مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 17/03/2000

‏لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر‏‏

‏لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر‏‏


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 17/03/2000


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد، فيا عباد الله‏:‏


أما بعد‏،‏ فيا عباد الله‏!‏ يقول الله عز وجل في آية جامعة من كتابه العزيز‏:‏


‏﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾‏ ‏‏‏‏‏[‏‏البقرة‏: ‏‏29‏‏]‏‏‏‏‏ تدل هذه الآية بمعناها الواسع الجامع‏؛‏ على أن الله سبحانه وتعالى ما خلق شيئاً مما نراه في ظاهر الأرض‏،‏ أو ما هو مكنون في باطنها‏،‏ أو مما يتنـزل من السماوات العلى إلا وقد خلق لمصلحة الإنسان‏،‏‏‏ واللام في قوله تعالى‏:‏ ﴿‏لَكُمْ﴾‏‏ ‏ للدلالة على هذا المعنى‏،‏ كل شيء مما ترونه أو مما لا ترونه مما خلقه الله عز وجل‏؛‏ إنما خلق لمصلحة الإنسان‏.‏ ومعنى هذا أنه لا يوجد في مخلوقات الله سبحانه وتعالى ما هو فاسد غير صالح‏،‏ ولكن الإنسان إما أن يستعمل هذا الذي خلقه الله سبحانه وتعالى من الوجهة الصالحة والمصلحة‏،‏ فيكون هو الإنسان الذي يعمل الصالحات‏،‏ أو الإنسان المصلح‏.‏ وإما أن يستعمل هذا الإنسان الذي خلقه الله عز وجل من وجهة المفسد الذي لم يأذن به الله عز وجل‏،‏ فيكون الإنسان بتصرفه هذا هو الفاسد والمفسد‏.‏


الأموال التي خلقها الله سبحانه وتعالى أياً كانت أنواعها، مادة من أهم المواد التي خلقها الله عز وجل لصالح الإنسان‏،‏ ولكن الإنسان إما أن يستعمل هذه الأموال كما شرع الله‏،‏ وإذا هي سلم من مصالح الناس أفراد أو جماعات‏،‏ وإما أن يستعمل المال من الجوانب التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها‏،‏ يجعل من المال مادة للميسر‏،‏ يجعل من المال مادة للربا والمراباة‏،‏ يجعل من المال أساساً للغش والخديعة‏،‏ لم يأت الفساد من المال‏،‏ وإنما جاء هذا الفساد من التصرف الأرعن‏.‏


الأطعمة التي خلقها الله سبحانه وتعالى‏،‏ كل ذلك مفيد‏،‏ وكل ذلك لمصلحة الإنسان‏،‏ ولكن الإنسان الصالح الذي وعى مهمته ووظيفته في هذه الحياة الدنيا وعلم أنه مملوك عبد لله عز وجل‏،‏ يتجه إلى هذه الأطعمة إلى ما يفيده ويبعدها عما قد يضره‏،‏ وإذا هو من المصلحين والصالحين في هذه الحياة الدنيا‏.‏.‏ وإما أن يتوجه إلى الجوانب التي حذر منها الله سبحانه وتعالى‏،‏ وإذا هو من المفسدين والفاسدين في هذه الحياة الدنيا‏.‏ كل الأعناب والثمار المتنوعة المختلفة خلقها الله عز وجل لمصلحة الإنسان ولفائدته‏،‏ ولكنّ في الناس من أبوا إلا أن يعتصروا من الأعناب سكراً‏.‏ من الناس من أبوا إلا أن يوجهوا كثيراً من هذه الأطعمة إلى ما يفسد ولا يصلح‏،‏ إلى ما يسيء بدلاً من أن يمتع الناس بالعافية والصحة‏.‏


إذن فالإنسان هو الذي يفسد ما قد أصلحه الله سبحانه وتعالى ولا يوجد في مخلوقات الله عز وجل إلا ما هو قد خلقه الله وهيأه لمصلحة الإنسان وهذا هو معنى قوله عز وجل‏:‏ ‏‏﴿‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً‏﴾‏ ‏ لكم ولا يكون هذا الشيء مخلوقاً لنا إلا إذا كان صالحاً‏.‏ إلا إذا كان صالحاً للفرد صالحاً للمجتمع‏.‏ المخترعات الحديثة‏،‏ المعادن المبثوثة في باطن الأرض أو المتفجرة على ظاهرها‏،‏ كل ما كان مجهولاً فعرفه الإنسان اليوم‏،‏ كل ذلك مخلوق أبدعه الله عز وجل وهيأه لخدمة الإنسان‏.‏


