاهره الذي لا أرى غيره قد أجده منحرفاً تائهاً عن صراط الله سبحانه وتعالى، ولكني لو تتبعت دخائل نفسه لوجدت له خصلة حميدة يحبها الله سبحانه وتعالى وما أكثر هذه الخصال الحميدة الخفية التي وزعها الله رحمة منه بين عباده فإذا علمت هذه الحقيقة ينبغي أن أتأدب في الحديث عن عباد الله وينبغي أن أمسك لساني عن قالة السوء في حقهم.

فلان من الناس رأيت ظاهره وأنا أعلم أن الله سبحانه وتعالى يبقي خيط من الصلة بينه وبين عباده المسلمين لكي يجعل من هذا الخيط أساساً لأوبة إلى الله، أساساً لرجوعهم إلى الله سبحانه وتعالى. فيم أسيء الأدب مع الله سبحانه وتعالى، هل تعلم أن جارك الذي تتباهى عليه بأنك تصلي ولا يصلي وبأنك تجلس مجالس العلم ولا يحضر وبأنك تتنزه عن المحرمات وهو ينغمس فيها هل تعلم مآلك بعد سنةٍ ومآله؟ هل أنت موقنٌ أن الشيطان لن يتسرب إليك ويضلك بعد هدى ولن يزجك في التيه؟ لأسباب كثيرة أقلها هذا التباهي منك؟ وهل تعلم أن جارك هذا الذي تنتقص وتمد لسانك بقالة السوء عنه غيبةً؟ هل تعلم وهل توقن أنه لن يتوب إلى الله ولن يصبح بعد عام أو أقل أو أكثر واحد من أفضل عباد الله المتنسكين والصالحين؟

إذاً الحكمة من هذه السنة الربانية التي يتعامل الله على أساسها مع عباده أن يعلمنا الأدب مع عباد الله عز وجل، وأن يعلمنا أن نسيء الظن بأنفسنا في الوقت الذي ينبغي أن نحسن الظن فيه بإخواننا، مهما رأيت إنساناً تائهاً بعيداً عن الله عز وجل شارداً عن صراط الاستقامة ينبغي أن تقول لعلم يوماً ندركه يصبح من الربانيين؟ ثم انظر إلى نفسك وكن خائف على نفسك من شيطانك، وافترض أنه ربما جاء يومٌ تزل بك القدم وتصبح من أسوء عباد الله المنحرفين، أجل ورحم الله من قال: معصيةٌ أورثت ذلاً وانكسارا خيرٌ من طاعة أورثت عزاً واستكبارا .

أيها الإخوة ضعوا نصب أعينكم هذه الكلمات التي أوصاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سُئل من قبل أخ من إخواننا واحدٍ من أصحابه ما النجاة كيف السبيل إلى النجاة غداً؟ قال: "أمسك عليك لسانك" احفظوها "وليسعك بيتك وابك على خطيئتك" لا تبك على خطيئة الآخرين لا تزرف دموعاً كاذبةً على أخطائهم لو كنت حقيقةً تغار على حرمات الله لبكيت على خطيئتك، وكل منا أيها الإخوة إذا عاد ينظر إلى نفسه رآها أسوء إنسانٍ يسير على وجه الأرض، أجل وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن نحسن الظن بإخواننا بسائر عباد الله عز وجل من حيث نعود إلى أنفسنا لنصلحها من حيث نعود إلى أنفسنا لنقوم اعوجاجها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي