مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/05/2000

الكفران .. ظاهرة قديمة متجددة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

ظاهرةٌ تتكرر أمامي أحسب أن من الخير أن نقف عندها، ولعل من الخير أن نأخذ منها العبرة وأن نأخذ منها العظة وأن نجعل منها سبيلاً لمزيد من القرب إلى الله سبحانه وتعالى، وسبيلاً لمزيدٍ من معرفة حقيقة هذه الدنيا وكيفية التعامل معها.

ما رأيت إنساناً مسلماً من ذوي الدخل المحدود في هذه البلدة فسألته عن حاله وظروفه الاقتصادية التي يمر بها، إلا وبادر إلى حمد الله عز وجل وشكره، وتحدث عن النعم المتلاحقة التي يكرمه الله سبحانه وتعالى بها، وأنظر إليه وإذا هو يتحدث عن ذلك كله بشعور فيّاض وبنشوة وطرب وإيمان، وكثيراً ما أنظر إلى داره التي هو فيها فأرى أن كل شيء في داره يشكو الفاقة ويشكو القلة، ومع ذلك فلسان مثل هذا الإنسان يسرع إلى شكر الله ويبادر إلى حمده والحديث عن النعم التي أغدقها الله عز وجل عليه.

فإذا صادف أن رأيت رجلاً من هؤلاء الأثرياء الذين أكرمهم الله سبحانه وتعالى بالملايين أو ربما بمئات الملايين وسألته عن حاله بدء يزفر، وأخذ يشكو أخذ يشكو فقد السيولة أخذ يشكو تراجع الوضع الإقتصادي أخذ يشكو خطورة الأمر، وأنظر إلى داره التي هو فيها فأجدها محشوةً بما يدل على النعم الكثيرة التي أغدقها الله سبحانه وتعالى عليه، بل أنظر إلى زوايا داره فأجدها محشوة بمظاهر الترف ومظاهر البزخ والزينة، ومع ذلك فأتأمل وإذا بالرجل محجوبٌ عن شكر الله سبحانه وتعالى محجوب عن حمد الله عز وجل بما يشكو من الفاقة من جمود الحالة الإقتصادية من فقد السيولة إلى آخر ما هنالك.

أتعجب أيها الإخوة من هذه المفارقة، ذاك صاحب الدخل المحدود يتقلب في شعورٍ راضٍ من نعم الله سبحانه وتعالى وآلائه ولا يحس ولا يشعرك بأي نقص يشكو منه، وهذا الذي جعله الله غريق نعمه غريق آلاءه وإكرامه يشكو الفاقة، يشكو سوء الوضع الإقتصادي يشكو فقد السيولة.

علام تدل هذه الظاهرة أيها الإخوة؟

أولاً: هذه الظاهرة تذكرنا بكلام الصادق المصدوق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: "لو كان لابن آدم واد من مال لطلب إليه ثانياً ولو كان له واديان لطلب إليه ثالثاً ولا يملئ جوف ابن آدم إلا التراب"، إذا ذاق الإنسان لذة الدنيا واستمرأ العكوف على ما هو فيه من السعي إليها واستمرء العيش في جنبات اللذائذ والمتع، نسي الله ومن ثمّ نسي النعم التي تتوارد وتتكاثر عليه، وتذكر مزيداً من احتياجاته تذكر مزيداً من طلباته، النعم التي يكرمه الله سبحانه وتعالى بها يلقيها وراءه ظهرياً، أما طموحاته أما آماله التي لم تتحقق له بعد فهي الموضوعة نصب عينيه، يذكر مالم يأتي بعد وينسى ما قد أكرمه الله سبحانه وتعالى به، وهذا هو الكفران أيها الإخوة.