العلم أيها الإخوة لا يُوجد شيئاً معدوماً ـ كما قلت مراراً ـ وإنما العلم يكتشف الذخر الذي أوجده الله سبحانه وتعالي‏،‏ وعلى العلماء الذين اكتشفوا أن يوجهوا هذا الذي اكتشفوه للمصالح التي خلق الله سبحانه وتعالى هذه الأمور المكتشفة من أجلها‏.‏ وهذا هو معنى الحديث الصحيح الذي يقول فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏‏:‏


‏﴿لاتسبوا الدهر فإن الله هو الدهر‏‏﴾‏‏ أي لا يسبن أحد شيئاً يراه في هذه الحياة غير صالح فيمضي يسب الحياة أو يسب الدهر‏،‏ لا‏،‏ لا تظلم الحقيقة‏،‏ الله عز وجل هو الذي خلق هذه البنيان الكوني في كل ما فيه‏،‏ فإذا نظرت إلى هذا البنيان في جملته وتفصيله لن تجد فيه إلا ما هو خير‏،‏ ولن تجد فيه إلا ما هو صالح للإنسان‏،‏ ويدور سعياً على خدمة الإنسان‏،‏ ولكن الإنسان من شأنه أن يفسد‏،‏ الإنسان إذا لم يمارس عبوديته لله عز وجل‏،‏ لم يعلم وظيفته في هذه الحياة الدنيا‏.‏ من شأنه أن يفسد‏،‏ ومن ثم يعمد إلى ما هو صالح مما خلقه الله وأبدعه‏،‏ يوجهه ويدفعه إلى السوء‏،‏ إلى الفساد والإفساد‏،‏ يقول الله عز وجل‏:‏


﴿‏وَأَنْزَلْنا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾‏‏ ‏[‏الحديد‏: ‏25‏]‏ ولكن الإنسان الذي يتجه إلى هذا الذي أكرم الله الإنسان به‏،‏ إما أن يكون صالحاً مصلحاً‏،‏ وهو العبد الذي عرف وظيفته في هذه الحياة الدنيا‏،‏ وإما أن يكون فاسداً مفسداً‏،‏ وهو الذي سار وراء مقتضيات رعونته في هذه الحياة الدنيا‏.‏ أما هذا الذي خلقه الله عز وجل فهو مخلوق لمصلحة الإنسان‏.‏ أجل ‏‏﴿وَأَنْزَلْنا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾‏‏ هذه المخترعات الحديثة، شبكة الاتصالات هذه‏،‏ والمعلومات أو المعلوماتية ـ كما يقولون ـ ليس في شيء من ذلك ما يسمى فاسداً أو مفسداً‏،‏ بل الإنسان لم يوجد شيئاً من ذلك اليوم‏،‏ وإنما اكتشف ما كان موجوداً بخلق من الله وتدبير‏،‏ عندما خلق هذا الكون‏.‏ والإنسان بعد أن وُضعت بين يديه هذه الأمانة إما أن يقف أمام مرآة هويته فيعلم أنه عبد لله عز وجل ويتذكر قول الله سبحانه‏:‏ ﴿‏هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها﴾‏‏ ‏[‏هود‏:‏\61‏‏]‏ ‏ تذكر أن وظيفته التي أقامه الله فوق هذه الأرض للاستعانة مع إخوانه أن يعمر هذا الكوكب الأرضي العِمران المنبئ عن وحدانية الله‏،‏‏ العِمران المنبئ عن صفات الله عز وجل‏،‏ وبهذا ينجز الخلافة التي أقام الله سبحانه وتعالى الإنسان فوق هذه الأرض‏،‏ يتجه إلى هذه الشبكة ليجعلها خادماً لسلطان الله‏،‏ ليجعلها خادماً لأوامر الله عز وجل‏،‏ ليجعلها لساناً ناطقاً بتسبيح الله سبحانه وتعالى وصفات الله عز وجل‏،‏ ليجعلها جنداً في طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى‏،‏ يقول ربنا عز وجل‏:‏ ‏‏﴿‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾‏‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ ‏44‏]‏ كل شيء يسبح بحمد الله‏،‏ كل شيء‏،‏ أي كل شيء مفيد‏،‏ وكل شيء خاضع لسلطان الله‏،‏ منبئ عن وحدانية الله‏،‏ متحدث بلغته عن صفات الله سبحانه وتعالى وحكمته ووحدانيته‏،‏ والمطلوب منك أن تعي لغة هذا الشيء في تعاملك معه‏.‏


نحن اليوم أيها الإخوة نشاهد الدنيا وهي تفوز بما نظنه كان معدوماً بالأمس ووجد اليوم‏،‏ ولعل في هذا ما يفتن عقول بعض السذج من الناس‏.‏ فلتعلموا أنه ليس في هذا الكون شيء كان معدوماً ثم وجد، ومَن تصور ذلك فهو جاهل بالعلوم كلها‏،‏ كل ما تبينه الإنسان اليوم مما لم يكن يعرفه بالأمس كان موجوداً‏،‏ ولكنه كان محجوباً عنه‏،‏ فهذه حقيقة أولى ينبغي أن نعرفها‏.‏