أنا لا أنكر أن الوضع الاقتصادي ربما يتفاوت تقدماً وتأخراً، وأنا لا أنكر ما يقوله أصحاب هذا الشأن وما يتحدثون عنه من مشكلات اقتصادية تتمثل في كذا وكذا وكذا وأنا لا أنكر أن لذلك كله أسبابه المادية المعروفة، ولكن فلنعلم أيها الإخوة أن هذه الأسباب المادية على كثرتها وتنوعها خدمٌ لسبب واحد، ألا وهو سنة رب العالمين في عباده سنن الله سبحانه وتعالى في عباده واضحة بينة نقرأها في كتاب الله سبحانه وتعالى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ". هذه واحدة من سنن الله سبحانه وتعالى.

"ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا" لا يكفي الإيمان وحده لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء تهمي إلى الأرض ولفتحنا عليهم بركات من الأرض تتفجر على ظاهرها، وَلَٰكِن كَذَّبُوا لعل هؤلاء يقولون ما كذبنا أجل ما كذبنا ولله الحمد، ولكن الإيمان الذي لا يتوج بالتقوى ما ينبغي أن يطالب العبد ربه أي أجر عليه، يقول الله عز وجل: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا".

هنالك أسباب كثيرة يعددها أصحاب الأموال ويتحدثون عنها بأسى وألم وأنا لا أنكرها، ولكني أذكر بأن هذه الأسباب هي خدمٌ لقضاء الله وحكمه هي خدم لسنة رب العالمين سبحانه وتعالى، قلت وأقول: كم من هؤلاء الناس يتلون كتاب الله سبحانه وتعالى بل يجعلون لأنفسهم ورداً دائماً ولو قل في كل يوم من تلاوة كتاب الله عز وجل؟ كم من هؤلاء الغارقين في نعم الله الذين يصفقون في الأسواق من الصباح إلى المساء فإذا جاء الليل أنفذوا الليل في سهراتهم وفي حديثهم عن الاقتصاد وما إلى ذلك أو حفلاتهم أو في أطعمتهم وبذخهم؟ كم من هؤلاء الناس من يقف أمام قول الله عز وجل " وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا "؟ كثيرون هم الذين يلتبس عليهم حديث قاله رسول الله بآية موجودة في كتاب الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فألسنتهم تتحرك بالشكوى والعتب على الله دون أن يستشعر الواحد منهم موقفه من الحقوق التي أمر الله سبحانه وتعالى بها.

ربنا عز وجل يقول: "وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا" جعل الله سبحانه وتعالى الفقير مادة امتحان للغني، وجعل من الغني ابتلاءً ومادة امتحان للفقير، ثم إن الله عز وجل يطالب الفقير بالصبر والتعفف ويطالب الغني بالإعطاء، كم من هؤلاء الأغنياء الموسرين الذين يشكون العدم الاقتصادي ويشكون فقد السيولة كم من هؤلاء يعودون إلى هؤلاء الفقراء بشيء مما يحتاجون إليه؟

كم من هؤلاء الناس من نظر إلى التحف القائمة في زوايا داره فتأمل فيها وعلم أن تحفة واحدة منها يستطيع أن يزوج بها فقيراً بل عدداً من الفقراء الذين يتعففون صابرين على لأواء الغريزة وشدتها وحرها؟

كم من هؤلاء من يفكر في هذا ثم يخجل من الله عز وجل وينفق هذه الزوائد لا الأساسيات من ماله ليبحث عن هؤلاء الفقراء الذين جعلهم الله عز وجل منهم مادة امتحانية له؟

الوضع الاقتصادي حرج والحالة المادية متراجعة والسيولة مفقودة أجل، وأنظر في كل مساء إلى المطاعم ذات الأنجم العالية ذات الدرجة الأولى فإذا بها تزدحم بروادها، لن تجد مكاناً فيها إلا إذا حجزت قبل فترةٍ من الزمن. وأمر بالفنادق الفخمة الضخمة وإذا هي تغلي وتفور بروادها، لا من الغرباء. ولكن من هؤلاء الأغنياء الذين يشكون العدم ويشكون القلة، ورب العالمين ينظر، وإلهنا جل جلاله يسجل، أجل.