الأمر الثاني هو أنّ علينا أن نسابق أصحاب الرعونات في هذه الحياة الدنيا‏،‏ وأن نقطع عليهم الطريق إلى هذه الأمور التي أنعم الله عز جل على الإنسانية بها‏،‏ إلى هذا الذي أجمله الله عز وجل بقوله‏:‏ ﴿‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً‏﴾‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ ينبغي أن نغلق الطريق على أصحاب الرعونات‏،‏ فنستبق إلى هذه النعم التي تفجرت من باطن الأرض‏،‏ أو ظهرت على وجهها، أو تنـزلت من علياء السماء‏،‏ أو لاحت لنا بعد أن كانت خفية‏.‏ ينبغي أن نستبق إليها فنجعل منها جنداً لأداء المهام التي كلفنا الله سبحانه وتعالى بها‏،‏ أجل هذه الأقنية الفضائية المختلفة‏،‏ كم وكم سمعت من يتكلم ويقول‏،‏ ويُظهر التأفف منها‏،‏ وليت أن هذا التأفف الذي يتجلى في أفواه وحلوق كثير من الناس، ليت أنه ترجم سلوكاً‏،‏ ليت أنه ترجم عملاً‏،‏ ليت أن هؤلاء المتأففين أدركوا معنى قول الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏‏‏الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً‏﴾‏ ‏ لماذا تتأفف‏؟‏ لماذا تسب الدهر‏؟‏ وقد قال لك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ﴿‏لاتسبوا الدهر فالله هو الدهر﴾‏‏ هذه الأقنية جند‏،‏ هيأها الله سبحانه وتعالى لعباده المسلمين‏،‏ والمصيبة لا تكمن فيها‏،‏ وإنما تكمن في كسل هؤلاء المسلمين وخمولهم‏،‏ المصيبة تكمن في أن هؤلاء المسلمين يتقلبون في نوم ولا كنوم أصحاب الكهف‏،‏ في حين أن أصحاب الرعونات سابقوهم فسبقوهم إلى هذه المفاتيح التي ألقاها الله سبحانه وتعالى بين أيدينا لتستخدم في الخير‏.‏


أنظر إلى فجاج الحياة الدنيا كلها لن تجد في الدنيا فساداً لا وجه لصلاحٍ فيه أبداً،‏ حتى السم الناقع الذي يضرب به المثل‏؛‏ خلقه الله لمصلحة الإنسان‏،‏ السم إذا تمدد أو مُدّد دواء وأي دواء، المواد المخدرة خلقها الله عز وجل لمصلحة الإنسان ليرعى من خلالها مصلحته طبق قانون، طبق نظام، طبق ضوابط. ولكن الإنسان برعوناته ينكس نظام الله سبحانه وتعالى، يحوّل ما هيئ لمصلحة الإنسان إلى ما يأتي بالفساد والشر للإنسان، والمصدر في ذلك رعونة الإنسان عندما يصبح المسلمون في هذا العصر صادقين مع الله مخلصين في دينهم لله، لابد أن يتضامنوا ويتحدوا فتلك هي الخطوة الأولى، وإذا تضامنوا واتحدوا لابد أن يفجر الله سبحانه وتعالى في كياناتهم القوة التي كانت مضرب مثل للعالم كله أمس. وإذا تفجرت في حياتهم هذه القوة فإن الله يوفقهم أن يستعملوا قوتهم هذه بعد تضامنهم واتحادهم في إخضاع كل مخترع، في إخضاع كل بديع مما لم نكن نعرفه، وعرفناه اليوم، ليكون جنداً على طريق الانتصار لدين الله سبحانه وتعالى. فأما إن كان المسلمون باقين على هذا النحو نائمين فوق أسرّة كسلهم، يتقلبون يميناً وشمالاً، لا يعرفون إلا مزيداً من التفكك والخصام، لا يعرفون إلا مزيداً من الشقاق والرعونات بدافع من العصبيات والأهواء، فلسوف يزدادون بعد ضعفهم ضعفاً‏،‏ ولسوف تكون هذه النعم وهذه المخترعات والمكتشفات القديمة في وجودها الحديثة في ظهورها‏،‏ لسوف يكون ذلك كله أداة بيد السابقين، أداة بيد أولئك النشيطين‏.‏


أقول قولي هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بالتوفيق الذي يرضيه فاستغفروه يغفر لكم‏.‏


 

تحميل



تشغيل

صوتي