لو أن هؤلاء الناس آمنوا واتقوا كما قال الله سبحانه وتعالى توجوا إيمانهم بالتقوى، وعلموا أن الإنسان لا يملك شيئاً وإنما استخلف على المال الذي وضعه الله عز وجل بين يديه فساس المال على النهج الذي شرع الله سبحانه وتعالى، إذاً والله لارتفعت هذه الضائقة - وأنا أعلم أنه ربما كانت هناك ضائقة - إذاً لتنامت السيولة وإذاً لأكرمنا الله سبحانه وتعالى بمزيدٍ من الخير وبمزيدٍ من النعم ولأكرمنا الله سبحانه وتعالى بهذين المعينين سماءه وأرضه.

ولكن أعود فأقول كم من هؤلاء الأغنياء الموسرين يقبلون إلى كتاب الله ليقرأوه وليتدارسوه، قلة إلا من رحم ربي، وكم قلت وأقول سقى الله عهداً في هذه البلدة كان كبار تجارها يمارسون التجارة في الصباح إلى المساء فإذا أقبل المساء تحولوا إلى طلاب علم، تأبط كلٌ منهم كتابه وبحث عن حلقةٍ من حلقات العلم يدرس كتاب الله شرع الله يدرس التفسير أو الحديث أو الفقه، فإذا أصبح الصباح خرج كلٌ منهم ليصلي الفجر جماعة، ثم إنه ينتقلُ من درسٍ إلى درس إلى درسٍ إلى الضحى ويعود إلى داره يجلس مع أهله، فإذا جاء وقت الضحى وإذا امتد النهار خرج بعد ذلك بالعاشرة صباحاً بعد ذلك إلى عمله، كان الغنى آنذاك أكثر وفرة منه الآن، وكان الواحد منهم ربما أغنى من أغنى الأغنياء في هذه البلدة في هذا العصر، وكان الله سبحانه وتعالى يكرمهم بالمزيد من العطاء لأنهم كانوا يعرفون حق الله سبحانه وتعالى عليهم.

أيها الإخوة كلما قلت كلمةً في هذا المعنى وذكرت بهذا التقصير الذي حاق بكثيرٍ منا في هذه البلدة، ذكرني بعض هؤلاء الناس بالتائهين في جنبات الأرض البعيدين عن الله كلياً، ويقولون ها هم أولاء يتقلبون في نعم لا تحصى، وها هم أولاء لا تتهاوى عليهم سياط التأديب الرباني، قلت وأقول وليت أن الآذان تصغي وليت أن القلوب تتيقظ: يا هؤلاء الناس اقرأوا كتاب الله وتأملوا سننه في عباده عندئذٍ تعرفون الجواب على هذا السؤال، سؤالكم هذا دليل من الأدلة على بعدكم عن كتاب الله سبحانه وتعالى. ربنا سبحانه وتعالى أعلن عن النهج الذي يأخذ به أولئك المجرمين التائهين الذين انقطعت بينهم وبين الله سبحانه وتعالى أوهى خيوط الاتصال وأعلن عن معاملته للمسلمين الذين يتيهون عن الدرب ويضلون عن صراط الله سبحانه وتعالى. يقول الله عز وجل: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ".

ولكن أين الذين يتلون كتاب الله؟

أين الذين يتدبرون كلام الله عز وجل إذا كان فيهم - وأنا أعني ما أقول - من لا يفرق بين حديثٍ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيةٍ في كتاب الله عز وجل، ومع ذلك يرمق بطرفه إلى السماء يعتب على الله ويسأله لماذا الضائقة الاقتصادية لماذا جمود السيولة؟

عودوا إلى أنفسكم واعلموا أن الله سبحانه وتعالى يكرم عباده ويغفر الكثير والكثير من الأخطاء، لكن لابد أن يأخذهم بعصي التأديب، وأسأل الله عز وجل أن لا يجعلنا من أولئك الذين انبتت آخر الخيوط الواهية بينهم وبين الله سبحانه وتعالى عندئذٍ ولا سمح الله سنكون ممن قال الله عز وجل وعنهم: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ".

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي